يسجل التاريخ المعاصر لمدينة بنغازي "شرق ليبيا" انها كانت في القرنين العشرين، والواحد والعشرين، منطلقا لحركات تمرد عسكرية ومدنية على سلطة الملك ادريس السنوسي، ومن بعده على سلطة نظام العقيد الراحل معمر القذافي الثوري، أيضا . حيث حاول في نوفمبر 1961 اللواء السنوسي اللّطيوش قائد الجيش الليبي آنذاك قيادة انقلاب عسكري ضد نظام ((المملكة الليبية المتحدة)) كرد فعل على تفضيل الملك للضباط المتخرجين من الكليات العسكرية حملة المؤهلات، وذلك بايحاء من الضابط عبد العزيز الشلحي المقرب من ادريس السنوسي باعتباره احد انجال ناظر الخاصة الملكية "ابراهيم الشلحي" ذراع ادريس السنوسي اليمين، والذي اغتاله الشريف محي الدين السنوسي احد افراد العائلة السنوسيةعام 1954  ، عقابا له على اقصاء السنوسيين عن الملك .. وما كان يقوم به من وشايات أوغلت صدر الملك ضد ابناء عائلته،  خصوصا من سلالة السيد أحمد الشريف .

غير أن ذلك الانقلاب احبط في مهده بسبب دهاء رئيس الحكومة الاتحادية محمد عثمان الصيد في ذلك الوقت الذي طلب من محمود ابو قويطين قائد "القوات المتحركة" الخاصة لحماية النظام، وزوج احدى بنات ابراهيم الشلحي، محاصرة قيادة الاركان ومنع اي تحرك يشتبه في انه مثير للشك، والاخلال بالنظام، وعندما استفسر الملك من رئيس حكومته عن موضوع الانقلاب الذي يدبرله اللّطيوش ووجوب صدور مرسوم ملكي باقالته،  أوحى "الصيد" الى الملك بأن ينقل من الجيش الى السلك الدبلوماسي وتعيينه في وزارة الخارجية بدلا من القاء القبض عليه ومحاكمته تمهيدا لاعدامه باعتباره ضابطا في الجيش منذ تشكيل الجيش الشنوسي بمساعدة البريطانيين غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية، ثم حاول ان يهدئ من غضب اللّطيوش حيال محاصرة القوة المتحركة لرئاسة الاركان أولا .. وبعدها اقناعه بأن الملك يعتبره ابنه .. وأنه جرّبه في الخدمة العسكرية وهو يريده في منصب مدني جديد   . 

واحبط ذلك الانقلاب في مهده رغم اتفاق جميع ضباط "الشرف" من الجيش الليبي الذين انضموا للجيش السنوسي، على تقويض النظام الملكي ((حتى لا تكون ليبيا مرتعا او عزبة لاولاد ابراهيم الشلحي واصهارهم والموالين لهم )) حسبما ورد في مذكرات محمد عثمان الصيد رئيس الحكومة الليبية السابق .. نقلا عن السنوسي اللّطيوش في لحظة من لحظات غضبة . 

وبعد ذلك الانقلاب بأقل من ثلاثة أعوام ، وتحديدا في 13 و 14 يناير 1964 ، وإثر تفاقم الاوضاع بين طلاب الجامعة الليبية في بنغازي المؤازرين من طلاب الثانويات وغيرها من مراحل التعليم، المحتجين على المشاركة الليبية المحتشمة في اول مؤتمر قمة عربي بالاسكندرية وبين القوة المتحركة التي استعملت الرصاص الحيّ لاخماد الاحتجاجات الطلابية ما ادى لسقوط عدد من القتلى في صفوف الطلبة المحتجين .. وتحول تاريخ 13 و 14 يناير من كل عام بعد 1964 تاريخا لارتفاع وثيرة الاحتجاجات الطلابية في بنغازي، وفي غيرها من المدن الليبية وانضمت لتلك المظاهرات والاحتجاجات القوى العمالية والناشطون من الأحزاب السرية المحظورة منذ 1954 في البلاد ما عجّل بانهيار النظام الملكي .

ففي الأول من ايلول/سبتمبر 1969 تحرّك صغار ضباط الجيش الليبي، وبينهم النقيب في ذّلك الوقت، خليفة حفتر، بقيادة "الملازم" معمر القذافي،الذي اذاع بيانه الأول من اذاعة بنغازي، في انقلاب عسكري انهى الملكية واقام على انقاضها النظام الجمهوري، الذي استمر لاكثر من اربعة عقود كانت مليئة بالمعارك والصراعات التي خاضها القذافي ضد الغرب والشرق ، وأيضا، ضد المناوئين له في الداخل، وبالذات في بنغازي التي لم يكن الأهالي بها قابلين لمحاولات التطويع .

فقد كانت اولى المحاولات لتقويض نظام القذاقي في عام 1970 من بنغازي، وعلى ايدي ضباط ممن شاركوا معه في الانقلاب على الملكية وابرزهم آدم الحواز   وزير الدفاع، وموسى أحمد وزير الداخلية في أول حكومة شكلت غداة اسقاط الملكية .

ولم تتوقف محاولات الخروج على طاعة القذافي ونظامه في بنغازي، اذ في فيراير 1972 خرجت مظاهرات معادية لنظام القذافي منطلقة من حجة تورّط  نظام الرئيس المصري انور السادات في اسقاط الطائرة المدنية الليبية على ايدي الاسرائيليين في صحراء سيناء بتاريخ 21 شباط /فبراير 1972 . والقي القبض على عدد من المتظاهرين الذين هتفوا يسقوط النظامين المصري والقذافي فاودع الكثير منهم في السجون وارغم البعض منهم على التجنيد في القوات المسلحة ليخوضوا اصعب مراحل التدريب و((التدريب الاضافي)) الاقرب الى التعذيب !!

كما أن بنغازي لم تكن سهلة الانقياد للخطوات التي اتخذها القذافي في التحولات من الرأسمالية الى ((النظام الشمولي)) المنسجم مع افكاره في ما أسماه بـ ((النظرية الجماهيرية)) بالغاء الملكية الفردية والشركات الخاصة، والقضاء على القطاع الخاص واعتبار ((التجارة ظاهرة استغلالية)) وتأميم المساكن والبنايات لتطبيق مقولة ((البيت لساكنه)) .. والتي سبقها القاء القبض على عدد من المثقفين اليساريين وغيرهم فيما سمي بالثورة الثقافية عام 1973 وفي حملة السابع من نيسان/ابريل 1976 بالجامعات الليبية وببتغازي ايضا لتصفية المناوئين لسياسات وبرامج القذافي . والأخطر من ذلك عدم استساغة أهالي بنغازي لـ ((حركة اللجان الثورية)) التي أرادها القذافي الذراع البديلة للنظام السياسي في نشر افكاره وتنفيذ ما يأمر به من تحولات .. وأدت كراهية تلك الحركة الى اغتيال بعض عناصرها، واشهر من اغتيل منهم كان "أحمد مصباح الورفلي" الذي وصلت درجة الانتقام من اللجان الثورية الى قتله والقاء اجزاء جثمانه المقطّع اربابا اربا في برميل القمامة .

ولم تتوقف حالات العصيان في بنغازي عند ذلك، بل شملت مناح أخرى .. ومنها  التنظيمات الاسلامية المتشددة وذات الارتباط بالاخوان المسلمين وبالوهابية وكذلك المرتبطة بتنظيم القاعدة وما سمي بالافغان العرب الذين عادوا الى ليبيا في مطلع التسعينيات من القرن العشرين وبدأوا في الانتشار في المساجد والعمل على استقطاب الشباب لضمهم الى الافغان العرب ، وكانوا يغرون الكثير من العاطلين ببعض الدولارات التي يحصلون عليها من بعض المخابرات الاجنبية .. وتزايد عدد المستقطبين وضع اجهزة الامن التابعة لنظام القذافي في مواجهات معهم .. منها القاء القبض على البغض، ومحاولة استتابة البعض .. لكن من استعصى على الامن الوصول اليهم التجأوا الى المناطق الجبلية في المرج والبيضاء ما ادى الى قصفهم بالطيران في عمليات تدريبية سميت بـ ((مناورة الجبل)) .

اعقبتها مداهمات اقتيد فيها عدد من المنتمين الى التنظيمات المتشددة الى سجن "ابوسليم" وبعد ما يقرب من السنتين تمرد أولئك السجناء الذين أكثرهم من المناطق الشرقية، على سجانيهم بحجة سوء المعاملة وافتكوا من السجانين بنادقهم، وفر البعض منهم فيما حوصر آخرين وقتل عدد منهم فيما عرف بمجزرة "أبو سليم".    

واستغل المتسددون، الذين كانوا منظمين ولم تصل اليهم القبضة الامنية، نشر الرسوم المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، في الدنمارك ونشر صحف ايطالية لتلك الصور فقاموا في 17 فبراير 2006 بتنظيم مظاهرة، ظاهرها، ضد القنصلية ببنغازي، وباطنها شق عصا الطاعة ضد نظام القذافي، وادت تلك المظاهرة الى مواجهات مع رجال الامن سقط فيها ما يقرب من العشرة قتلى فتحولت تلك الحادثة الى ذكرى سنوية يستخدمها أهالي ضحايا القنصلية الايطالية مدعومين بأهالي ضحايا "بوسليم" وكان يوم 17 فبراير 2011 القشة التي قصمت ظهر نظام القذافي  لاخفاقه في التعامل مع ذلك الحدث الذي قاد الى الحالة الليبية منذ اكثر من ثلاثة أعوام، العصية على المعالجة .

وفي 7 فبراير 2014 تاريخ انتهاء مدة المحددة للمؤتمر الوطني،  دخل على الخط الجنرال خليفة حفتر فاذاع بيانا من احدى المحطات الفضائية غير الليبية انهى فيه صلاحية المؤتمر وعلق اعمال الحكومة المؤقتة .. الا ان ذلك البيان الانقلابي التلفزيوني لم يكن له أي أثر ولو للحظات .

وكان قد تم احالة خليفة حفتر الى التقاعد من الخدمة اثر تسليم المجلس الانتقالي السلطة للمؤتمر المنتخب في 8 اغسطس 2012 بعد ان كان قائدا للعمليات البرية .. في ما سمي بـ ((الربيع الليبي)) الذي انتهى به عهد القذافي بمقتله في 20 اكتوبر 2011 .. ولم ينجح في اقناع المجلس الانتقالي بتعيينه خليفة للواء عبد الفتاح يونس العبيدي الذي اغتيل في ظروف مشوبة بالريبة، وعين بدلا منه اللواء سليمان محمود من نفس قبيلة العبيدات .

وصدر بيان رسمي من المؤتمر يدين ((انقلاب حفتر)) التلفزيوني ويعلن انه اصبح مطلوبا للعدالة .. ولم تتمكن السلطات الهشة من القبض عليه،  فتحول الى المنطقة الشرقية ليبدأ في حشد المؤيدين له، مستندا الى دعم قبلي .. ومجموعة ممن ينادون بأحياء ما يسمى بـ ((اقليم برقة)) وبعضهم مراتب في حرس الحدود الذين احتلوا موانئ النفط الليبي لمدة زادت عن الثمانية أشهر .

ويوم الجمعة الماضي 16 من أيار/مايو الجاري تحرك خليفة حفتر من معسكر تمركزه في منطقة ((الرجمة)) جنوب شرق بنغازي باتجاه معسكر "راف الله السحاتي" بمنطقة الهواري لاخلائه من المتشددين الاسلاميين ، وكذلك التوجه الى  معسكر آخر في منطقة "سيدي قرج" بالقرب من مطار بنينة تسيطر عليه مجموعة اسلامية متشددة أخرى تسمى "انصار الشريعة" فلاقت القوات التي حركها حفتر مقاومة في المنطقتين اجبرتها على التراجع رغم انها كانت مسنودة من الطيران الحربي والعمودي . وسقط في تلك المواجهات اكثر من 60 قتيلا ونحو 175 جريحا .

لكن مجريات الاحداث ما زالت تنيئ على ان صيفا ساخنا ينتظر بنغازي خصوصا بعد المعلومات المتواترة عن التأييد الذي اصبح يجظى به تحرك خليفة حفتر من القبائل والمدن بشرق ليبيا نظرا لان المواطنين هناك ينشدون من يعيد لهم الامن اليومي والاطمئنان على مستقبلهم .. في ماعدا مدينة درنة التي حولها امصار الشريعة الى ((ادارة اسلامية)) .