لم يكن القطاع الصحي في ليبيا بعيدا عن تأثير وأثر التغيرات التي شهدتها البلاد عقب أحداث فبراير 2011، بل يعتبره البعض الضحية الأكبر بالنظر لما طرأ عليه من تغيرات وما تكبده من خسائر. وطالما اتفق المسؤولون المحليون وممثلو المنظمات الدولية المعنية بالأمر انهياره، بسبب تأثير الأحداث على العاملين فيه.
مع بداية عقد السبعينات من القرن الماضي شهدت ليبيا حركة تنمية استثنائية، عقب ثورة الفاتح من سبتمبر، التي عملت على تحويل البلاد من وضع إلى آخر، وذلك يتنفيذ عدة خطط للتحول شملت مختلف القطاعات لاسيما التعليم والصحة، حيث كانت البلاد تعاني من حالة فقر عام ويعيش الشعب تحت نير ثالوث (الفقر-الجهل-المرض)، وكانت نسبة الوفيات تفوق كل المعدلات العالمية المتعارف عليها، وذلك لتفشي مختلف أنواع الأمراض والأوبئة بما في ذلك التي توصل العالم لعلاجها والوقاية منها.
ويؤكد أحد التقارير الصحفية الذي نشره أحد المواقع الأفريقية المهتم بالوضع الصحي في القارة السمراء، عام 2009، إن قطاع الصحة في ليبيا شهد خلال الحقبة الممتدة من السبعينات حتى اللألفية الحالية تطورا ضخما سمح ببناء أكثر من 1400 وحدة ومركز للرعاية الصحية الأساسيةوبتشييد 96 مستشفى متخصص وجامعي ومركزي وريفي، علاوة على تخصيص أكثر من 3% من الناتج المحلي لتطوير القطاع ما سمح ببناء عدة كليات للطب البشري منذ سنة 1971 مباشرة بعد قيام ثورة الفاتح منسبتمبر 1969 في ليبيا وأوضح نفس التقرير أن مؤشرات الصحة المحققة في ليبيا تتطابق مع أهداف الألفية للتنمية التي وضعتها منظمة الصحة العالمية حيث تم توفير 370 سريرا لكل عشرة آلاف شخص ما يشكل أعلى معدل في منطقة البحرالمتوسط وشمال إفريقيا وأشار التقرير فيما يخص البنى التحتية الأساسية والتجهيزات الصحية إلى وجود 22 جهازا للكشف بالرنين الكهرومغناطيسي في معظم مستشفيات البلاد إلى جانب تجهيزات تشخيص متطورة أخرى مثل السكانير وأجهزة أشعة وتصوير متطورة وأضاف التقرير أن عدد الصيدليات تجاوز خلال العقد الماضي 1543 صيدلية فيما ارتفع عدد الأسرة في المؤسسات الصحية للقطاع الخاص إلى 1433 و18500 سريرفي مؤسسات القطاع العام وفيما يتعلق بالعاملين في هذا القطاع انتقل عدد الأطباء الليبيين من 207 طبيب سنة 1977 بما يشمل الدفعة الأولى لخريجي كلية الطب البشري إلى أكثرمن 10000 طبيب سنة 2007، كما تمت إعادة النظر في النظام الصحي بما يجعله مطابقا لإشتراطات تأمين السلامة الصحية من خلال تحصين الأشخاص المعافينلتمكينهم بمقاومة أفضل للأمراض وضمان علاج جيد للمرضى وتم في هذا الإطار تكليف المركز الوطني الليبي للوقاية من الأمراض المتوطنة والسارية والمستشفيات المتخصصة بهذه المهمة وذلك عبر تحقيق تقدم مهم سواء تعلق الأمر بالعلاج الدوائي أو بالجراحة المتطورة أوبعمليات تطعيم أو غيرها من عمليات الرعاية الطبية، حتى أصبحت ليبيا من بين الدول الخالية تماما من عدة أمراض سارية تعاني منها غيرها من دول الجوار، وتحولت عدة أمراض كانت السبب الرئيس في وفاة الألأف إلى جزء من الماضي.
شهدت مختلف القطاعات في ليبيا لاسيما قطاع الصحة تغيرا كبيرا جراء ما دار في البلاد من أحداث في السبع سنوات الأخيرة، ووفقا لتقارير المنظمات المحلية والدولية المعنية بالصحة تتفق جميعها بأن قطاع الصحة في ليبيا أصبح يعاني حالة انهيار متتالية جعلت منه عاجز عن الإيفاء بالألتزامات المنوطة به، وتوفير الحد الأدنى من الأساسيات التي يحتاجها المواطن، كغياب الرعاية الصحية اللازمة للمواطنين من نقص الأدوية والمعدات الطبية الى نقص الاسرة في اكثر المستشفيات،ناهيك عن الاضطرابات الأمنية التي تشهدها البلاد والتي زادت الوضع سوءا، يعتبر من أكبر التحديات التي تعترض عمل الحكومات المتصارعة سياسيا.
وتتمثل الأزمة التي يعانيها القطاع الصحي في النقص الحاد في الأطقم الطبية والأدوية، وإغلاق العديد من المستشفيات أبوابها أمام المرضى بعد نفاد الأدوية، وغياب الأمن فيها إذ تتعرض العديد من المستشفيات لهجومات مسلحة مباشرة في بعض الأحيان من قبل المجموعات المسلحة، أو بشكل غير مباشر عندما تدور الاشتباكات المسلحة والمعارك في محيطها أو يحتدم الصراع في المناطق التي تتواجد بها تلك المستشفيات.
ويقول رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم إلى ليبيا غسان سلامة،في إحدى إحاطاته أمام مجلس الأمن الدولي، إن القطاع الصحي في ليبيا يواجه أزمة،وأغلب مستشفيات البلاد لا تعمل، و تعاني نقصًا في إمدادات الأدوية، مشيرًا إلى تعطل الأجهزة الطبية الحديثة وأنها تُركت دون صيانة، وأوضح سلامة أن بعض الأطباء الليبيين يحذرون من عرضة ليبيا؛ لانتشار وبائي محتمل.
وأصدرت المنظمة الليبية للسياسات والاستراتيجيات، تقريرا تناول قطاع الصحة الليبي، وكشف جانباً من الواقع الذي يعاني منه هذا القطاع، قدم تفسيراً لبعض الإخفاقات التي تعرض لها القطاع، ويفسر فشله في تحقيق أبسط متطلبات الصحة الأولية للمواطن، على الرغم من وجود وزارات للصحة ميزانياتها بالمليارات.
وترى المنظمة في تقريرها أن قطاع الصحة في ليبيا من أهم القطاعات الخدمية التي أصابها وباء الفساد في مقتل، ويقول التقرير إن المرافق الصحية في ليبيا تضاعف عجزها بسبب التدهور الأمني والصراعات المسلحة، التي عطلت معظم الخدمات التي تقدمها هذه المرافق التي أغلق معظمها، كما أدى هذا الانفلات الأمني إلى هروب معظم العمالة الأجنبية وعودتهم لبلدانهم، خاصة الأطباء والممرضين والفنيين منهم، وتوقفت بعض المرافق الصحية جزئياً عن العمل. ويقدر التقرير أن في ليبيا 120 مستشفى عام وعيادة طبية، وتفتقر كلها إلى التجهيزات والصيانة والمستلزمات الطبية المفترض توافرها، وأن هذه المرافق احتاجت في عام 2015 إلى 219 مليون دينار ليبي لتجهيزها بشكل مناسب، ولكن المصرف المركزي لم يقدم سوى 147 مليون دينار، وأن 6 مليار دينار سنوياً هو إجمالي ما ينفق على القطاع الصحي، وأن الجزء المهم من هذه المليارات يذهب كمرتبات، والجزء المهم الآخر من هذا الرقم ينفق على صيانة المباني والمعدات الطبية، وتنفق الدولة من خزينتها مليار دينار سنوياً للعلاج في الخارج، بينما يصرف الليبيون 5 مليارات سنوياً من جيوبهم للعلاج في دول الجوار فقط.
كما أشار التقرير إلى الخلل الإداري في القطاع إذ يعتبر أن التكدس الوظيفي أخطر التحديات التي تواجهه، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع نفقات مرتبات العاملين فيه، مرجعا السبب في ذلك إلى عدم التقيد بقانون علاقات العمل الصادر في 2010، والذي يحدد ضوابط التعيين، فتجاوزت التعيينات في هذا القطاع - بحسب التقرير - 107%، خاصة وأن جل هذه التعيينات في وظائف إدارية ولا تشمل الفنيين والممرضين والأطباء.
ويضيف التقرير أن هنالك تعيينات لأسماء وهمية ولا وجود حقيقي لأصحابها، فقد وجد ما يقارب عن 22.436 رقم غير مطابقة للرقم الوطني، وأكثر من 7.342 حالة ازدواجية في العمل.
واعتبر التقرير أن من أخطر الملفات التي عم فيها الفساد وارتبطت بقطاع الصحة هو ملف الجرحى الذي استنزف أموالاً طائلة جداً من مخصصات الوزارة، حيث صُرفت مليارات يصعب تحديدها بدقة كنفقات بلا حساب لصالح علاج جرحى الحروب، فتراكمت ديون مبالغ فيها لحد كبير، وليس ثمة مايؤكد مصداقية هذه الديون من عدمها حتى وصلت مع نهاية عام 2015م إلى مايقارب من 80 مليون يورو يتوجب على وزارة الصحة دفعها فقط للمستشفيات التركية، ويشير التقرير إلى أن ملف الجرحى معقد جداً ويكتنفه الغموض بسبب عشوائية إدارته واستشراء الفساد في اللجان المكلفة به وكذلك بسبب إهمال الحكومات المتعاقبة له وتعاملها معه بشكل مريب وغير منضبط، ويؤكد التقرير أنه من أهم تداعيات الصحة في ليبيا وفسادها هو حالة الانقسام السياسي في البلاد والمتمثلة في وجود عدة حكومات الأمر الذي ضاعف من الأعباء المالية على خزانات الدولة.
وتبقى مشاكل القطاع الصحي في ليبيا بتشعباتها وتأثيراتها المباشرة على حياة المواطن كأبرز مظاهر المشاكل التي تعانيها البلاد جراء أزماتها المتلاحقة، وبهذا فأن الحل فيه سيبقى رهين الحل الشامل لأن إيجاد الحل في قطاع ما بمعزل عن غيره سيبقى محاولة عبثية تستوجب التكاليف الباهضة ولكنها لا تأتي بالحلول الحقيقية.