ستة أيام فقط لا تزال تفصلنا عن الموعد المحدد للانتخابات الرئاسية في ليبيا ، وهو يوم الجمعة القادم الموافق للرابع والعشرين من ديسمبر ، والذي كان من المفترض أن يكون مناسبة للاحتفال بعرس الديمقراطية بالتزامن مع الذكرى السبعين للاستقلال وتأسيس الدولة الوطنية ، لكن يبدو أن المجتمع الدولي الذي تعهد بإدارة المرحلة وتنفيذ بنود خارطة الطريق ، قد أخطأ حساب الحقل مما أدى الى خيبة أمل لحظة الوقوف على حساب البيدر ،

عندما كانت ستيفاني وليامز المستشارة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة المكلف بالملف الليبي تجتمع بعدد من قادة الميلشيات في مصراتة مساء الأربعاء ، وتشيد بمواقفهم الداعمة لخطة السلام التي تشرف عليها ، كان أحد أبرز أمراء في المدينة ، وهو صلاح بلادي ، يعلن أن لا مجال لانتخابات رئاسية ، وأن لا اتفاق يمكن تمريره دون الرجوع الى الثوار ، في إشارة طبعا الى شخصه ومن يشتركون معه في حمل السلاح كضمان لتنفيذ مشروعهم السياسي المناقض تماما لمشروع الدولة

وفي طرابلس ، كانت هناك ميلشيات مسلحة تتحرك على جميع الاتجاهات ، وتقوم بمحاصرة المؤسسات السيادية والحكومية ، بينما سيطرت حالة من الهلع على كبار المسؤولين بمن فيهم رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفّي الذي دعا قوة عسكرية الى الالتحاق بمحيط منزله لحمايته من أية محاولة لاقتحامه

والحقيقة أن تلك المشاهد ليست جديدة ، ولا هي مفاجئة للمراقبين ،  وإنما هي جزء من الواقع الذي يميز طرابلس وعموم منطقة غرب ليبيا منذ أكثر من عشر سنوات ، حيث لا تزال الميلشيات والجماعات المسلحة صاحبة اليد الطولى ، وبيدها الحل والربط ، وهي التي تتحكم في مجريات الأحداث الميدانية ، وتحول دون تنفيذ أي خطة عمل سياسية أو اقتصادية لا تتوافق مع مصالحها ، وقد تصمت بعض الوقت لتوحي للمجتمع الدولي بأنها ملتزمة بالقرارات وحريصة على التوافقات ، لكنها تعود في اللحظة المناسبة لتؤكد للجميع أنها صاحبة القرار النهائي ، وبالتالي ، فإن من يمتلك السيطرة الفعلية على الأرض هو من يحسم الموقف لفائدته

تلك الميلشيات غير ملتزمة بالخضوع لأية مرجعية سيادية عسكرية كانت أو سياسية ،وهي غالبا ما تعتقد أنها الأقدر على تحديد المصالح العليا للوطن ، لذلك خرج صلاح بادي ليقول « نقسم بالله ان عملنا مخلص لله وحده ومن أجل الوطن »، موجها رسائل مشفرة ضد مترشحي مصراتة للرئاسيات ومنها الدبيبة وباشاآغا ومعيتيق بزعم أنهم مستعدون التحالف مع حفتر وعقيلة صالح من أجل الوصول الى السلطة . تلك الميلشيات غير مستعدة للتعامل مع مجريات الأحداث ومساراتها بمنطق السياسة التي لا صداقة دائمة ولا عداء دائم فيها ، وإنما تخضع لحسابات المصالح . هي فقط مع أن يكون لها الموقف الأول والأخير بحسب ما تمليه مفاهيم الفوضى الثورية ، أما مفهوم الدولة فلا مكان له لديها ، وليس مهما أن يتأخر عقودا أخرى

في هذا السياق ، لست أدري كيف كان المجتمع الدولي يتجاهل طبيعة ما يدور على الأرض ، ويعتقد أن ليبيا يمكن أن تشهد تنظيم انتخابات رئاسية حرة ونزيهة وتعددية ، وبمشاركة شخصيات جدلية ، وعاصمتها لا تزال خاضعة لحكم الميلشيات ؟ ومن يستطيع توفير ضمانات للاعتراف بالنتائج إذا جاءت على غير ما يرضي تطلعات المسلحين ؟

لقد كان بالفعل من المضحكات المبكيات أن يعتقد المجتمع الدولي في إمكانية تنظيم انتخابات رئاسية يترشح لها سيف الإسلام القذافي أو خليفة حفتر أو عبد الحميد الدبيبة أو حتى فتحي باشا آغا ونوري أبو سهمين وعقيلة صالح ؟ هذا يعني أن هناك خلل ما في طريقة تعامل الأمم المتحدة والقوى الأجنبية مع الملف الليبي : فإما عجز على الفهم أو تعمّد للإبقاء على الوضع كما هو عليه .

واقعيا ، هناك انقسام حاد في البلاد ، وهناك ثلاثة أطراف مؤثرة في المشهد العام : تيار 17 فبراير المسيطر على العاصمة ومدن الساحل الغربي والذي يجمع أطيافا عدة من بينها قوى الإسلام السياسي والجماعات المسلحة وبعض القوى الليبيرالية ، وتيار الكرامة المساند للجيش بقيادة حفتر والمهمين على المنطقة الشرقية بالأساس ، وهما تياران مسلحان ، ويمتلكان قوة المال والقرار ، وليس بإمكان أي منهما إلغاء الثاني ، ثم هناك تيار النظام السابق بمختلف تفرعاته وهو منتشر في كافة أرجاء البلاد وبالأخص في الوسط والجنوب، ولكنه لا يمتلك قوة المواجهة على الأرض باعتباره لا يحتكم على تشكيلات مسلحة ، وبالمقابل يتميز بأنه متغلغل في مراكز القرار الأمني والمخابراتي والسياسي في الحكومة ،ولديه حضور قوي في الجيش ،

عمليا ، لا يمكن تجاهل أي طرف من تلك الأطراف الثلاثة ، وهو ما تم التوصل إليه في مجلس الأمن ، وفي مؤتمري برلين 1 و2 وملتقى الحوار السياسي ، فحل الأزمة لا يمكن إلا أن يكون تشاركيا ، وجامعا لمختلف الفرقاء ، وخلال الأشهر الماضية وصلت إشارات واضحة بضرورة فتح الباب أمام كل من يرغب في الترشح للرئاسيات دون إقصاء . لكن الوضع اختلف بعد ظهور مؤشرات جدية على إمكانية أن يحسم نجل القذافي الموقف لفائدته منذ الدور الأول ، وفي أقصى الحالات يمكن أن ينتقل الى الدور الثاني أمام حفتر ، وهو ما لا يمكن أن تقبل به قوى الغرب الليبي ، لأسباب عدة ، وفي حال فوز سيف الإسلام بالرئاسة فإن لا حاضنة سيادية له لكي يتولاها ، وفي حال فوز حفتر فإن البلاد ستنقسم من جديد بشكل قد يكون نهائيا ، إذ أنه لن يتمكن من إقليم طرابلس لا سلما ولا حربا ، كما أن القوى الفاعلة في العاصمة ومصراتة والزاوية وغيرها من المدن الغربية ستتجه لإيجاد سلطة بديلة تحت ظلال بنادق الميلشيات

ومما يزيد من حدة الصراع ، أن المجتمع الدولي دفع بكل قوة نحو انتخابات لاختيار رئيس لدولة لم تتوفر لها بعد مرجعية دستورية معبرة عن الإرادة الشعبية ، وهو ما يعني أن الرئيس المنتخب قد ينقلب نهائيا على المسار التعددي والديمقراطي ويتجه الى تكريس ديكتاتورية حقيقية يمكنه أن يضمن لها تفهما خارجيا بالاعتماد على سياسة المصالح وديبلوماسية الصفقات .  وهذا الأمر ليس مستبعدا ، فنزعة الاستبداد تكاد تكون موجودة لدى جميع الفرقاء ، وكذلك نزعة الميل الى الفساد ، وفكرة السيطرة على السلطة والثروة ليست مجرد نزوة فردية ، وإنما تجد لها حواضن قبلية ومناطقية وفئوية ، وهناك مدن ترى أنها الأولى بالحكم ، أو أنها ضحت من أجل الديمقراطية ومن حقها أن تجني ثمارها ، وهناك في مدن الساحل الغربي من يرون أن السنوات السبعين التي أعقبت الاستقلال شهدت حكم الملك إدريس السنوسي القادم من برقة ، ومعمر القذافي المتحدر من بادية سرت ، وأن الوقت حان ليأتي حاكم فعلي يريد لها أهل طرابلس أن يكون منهم ، وأهل مصراتة أحرص على أن يكون مصراتيّا

منذ الإطاحة بالنظام السابق في العام 2011 ، لم يجرؤ المجتمع الدولي على توجيه عقاب رادع للميلشيات المسلحة وأمراء الحرب . كانت هناك ضربات موجهة لمسلحين من تنظيم داعش في سرت وصبراتة والجنوب . أمام الجماعات المسلحة الأخرى بما فيها المرتبطة بتنظيم القاعدة ، فإنها المسيطرة فعليا على الأرض ، وتعتبر شريكة في السلطة زمن السلم والحاكمة بأمرها زمن الحرب ، ولدى قادتها صلات بمراكز القرار في الداخل والخارج ، وهناك حكومات إقليمية ودولية تعتقد أن علاقات تربطها مع أمراء الحرب قد تكون أجدى بكثير من علاقات مع المسؤولين ، فأمراء الحرب أثبتوا على الأقل أنهم باقون في مواقعهم ، وغير معنيين بالتحولات سواء في المشهد السياسي أو في إطار السلطة التنفيذية ، فقد تذهب حكومة وتأتي أخرى ، ولكن قائد الميليشيا محافظ على مكانه ومكانته

كذلك ، لم يستطع المجتمع الدولي التصدي لمثيري الفتنة ومروجي خطاب الكراهية وعلى رأسهم الصادق الغرياني الذي لا يزال الرئيس الفعلي لدار الإفتاء التابعة للحكومة رغم أن مجلس النواب كان قد عزله من هذا المنصب منذ نوفمبر 2014 ، ووضعه على قائمة المتورطين في الإرهاب ، ومعه عدد من المتطرفين الداعين لسفك الدماء وإقصاء المخالفين ، والمنادين برفض القرارات الأممية والجهود الدولية ،وبالسير على منهج حركة طالبان الى حين إجبار القوى الخارجية على الاعتراف بسلطة الثوار كما حدث في أفغانستان ، فما حدث في كابول في 15 أغسطس الماضي ، أعطى مجالا واسعا للمتطرفين كي يحلموا بالسيطرة على ليبيا في يوم من الأيام ،وكي يستعيدوا تطلعاتهم قبل سنوات عندما أرادوا للبلاد أن تكون بيت مال المجاهدين وملجأ المهاجرين من أهل الصحوة

قد يكون على المجتمع الدولي أن يعيد ترتيب أولوياته في ليبيا ، بحيث يضع في حسبانه ، أن الحل الحقيقي لن يتحقق إلا في حالة حل الميلشيات وجمع سلاحها وتوحيد المؤسسة العسكرية وتحقيق المصالحة الشاملة تحت غطاء الدولة ذات السيادة ، وأن أية انتخابات رئاسية قبل ذلك ليست سوى مضيعة للوقت ، وهي لا تخرج عن دائرة العبث ، وإذا كان هناك إصرار على تنظيمها فمعنى ذلك أن البعض يريد لها أن تكون منطلقا لتقسيم البلاد ليس إلا .

قبل ستة أيام من الموعد المحدد للسباق الرئاسي، على المجتمع الدولي أن يعترف بفشله في ليبيا ، وأن يكفّ على تصدير الأوهام ، فمنذ أكثر من عام ونحن نتحدث عن 24 ديسمبر 2021 كمحطة لتتويج مشروع الحل السياسي ، وكفرصة لإعادة تأسيس الدولة الليبية بالتزامن مع الذكرى السبعين لاستقلالها ، ولكن لاشيء من ذلك حدث . هناك بالطبع فريق منتصر بقدرته على عرقلة الاستحقاق ، ولكن هناك فريقا أكبر مهزوما بعجزه على قراءة الواقع الليبي قراءة صحيحة يستلهم منها حلولا جدية ، لا وعودا وهمية ، لذلك إنتهى الى الواقع أمام بون شاسع بين حساب الحقل وحصاد البيدر