بين تونس وليبيا حدود طويلة، صحراويّة في أكثر من 80 بالمائة منها، تصعب مراقبتها والسيطرة عليها، بكثافة سكّانية ضعيفة جدًا، رسميًا يوجد بها معبران (وازن-ذهيبة) و(راس جدير) ومشروع معبر ثالث يبدو أنه مات في المهد (مشهد صالح-تيجي)، ومع ذلك توجد عشرات المعابر الأخرى، غير الرّسميّة وغير النّظاميّة، وهي تلك التي يستعملها المهربّون لتبادل السّلع والبضائع.

عالم كبير وغامض وثريٌّ بالعناصر، يسكن عميقا خلف الأرقام الكبيرة التي تكشفها الدراسات والمؤسسات الرّسمية والدّوليّة والتقارير والتحقيقات الصّحفيّة، عالم مترسّب خلف الخرائط، يشكّل "دولة ثالثة" بين دولتين.

كلّ التقارير تتحدّث عن خسائر اقتصادية كبيرة للجانبين، وعشرات القرارات ومشاريع القوانين والاتفاقيات التي تتحدّث عن مناطق للتبادل الحر بين البلدين، للقضاء على التهريب، لكن في ظل غياب إجراءات رسميّة على الأرض وفي ظلّ التقلبات السياسيّة والأمنيّة في البلدين يبقى التهريب حقيقةً ماثلة، بالرغم من كلّ الجهود التي تبذلها الدّولتان لمقاومتها. ليبيًا، عبر لجنة أزمة الوقود والغاز، وتونسيا عبر المنطقة العازلة وعبر ما سميّ "الحرب على الفساد".

** "دولة ثالثة" بين دولتين:

على امتداد عقود طويلة تشكّلت هذه 'الدّولة الثالثة". عقودٌ طويلة من مراكمة الخبرات والتجارب وتشكّل الشبكات وتمدّدها وتطوّرها، شبكات كبيرة من المهربيّن والتجّار والتسرّب داخل أجهزة الدّولة، مليارات الدّولارات التي تدور على هوامش الاقتصاد الرّسمي للبلدين.

تاريخيًا، حتى نهايات القرن التاسع عشر، كانت تلك المنطقة تعبر طريقًا للقوافل التجارية بين أفريقيا والبحر المتوسّط، أو ما يسمى بـ"طريق العبيد" الذي يعبر غات ثمّ غدامس عبر تطاوين فقابس فحاضرة تونس (العاصمة) عند ما يسمى بـ"سوق البركة" في مدينة تونس العتيقة، وكانت القبائل العروش الممتدة عبر تلك المناطق (خاصة البدو وأنصاف البدو) كالودارنة التونسيين أو النوايل والمحاميد الطرابلسيين يعيشون على حماية تلك القوافل (أو نهبها)، ومع ترسيم الحدود وتأسّس الدّول ككيانات سياسيّة واضحة بحدود مرسومة ومحمية بأجهزة أمنية، بقيت التجارة العابرة للحدود تأخذ أشكالا أخرى رسميّة وغير رسميّة، ولكن يبدو أنّ الأشكال غير الرّسميّة للتبادل التجاري عبر التهريب هي الأكبر بحسب الأرقام.

أرقام كبيرة كشفتها المؤسسات الرسميّة بالبلدين، فوزير المالية التونسي (في العام 2015) تحدّث عن أنّ "الاقتصاد العشوائي تجاوز نسبة 55 ٪ من الناتج الداخلي الخام"، في حين قال ﺍﻟﺨﺒﻴﺮ الاقتصادي ﻓﻲ ﺇﺩﺍﺭﺓ ﺍﻟﺘﻨﻤﻴﺔ ﺍﻟﻤﺴﺘﺪﺍﻣﺔ ﺑﺎﻟﺒﻨﻚ ﺍﻟﺪﻭﻟﻲ، ﻋﺒﺪ ﺍﻟﻠﻪ ﺳﺎﻱ، في شهر يوليو الماضي ﺇﻥ "ﻛﻤﻴﺎﺕ ﺍﻟﻮﻗﻮﺩ ﺍﻟﻤﻬﺮﺏ ﻣﻦ ﻟﻴﺒﻴﺎ ﺇﻟﻰ ﺗﻮﻧﺲ ﺗﻘﺪﺭ ﺑـ 500 ﻣﻠﻴﻮﻥ ﻟﺘﺮ ﺳﻨﻮﻳًّﺎ، ﺑﻤﺎ ﻳﻌﺎﺩﻝ 17٪ ﻣﻦ ﻣﻴﺰﺍﻧﻴﺔ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﺍﻟﻠﻴﺒﻴﺔ"، مشيرا إلى أنّ "ﺍﻟﺒﻨﻚ ﺍﻟﺪﻭﻟﻲ ﺃﻋﺪ ﺩﺭﺍﺳﺔ ﺣﻮﻝ ﺗﻮﻧﺲ ﻭﻟﻴﺒﻴﺎ، ﺗﻔﻴﺪ ﺃﻥ ﺗﻮﻧﺲ ﺗﺨﺴﺮ ﻧﺤﻮ 800 ﻣﻠﻴﻮﻥ ﺩﻭﻻﺭ ﺳﻨﻮﻳﺎ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻸﺯﻣﺔ ﻓﻲ ﻟﻴﺒﻴﺎ، ﻭﺿﻌﻒ ﺍلاستثمارات ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺒﻠﺪﻳﻦ" وفق ما نقلت مصادر إعلاميّة.

في حين قدرت شركة البريقة لتسويق النفط، كميات الوقود التي جرى ضبطها قبل تهريبها إلى دول الجوار، ومن بينها تونس، بنحو 25 مليون لتر خلال العام 2017. كما أن رئيس لجنة أزمة الوقود والغاز المقال، ميلاد الهجرسي، أكّد إن "40% من احتياج السوق المحلي التونسي يجرى تغطيته من الوقود الليبي المهرب" على حدّ قوله.

هذه الأرقام (كعينة بسيطة) تكشف حجم التعاملات الاقتصادية في "دولة التهريب"، آلاف المليارات التي تدور كسيولة نقدية على هوامش الاقتصاد الرّسمي والنظامي للبلدين وبمختلف العملات المحلية والأجنبية .

هذه الآلاف من المليارات توازيها كميات أخرى من العملات المسالة في أسواق الصرف الموازية، شوارع كاملة للعملة ومكاتب صرافة على جانبي الطريق في مختلف المدن الحدوديّة بين البلدين، دولة قائمة بكل أشكالها الإقتصاديّة الخاصة، تبادل تجاري خارج النظام الجمركي والضريبي، وبورصات للعملة خارج سيطرة الدّولة النظاميّة وسياساتها النّقديّة .


** البنزين كعيّنة نشاط في "دولة التهريب":

يستفيد المهرّبون من الجانب الليبي من عمليّة الدّعم التي تصرفها الدّولة على المحروقات، وتتم عمليّة التهريب من خلال التحايل على منظومة التوزيع نحو المحطات، حيث يتم شراء المحروقات بأسعار مدعّمة ورخيصة جدًا لتنقل في شاحنات كبيرة الى نقاط حدوديّة معروفة حيث يتم بيعها للمهربّين التونسيين بأسعار أغلى ولكنها أرخص بكثير من أثمان المحروقات في تونس.

المهرّبون التونسيون بدورهم يبيعون إلى تجّار تفصيل، لتصل إلى المستهلك بعد ذلك بأسعار أقل من المحروقات الموجودة في محطّات التوزيع المرخّصة من الدّولة، هامش يصل في أحيانا كثيرا إلى النّصف، مع جودة يرى المستهلكون خاصة في مدن الجنوب الشرقي التونسي أنّها أفضل من المحروقات المحليّة.

يستفيد المهرّبون الليبيون في المقابل من الفارق الكبير في السّعر بين قيمة الشّراء (المدعّم) وقيمة البيع المرتفع نسبيا، أو تتم العمليّة في شكل تبادل للسّلع مع المهربين التونسيين، أي مقايضة تجاريّة بدائيّة للنفط مقابل السّلع (مواد غذائيّة في الغالب) والتي هي أيضًا مدعّمة من ميزانيّة الدّولة في تونس.

ورغم مساعي الدّولتين للحد من هذه الظاهرة، ورغم ما تقوم به الأجهزة الأمنية من الطرفين لمقاومتها، تتواصل عمليات التهريب (وان بشكل متقطّع وضعيف أحيانا)، على رغم ما توفّره هذه العمليّة (في المقابل) من مواطن شغل لآلاف المتساكنين على طول الحدود من البلدين، وبرغم ما أصبح يشكّله هذا "الاقتصاد الموازي" من قوّة داخلة الشبكات الاقتصادية المحليّة من أهميّة كشفتها الأزمة الأخيرة للمحروقات في مدن الجنوب الشرقي التونسي مع إغلاق الحدود والمعابر البريّة بين البلدين.

** ضربات قويّة ..لكنها غير قاتلة:

في السنوات الأخيرة تكثّفت مساعي الدّولتين التونسيّة والليبية للقضاء على ظاهرة التهريب، وان بدون رسم بدائل واضحة قد تخفف من حدّة الاضطراب الاجتماعي الذي تخلّفه التغيرات الاقتصادية، فتونس قد أعلنت حدودها البريّة مع ليبيا منطقة عسكرية عازلة وحفرت خندقا مائية يقطع كل الطّرق غير الرّسمية بين بلدين في إطار حربها ضد الإرهاب، وبمثل شكّلت ليبيا لجنة لمقاومة التهريب، أسمتها "لجنة أزمة الوقود والغاز" من أجل القضاء على أزمة الوقود في محطات التوزيع، كما قامت اللجنة بحملات كبيرة ضدّ تهريب، انتهت في النهاية بحلها وإحالة رئيسها ميلاد الهجرسي إلى التحقيق، في ظل غضب واسع في الشارع الليبي، يقابله تأكيد رسمي من المؤسسة الوطنية للنفط أنّ هذه اللجنة "وهمية"بحسب تعبيرها.

ورغم التضييق الكبير على عمليّة تهريب أمنيًا، من خلال القبض على أباطرة التهريب من الجانب الليبي خاصة في زوارة وصبراتة، والحملات الأمنية الكبيرة للتشكيلات المسلحة في الجبل الغربي والمنطقة الغربية على الحدود التونسية الليبية، ورغم ما أعلنته الدّولة التونسية من "حرب على الفساد" التي قبض فيها على عدد كبير ممن قيل أنهم كبار مهربين، لم تتوقّف عملية التهريب وان نقصت بشكل كبير.

هذا الاختناق الكبير لـ"دولة التهريب" قد يبدو -في عين المراقبين- ظرفيًا، خاصة في ظل المتغيرات الحاصلة، مع حل لجنة أزمة الوقود والغاز الليبية ومع الاحتجاجات التي يقودها عدد من التجار في الجانب التونسي، والضغط الكبير الحاصل بين البلدين عبر إغلاق المعابر البريّة، وهي الحالة التي لا يمكن أن تدوم طويلا، وهو ما قد يعود بكل شيء من جديد الى نقطة الصفر خاصة في ظل غياب بدائل اقتصاديّة حقيقيّة يمكنها أن تلبّي حاجيات السكّان في تلك المناطق وتخفّف من حدّة الاحتقان الناتج عن تغيّر البنية الاقتصاديّة .