الأزمة التي تمر بها ليبيا منذ سقوط نظام معمر القذافي سنة 2011، مازالت عصية على إيجاد حل ناجع بسبب تداخل عوامل عدّة، لئن يلخصها البعض في تعطّل آليات الحوار بين جميع الفرقاء وتواصل الاقتتال الدائر بين الجماعات المسلحة على الأرض، فإنّ البعض الآخر يُعيدها إلى تعدّد الطروحات واختلاف زوايا النظر التي أفضت بدورها إلى حلول مختلفة حدّ التباين أحيانا، ممّا زاد من تعميق الأزمة وأضحى يفرض على جل المتدخلين في الشأن الليبي أن يوحدوا رؤاهم وأن يخلصوا إلى حل يلخص جميع الحلول.

يسير الوضع الليبي نحو مزيد التدهور مع ارتفاع وتيرة الصراعات المسلحة والقتال بين ميليشيات “فجر ليبيا” (المحسوبة على الإسلاميين) وحلفائها الجهاديين، التابعة لحكومة عمر الحاسي المنبثقة عن المؤتمر الوطني المنتهية ولايته والمتمركزة بطرابلس من جهة، وبين قوات “الجيش الوطني” بقيادة خليفة حفتر المدعومة من قبل حكومة عبدالله الثني المتمركزة بطبرق والتي حظيت باعتراف المجتمع الدولي. قتال اشتدّ مؤخرا بعد أن بلغ الموانئ النفطية شرق مدينة سرت ودمر أكبر محطة نفطية ليبية توجد في السدرة.

أزمة كلما اشتدت وطأتها، زادت معها الاقتراحات والتصورات، سواء الداخلية أو الخارجية، لتقديم حلول يرى أصحابها أنها الأقرب والأكثر حظوظا لإنهاء النزيف الذي أنهك الليبيين على مدى السنوات الأربع الماضية، فيما يراها آخرون حلولا منقوصة أو مبتورة ليس لها سوى أن تزيد من الهوّة بين الفرقاء وتعمق الأزمة أكثر، أو أنها حلول تفتقر إلى شرط الإجماع حولها، لأنّ ليبيا اليوم، وفق رأيهم، بحاجة إلى حلّ ناجع يلخص جميع الحلول المطروحة.

تعيش الدولة الليبية لحظات فارقة وخطيرة في ظل تعدد الأزمات، وانتشار الميليشيات المسلحة، وعدم وجود توافق وطني أو خطاب قادر على لمَّ الشمل الليبي منذ رحيل القذافي وإسقاط نظامه. وتعاني ليبيا كذلك من الافتقار إلى وجود مؤسسات فاعلة وقوية قادرة على تحجيم دائرة الأزمات التي تتسع مع الوقت في ظل مجتمع قبلي بامتياز.

ومما لاشك فيه أن الوضع المتدهور في ليبيا لا تمتد آثاره الخطيرة إلى دول الجوار فحسب، ولكنّها تمتد أيضاً إلى كلّ دول الشرق الأوسط، ويزعزع الاستقرار فيه في ظل لحظات حرجة تعصف بالعالم العربي.

وفي هذا الإطار، تناولت دراسة تحمل عنوان “الفيدرالية الجديدة في ليبيا”، أعدَّها كل من كريم مزران ومحمد الجارج، الباحثان بمركز رفيق الحريري لدراسات الشرق الأوسط التابع للمجلس الأطلسي، هذه الأوضاع الحالية المتدهورة في ليبيا بعد سقوط القذافي سنة 2011 وضرورة إنجاح حوار وطني يكون كفيلا بإنهاء الأزمة.

ومن ثم فقد بدأ الباحثان بطرح تساؤل متعلق بمدى قدرة القيادة والنخبة الليبية على الحوار الوطني في الظرف المتسم بتفشي العنف، مشيرين إلى أن القيادة الليبية قد فوتَّت فرصة سانحة من أجل ذلك، وحاولت استرضاء الميليشيات المحلية المسلحة كبديل عن إنجاز المهمة الحاسمة بإعادة بناء الوطن منذ سقوط نظام القذافي، وهو ما تحاول الآن القيادات المحلية في ليبيا أن تتجاوزه.

ويأتي ذلك في ظل غياب حكومة مركزية قوية وقادرة على استعادة الأمن وضبط النظام، مما أدَّى إلى ضعف قوات الأمن، وتعزيز انهيار الدولة الليبية، ودفع الناس إلى العودة لانتماءاتهم الأساسية سواء للعائلة أو القبيلة أو المدينة.

وتضيف الدراسة أنه وبعد إسقاط النظام، تعالت الأصوات المدافعة عن النظام الفيدرالي على أساس المناطق التاريخية الثلاث (طرابلس في الغرب، وبرقة في الشرق، وفزان في الجنوب)، لكن لم تترسخ هذه الدعوات لأنها لا تعكس الحقيقة على أرض الواقع، فالهويات الإقليمية القديمة لم يعد لديها نفس القوة كما كانت في السابق، لأن المناطق الثلاث باتت أكثر تنوعاً بسبب وجود مستويات عالية من التحضُّر تشكَّل على مدى الأربعين سنة الماضية.

وعلى الرغم من ذلك، يرى الباحثان أنّ النظام اللامركزي في ظل دولة متوحدة يظل هو الخيار الأفضل لتحقيق تطلعات ما بعد الحرب الأهلية، وفق رأيهم، كذلك فإنّه في ظل وجود انقسامات كبيرة داخل المجتمع الليبي يبرز التفكير حول الشّرعية السياسية وشكل الدولة، وهو ما يعني أنّ إعادة النظر في مفهوم الفيدرالية قد يكون هو الطريقة الأقرب للحفاظ على مظهر من مظاهر الوحدة للأمة الليبية كي تكون قادرة على تأمين حدودها، وتوفير الخدمات الأساسية لكل المواطنين، وتطوير البنية التحتية، وكذلك من أجل الاستفادة بالشكل الأمثل من مواردها الاقتصادية.

غير أنّ العديد من المعارضين لهذه الفكرة، يرون من جهتهم أنّ هذا الحل الذي تقدمه الدراسة يعدّ حلاّ سهلا ولن يُساهم في حلحلة الأوضاع، حيث يؤخذ على النظام الفدرالي، وفق رأيهم، أنه يقوي النزعات القبلية والجهوية (التي تعاني منها ليبيا بطبعها) بين أبناء الولاية أنفسهم، حين يبدأ التنافس على السلطة والثروة ويرفض أبناء كل قبيلة أن يكون حاكمهم في الولاية من أبناء القبيلة الأخرى. ولأنّ الصراعات تخف كلما توسعات آفاقها وتشتد كلما ضاقت هذه الآفاق، فإنّ الوحدة هي من أنهت الصراع بين الفرقاء الليبيّين في السابق، ولذلك فإن تطبيق الفيدرالية في ليبيا قد يؤدي إلي عودة تلك الصراعات بأبشع صورها، ولن يحل الأزمة القائمة بقدر ما سيعمق من جراحها ويزيد من مسبباتها. لكنه يبقى في نظرهم حل واجتهاد من أصحابه يقتضي التحاور بخصوصه شأن بقية الحلول.

في سياق متصل، وفي إطار مواصلة البحث عن حل ناجع يكف عن الشعب الليبي معاناته، أشار عدد من المشاركين في اجتماع لمجموعة العمل حول ليبيا تحت عنوان “ليبيا: السياسة المسلحة والتصعيد الإقليمي” في مؤسسة شاتام هاوس في شهر ديسمبر الماضي، إلى أنّ الخطوة الحاسمة التي يجب أن تحققها ليبيا من أجل حلحلة أزمتها تتركز أساسا (قبل أن تتعلق بالبحث عن طبيعة النظام المقبل أو شكله) حول إجراء حوار وطني يتم تعزيزه بأهداف واضحة يجمع عليها كلّ الأطراف. حيث أنه بات من الضروري وجود وسيط تقبل به كل الأطراف حتى ينجح الحوار. وفي هذا السياق تساءلوا إن كان الممثل الأممي في ليبيا، برناردينو ليون، مقبولا من قبل جميع الأطراف، وخاصة من قبل “فجر ليبيا” التي تبدي تعنتا إلى حدود الآن وعدم تجاوب واضح مع المقترحات المطروحة عليها.

ولئن تبدو خارطة الطريق التي يعمل ليون وعدد من المبعوثين الدوليين على تطبيقها لإقناع جلّ الفرقاء بأنها تمثل منفذ الخلاص الأسلم في ظلّ هذه الظروف المتقلبة والمتّسمة بالعنف، والتي تقوم على مقاربة من ثلاثة مسارات هي؛ أولا تكثيف الجهود لإنشاء حكومة وحدة وطنية مهمتها الإشراف على فترة انتقالية. وثانيا رسم مسار سياسي عسكري يؤدي إلى نزع السلاح وبروز قوة مسلحة مركزية وعودة جهاز الشرطة. وثالثا تنظيم حوار سياسي وطني لتعزيز المصالحة، بما في ذلك بين الأقليات، إلاّ أنّ عوائق كثيرة تحول دون تحقق هذه الخارطة التي يرى أصحابها أنّها السبيل الوحيد الذي من شأنه أن يخرج ليبيا من عنق الزجاجة وأن ينهي أزمتها التي طالت واشتدت تداعياتها على جلّ المستويات.

عوائق تتلخص أساسا في عدد من النقاط، وفق مراقبين، أبرزها؛ المقاومة والتعطيل اللذان يعمد إليهما أصحاب المصالح، الذين يخشون أن يؤدي نجاح الحوار إلى خفض نفوذهم من جهة، واعتقاد مناصري الحكومتين الراسخ بقدرتهم على الانتصار عن طريق قوة السلاح، أو على الأقل ضمان نصيبهم من الموارد الوطنية بالقوة من جهة ثانية، وكذلك صعوبة تحديد من يتوجب استدعاؤه للمشاركة في المفاوضات من جهة ثالثة، وأخيرا غياب الحوافز ووسائل الرّدع المقنعة للمشاركة.

جلّ هذه العوائق من شأنها أن تحول دون الوصول إلى أيّ اتفاق فعلي يمكن أن يؤسس لعملية سياسية سليمة تفضي إلى إنهاء الأزمة، شأن ما حصل ويحصل الآن في حوار جينيف المتواصل، فحتى كتابة الدستور والتي تعدّ العملية السياسية الوحيدة التي لم يتنازع فيها إلى حدّ الآن واستمرت حتى في خضم المعارك، والتي ستُتبع باستفتاء شعبي، وفي نهاية المطاف بانتخابات عامة، طُرحت العديد من التساؤلات حول شرعيتها في السياق الليبي الحاضر، نظرا لأن هذا الدستور سيسعى إلى ترضية المجموعات المتعطّشة للسلطة وسيؤكد الانقسامات السياسية في ظل هذا الوضع.

ولذلك يرى المراقبون أنّ الوسطاء بحاجة الآن أكثر من أيّ وقت مضى، إلى المزيد من الدعم الدولي. حيث أنّ المجتمع الدولي الذي ساهم في تدهور المناخ حول جهود الوساطة من خلال ذلك التعويل على مجرّد تصريحات ملطّفة لم تُعقب بمحاولات جادة لثني الدول الإقليمية عن التدخل في الشؤون الليبية شأن حلفاء ائتلاف مصراطة في تركيا وقطر.

في مواجهة الفوضى السائدة في ليبيا، لا تملك القوى الكبرى ودول المنطقة سوى خيارات قليلة جدا من ضربات عسكرية محتملة محدودة وصولا إلى السعي، وهو لا يزال فرضيا، إلى حلّ سياسي.

ورغم أنّ فرنسا، التي تجد نفسها في الواجهة بسبب تدخلها العسكري في منطقة الساحل، استبعدت، مؤخرا، على لسان رئيسها، سيناريو التدخل العسكري على المدى القصير، لافتة إلى أنه من أجل القيام بذلك يجب “أن يكون هناك تفويض واضح وشروط سياسية متوافرة في طرابلس، غير أنّ الأمور لا تسير في هذا الاتجاه”، إلاّ أنّ ذلك لا يغير من حقيقة أنّ المزاج الدولي صار يتجه صراحة إلى الخيار العسكري ليس لفرض حل سياسي لن يتحقق لاعتبارات داخلية ليبية كثيرة، وإنما للقضاء على مليشيات تمارس الإرهاب لإكراه الشعب الليبي على خيارات لفضها في الانتخابات البرلمانية في صيف 2014. إرهاب أضحى يهدد بالتوسع ليصبح خطرا داهما على عموم منطقة شمال أفريقيا ودول الساحل والصحراء، هذا إن لم يتوسع نحو الشمال إلى أوروبا.

وفي سياق متصل، قال ريتشارد كوكران، الخبير في معهد الدراسات الاستراتيجية في لندن إنّ “الغرب يركز على سوريا والعراق، لكن بالتأكيد أنّ ليبيا تشكل تهديدا أكبر وخصوصا لجنوب أوروبا”.

وبالنسبة للأوروبيين فإنّ المخاطر تكمن في تدفق المهاجرين من سواحل ليبيا مع المعاناة الإنسانية التي يعيشونها في المتوسط قبل الوصول، وملاذات الجهاديّين في الجنوب التي تهدد بإشعال منطقة الساحل مجددا.

كما يضاف إلى ذلك تهديد تنظيم “الدولة الإسلامية” الذي أقام معسكرات تدريب في شرق ليبيا، والذي تبنى مؤخرا تفجيرا حصل في فندق بمدينة طرابلس، وهو ما يزيد من تعميق الأزمة ويجعل مسألة إعادة التفكير في حل عسكري واردة.

غير أنّ غونتر ميير، الخبير في شؤون العالم العربي في جامعة مايانس (ألمانيا) لإذاعة محلية “نظرا للانقسامات الحالية في البلاد والتوترات الإقليمية، فإنّ تدخل حلف الأطلسي لا يمكن أن يؤدي سوى إلى كارثة إضافية ويؤجج بشكل إضافي الجهاد العالمي”.

وباستثناء فرنسا، فإن الأوروبيين والأميركيين الذين خسروا سفيرهم في بنغازي (شرق) في 2012، يلزمون الصمت حيال الوضع ويكتفون بالدعوات إلى “وقف المعارك فورا”.

غير أنّ تلكؤ الدول المذكورة سلفا، لا يعني، وفق مراقبين، أن فكرة التدخل العسكري لحماية ليبيا من الانهيار تبدو بعيدة تماما، خاصة بعد أن أصبح هذا الطلب بالتدخل وتسليح القوات الليبية ملحا من قبل الحكومة الليبية الشرعية.

وهو طلب يجد دعما قويا داخل الجامعة العربية، كما أنّه يضع المجتمع الدولي أمام واجب أخلاقي لأنّ لا شيء يبرر تدخله في العراق وسوريا وعدم فعل نفس الشيء في ليبيا رغم توفر نفس الأسباب ونفس الخطر الإرهابي الذي لا يهدد هذا البلد الشمال أفريقي بل العالم بأسره، حسب يومية العرب.

وفي ظل انعدام أي أفق للحل السياسي في ليبيا التي تتشدد فيها المواقف يوما بعد يوم، ويدّعي فيها كل طرف بأنه ينتصر عسكريا على الآخر مما يغذّي الأخطار المتربصة بالجميع، يُفترض أنّ المعارضة للحلّ العسكري لن تطول كثيرا.

وفي سياق متصل، يشير ملاحظون إلى إنّ الدول التي تبدو رافضة للتدخل العسكري هي في الحقيقة تسعى لتقوية شروط التفاوض على مصالحها داخل ليبيا ما بعد الحرب على الإرهاب ليس أكثر، وبالتالي فإن رفضها ليس مبدئيا وقد تتخلى عنه في النهاية طوعا أو مكرهة تبعا للتطورات اللاحقة في المشهد الليبي خاصّة إذا قرر التحالف الدولي الذي يحارب الإرهاب في سوريا والعراق توسيع مجالات هجماته لضرب البؤر الإرهابية في ليبيا.