صدرت ترجمة جديدة لرائعة “أشياء تتداعى” للكاتب النيجيري، تشينوا أتشيبي، عن الهيئة العامة لقصور الثقافة(2014)، سلسلة آفاق عالمية بترجمة عبدالسّلام إبراهيم، ضمن مشروع “المئة كتاب”. تمثِّلُ الرِّواية منذ صدورها عام 1958 نموذجا للرّد بالكتابة على الخطاب الاستعماري، كما تكمن أهميتها ليس في أنها نموذج مُضاد لما مثّله خطاب الكولونياليّة وكذلك التمثيلات الثقافية في حقبة بغيضة مارستْ فيها الإمبريالية أبخس الأدوارِ وأحطّها قيمة، بسعيها إلى تفكيك بنية المجتمع وتقويض أنساقه، باستبدال أنساق المُستعمِر القوي بأنساق المجتمع وأعرافه، التي حاول أن يفرضها بالقوة تارة وبالاستمالة والترغيب تارة أخرى.

روايةُ “أشياء تتداعى” تكاد تكون لوحةً كرنفاليةً للعادات الشَّعبيَّة والمعتقدات الأُسطورية والمناحي الاجتماعيّة التي تعمدها قبيلة الإيبو كتأكيد لهذه الهوية التي سعت وفود التبشير والرَّجُل الأبيض لتفتيتها، كما عمل من جانب آخر لعرض كافة الأباطيل التي ساقها الرَّجل الأبيض لعرض مبرراته في تسويق الاحتلال.

 

التمسك بالهوية

الخطاب المضادّ الذي تبناه تشينوا أتشيبي شمل أيضا كتابة النّص بلغة المـُستعمِر في تحدٍّ تام له، كنوع من الغزو الثقافي الذي يواجه الغزو السّياسيَ وإن بدأ دينيًّا في أوله، أو بمعنى أدق تعريته بلغته وفضح ممارسته، والردّ على التمثيلات الغربية التي شوّهت المجتمع الأفريقي، وانطوتْ على نظرةٍ مُسْتَعلية، في تصويرها المجتمع الأفريقي كشعبٍ ضعيفٍ، وأنّ الجنّة دانتْ له مع قدوم الرَّجُل الأبيض، مثل “قلب الظلام” لجوزيف كونراد و”مناجم الملك سليمان” لألن كوارتر مان.

هذا إلى جانب تدبيج النص بالمفردات المحليّة ذات الخصوصية حرصًا على تمسّكه بهويته، بل يصلُ التحدي إلى استعارة عنوان الرواية من قصيدة الشاعر الإيرلندي “وليمبتلرييتس” التي يقولُ فيها :” الأشياء تَتداعى/ المركز لم يَعُدْ في اِستطاعته التماسُّك / الفوضى الشّامِلة تَعمّ العالم / إذ يلتف الصّقر ويلتف بدولاب الأكوان / بحركات متباعدة في الدوران / تتداعى الأشياء/ والمركز لا يقدر أن يمسك بزمام الأجزاء/ فوضى صرف تنفلت على العالم / ينفلت المد الدموي وفي كل الأنحاء”.

تنتهي الرواية بالبطل أوكونكو الذي وسمته في أوَّل مَقطع لها بأنّهذَاعَ صيته ” في القرى التسع وحتى فيما وراء حدودها” نهاية تراجيدية تليق ببطل وصفته الرواية تارة ثانية بأنه كان زلقًا مثل السَّمكة استطاعَ أن يتغلبَ على القطفي أشرس قتالٍ منذ تَصارع مؤسِّس بلدتهم مع روح البراري مدة سبعة أيام وسبع ليالٍ.

كما أنّه استطاع أنْ يُحَقِّقَ مكانةً وَسطَ جماعته برفعه اسم قبيلته في المُصَارعة واجتهاده بحصوله على أرض وتأسيس بيتٍ وإنشاء عائلة، فَصَارَ وَاحدًا مِن حكمائها وإليه تَعْهَد القبيلة بالتوسّط إلى القرى الأُخْرى في النزاعات، له ثلاث زوجات وأبناء جميعهم يهابونه لتغير حالته المزاجية، ينتهي الحال به إلى الانتحار فقد وجدوا جسده في أعلى أجمة “يتدلى منها”، بعد أن قتل ساعي المحكمة الذي استذَلّ كبار القبيلة.

ثمة أحداث في حياة أوكونكو تهيئ لحالة التداعي والسقوط تبدأ مِن لحظة نفيه إلى قرية أخواله بعد أن قَتَلَ أحد أَفراد قبيلته خطأً وَنُفِي لمدة سَبَعَ سنوات، وفي خلالها كانت تتنامى إليه التغيُّرات التي انتابت قريته ومن بينها قدوم الرجل الأبيض، ومحاولات الإذلال ثمّ حركات التبشير وقد أقام المبشِّرون الكنائس، وبدأت حكومة الاستعمار تأخذ صيغتها الشكلية من حيث وجود مباني للحكومة ومحكمة وقوانين تُعاقب المُخالفين وَفَرض ضَرائب لصالح جلالة الملكة.

 

نموذج مضاد

الحيلة التي لجأ إليها الكاتب النيجري كوسيلة لمقاومة الرَّجل الأبيض لم تتمثَّل في القتل فقد كانت الغلبة لهم، والآلة معهم كما جسّدت الرواية، وإنما اعتمد على تفكيك المقولات الاستعمارية بأن الاستعمار جاء مِن أجل إنقاذ هذه الشّعوب مِن تخلُّفها كما قال المُبْشِّر أو إنقاذها “لقد أرسلنا هذا الرب العظيم لكي نطلب منكم أن تتركوا سُبل الشِّر والضلال وآلهتكم الزّائفة وتعبدونه وحده، لعلكم تنجون عندما تموتون”.

وبهذا قدَّم الكاتب وثيقة أو بمعنى أدق عريضة دَافع بها عن الثقافة النيجيرية بإظهار فلكلورها وأنساقها الحاكمة التي كانت تماثل ما أنشأته حكومة المستعمِر مِن محاكم الفارق أن قوانين المُستعمِر رغم حالة الترهيب التي فُرِضَتْ بها، إلا أن الشعبَ لم يَنْصَعْ لها في حين كان للأنساق القبلية قوتها بانصياع الجميع لها؛ لا فرقَ بين زعيم في القبيلة أو شخص عادي والدليل أن أوكونكو امتثل ذاته وَنُفي وجرِّد من أمواله بعد أن قَتَلَ بالخطأ أَحد أَفراد قبيلته، كما قدّم نظامًا اجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا لقبيلته كنموذج مضاد لتلك الدعاوى التي جاءت في رواية “قلب الظلام” لجوزيف كونراد.

فالمتأمِّل للجزء الأول الخاص بقريته وعادات قبيلة الإيبو يجد أنّ ثمّة نظاما اجتماعيا ماثلا في عادات الزواج وطقوس الخطبة والمهر وخلافه واحتفالات الزواج ثم المهرجانات والأعياد، ونَظاما اقتصاديا مُطبَّقا في احتراف الزراعة مهنة، إلى جانب المُناسبات الترويحيّة كما هو ظاهر في رياضة المُصَارعة التي حقّق فيها البطل لقبيلته شهرة كُبرى وَواسعة. أما الجانب السِّياسي فهو متحقِّق في الاتفاقيات والمعاهدات وَجَلسات الصُّلْح التي تُضَاهي المؤتمرات الكبرى، وتبادل الرهائن إلى جانب احترام عادات الجيران ومساعدتهم في الحرب وخلافها.

 

فضح المستعمر

لا يَنْسَى الكَاتِب في نَصِّه أن يفضحَ الخطاب الاستعماري الذي تخفّى في الحركات التبشيرية بالعنصرية والتنكيل بأبناء البلاد ومحاولة إذلالهم للخضوع إلى رغبات المُستعمِر، وَقَتْل رُوح المُقاوَمة فيهم، العجيب أن الكاتب مثلما يُدين الوجه البغيض للمستعمِر، يُدين حالة التخاذُّل التي صَارَ عليها قومه وربما كان انتحاره بمثابة وسيلة احتجاج ورفض لهذا المآل الذي صاروا عليه، حتّى أنه لم يكن لديهم همّ بعد انتحاره إلاّ التخلّص مِن جثته وحملها بواسطة أنفار، إلى منطقة بعيدة عن القرية حتى لا تُصَاب القرية بلعنتها كما تقول الأسطورة الشــــائعة.

يتبنى الكاتب استراتيجيّة تعمد إلى تأجيل حالة الصِّدام مع المستعمِر، وكذلك إظهار فداحته وجرثومة العُنف التي تنزّتْ وكشفتْ عن الوجه القبيح المُسْتَتر خَلَفَ التبشير إلى الجزء الأخير مِن الرِّواية، وهو ما يُظهر دلالة واضحة بأنّ الكاتب لم يقف كثيرًا أمام سلبيات المُستعمِر وعنفه التي تجلت في حالة الإذلال للسُّكان، وحبسهم وكسر أنوف زعمائهم بحلق رؤوسهم في السجن، أو فرض ضرائب والتنكيل بمن لا يدفع، بقدر ما كان مشغولاً بإظهار ما يعكس ثقافة أفريقيّة حاضرة بكافة جوانبها؛ اقتصادية وسياسية وتجارية وأيضًا اجتماعية، كرد عملي على حالات التجريف الثقافي التي اتبعتها السياسية الكولونيالية من خلال توظيف آلية اللغة لتمرير خطابها وقيمها الثقافية التي تتعارض مع القيم الثقافيّة الشعبيّة، والتي انتهت بالعنف أولاً من جانب الشعب الذي قَتَلَ المُبَشِّر الأوَّل ثمّ ما قَابله مِن عُنْفٍ مُضَادّ مِن القَوى الكولونياليّة.

*نقلا عن العرب اللندنية