صباح يوم الاثنين الماضي، وخلال ساعات الذروة في مصر الجديدة بالقاهرة، وهي منطقة ذات حركة مرورية كثيفة، وفي الطريق نحو مقرات العمل، فجأة سمع دويّ في حدود الساعة التاسعة والنصف صباحا. لقد كان انفجارا كبيرا لسيارة مفخّخة في تقاطع شارعي سليمان الفارسي ومصطفى مختار.

كشفت ملابسات الحادث، بحسب صحيفة العرب، أنه تم تفجير قنبلة عند مرور موكب النائب العام هشام بركات. ومن الواضح أنّ العملية تمّت عن بعد، وليس عن طريق عملية انتحارية قام بها شخص يجلس داخل السيارة.

وتمّ نقل النائب العام وبعض حراسه الشخصيين إلى المستشفى. ليتم بعد ذلك الإعلان عن وفاته، على إثر إصابات داخلية لحقت به نتيجة لقوة الانفجار الذي أصاب سيارته المدرّعة.

بسبب التهديدات الإرهابية التي تواجهها مصر، كانت السلطات قد مكّنت النائب العام من التنقل بسيارة من نوع ليموزين مصفّحة واتخذت تجاهه العديد من التدابير الأمنية، لكنّها تدابير لم تحمه للأسف من الهجوم الذي يبدو أنه تمّ التخطيط إليه جيّدا، كما تمّ تنفيذه بطريقة محكمة.

وبالتزامن مع اغتيال النائب العام، شهد الأسبوع الماضي العديد من الهجمات الإرهابية في مصر، وفي أماكن متفرقة من العالم، بما في ذلك الحوادث المميتة التي شهدتها كلّ من تونس والكويت. ومع ذلك من المهم أن ندرك، أنه من الناحية التكتيكية، كانت هذه الحوادث مجرد هجمات بسيطة موجّهة ضد أهداف معرضة للخطر. وهي تختلف عن عمليات التخطيط والتنفيذ الذي تعتمد عليها التنظيمات الإرهابية.

 لكن اغتيال بركات يحيل على تناقض صارخ: حيث إنّ الهجوم كان موجها ضد هدف مهم. ولهذا السبب، فإن لهذا الهجوم أهمية بالغة للعاملين في مجال الأمن وغيره من القطاعات الموكل إليها النظر.

تطرح عملية تنفيذ الاغتيال في منطقة سكنية وتجارية مزدحمة مثل مصر الجديدة العديد من التحديات أمام المشرفين على تفاصيل الأمن الوقائي، حيث أن الشوارع ضيّقة وغالبا ما تتعرض إلى الانسداد جراء حركة المرور والسيارات المتوقفة، بالإضافة إلى الباعة المنتصبين في الشارع، زد على ذلك كثرة الدراجات النارية والهوائية والمترجلين.

كل ذلك يشكّل تهديدات محتملة لتوقّف موكب بركات في حركة مرورية بالغة التعقيد. كما أنّ الشوارع ذات الاتجاه الواحد تقلّص من فرص اختيار طرقات أخرى. وكما هو الحال في حالة التقاطعات، يتم السماح فقط لليمين أو اليسار بالتقدم بدلا من التقدم في الاتجاهين. ويمكن لجميع هذه العوامل أن تتضافر مع بعضها البعض لخلق نقاط اختناق.

وتعتبر الخيارات المحدودة الموجودة على الطريق، أمرا سيئا، ما يؤدي للوصول إلى نقاط الاختناق المروري، ويصبح الأمر خطرا عندما يصير جزءا من الروتين اليومي بين مواقع معروفة وإن كانت محمية مثل الإقامة أو المكتب. فنقاط الاختناق تعتبر نقاطا ملائمة لشن الهجوم.

وتحتاج التفاصيل الوقائية إلى تغيير طرقات وأوقات المرور بها. ولكن بالاعتماد على الموقع وحركة المرور، قد يكون من المستحيل تغيير بعض أجزاء الطريق، كما أنه من المستحيل أن تتنقل عربات مدرعة كبيرة عبر بعض شوارع المدن الضيقة. ويبدو أنّ فريق الحماية الأمنية الذي يرافق بركات حتى في بيته واجه هذه المعضلة.

فعند محاولة الخروج من المنطقة السكنية باستخدام شارع مصطفى مختار للوصول إلى شارع عمار بن ياسر المتكوّن من مسربين في كل اتجاه، يمكن للمرء أن يمر يمينا فقط عبر شارع مصطفى مختار من شارع سليمان الفارسي، وهذا يعني أن التقاطع، حيث وقع الهجوم، كان نقطة الاختناق.

وتشير تقارير إعلامية أن موكب بركات يمر عبر هذا التقاطع كل صباح. وتوضّح خارطة للمنطقة إلى أنه إذا كان بركات يقطن في شارع سليمان الفارسي، كان سيكون هناك طرق أخرى للخروج من الحي.

في حين قد يكون هناك عملية إنشاء طرق أخرى ما اضطره لاستخدام سليمان الفارسي المؤدّي إلى مصطفى مختار يوميا، والتفاصيل الوقائية قد تتسبب في رحلة صباحية روتينية من البيت إلى المكتب بدلا من اعتماد أوقات وطرقات مختلفة.

في كثير من الحالات، يرفض فريق الحماية تغيير جدول أعمال بركات، حيث قلّص من إمكانية اللجوء إلى الأوقات والطرقات المختلفة والتي يمكن أن تكون بديلا لما هو متعارف عليه. ورأى فريق الحماية أنه في سبيل توفير الحماية ليس أمامه من خيار سوى اتخاذ أقصر الطرق إلى الوجهة التي يقصدها النائب العام.

العربات المصفحة غير كافية

هناك العديد من التفاصيل الوقائية التي تجعل الإنسان الذي يقوم بحماية أحد الأشخاص يشعر بالرضا، بما في ذلك سنوات من حالة التأهب، دون وقوع أي حادث أو هجوم.

شيء آخر يمكن أن يؤدي إلى الشعور بالرضا عن النفس، وهو الشعور بالثقة المفرطة في التدابير الأمنية. وفي الأشهر الأخيرة في مصر، اعتمدت معظم الهجمات الإرهابية على نيران الأسلحة الصغيرة – مثل هجوم الثالث من يونيو الماضي، حيث أسفر إطلاق النار عن مقتل اثنين من ضباط الشرطة السياحية في الجيزة، أو باعتماد قنابل أنبوبية متفجّرة صغيرة الحجم كتلك التي يكثر استخدامها في هجمات تنظيم أجناد مصر.

ويمكن أن تكون العربة المدرعة فعّالة جدا في الحماية ضد مثل هذه الهجمات، ولكنّ قتلة بركات أخذوا بعين الاعتبار كل ذلك عند التخطيط لهجومهم، لذلك، اختاروا سيارة مفخخة قادرة على هزيمة السيارة المدرعة.

لم يكن الهجوم على بركات، الأول من نوعه، حيث أنه كانت هناك العديد من الهجمات التي تم تنفيذها بشكل “دقيق” ضد أهداف رفيعة المستوى في القاهرة في العامين الماضيين.

ففي يناير عام 2014، تم اغتيال اللواء محمد سعيد، أحد مساعدي وزير الداخلية المصري، بالرصاص وهو في طريقه إلى العمل. وفي سبتمبر عام 2014، فشلت محاولة اغتيال وزير الداخلية المصري محمد إبراهيم في عملية شبيهة باغتيال هشام بركات، حيث تم تثبيت سيارة مفخخة في أحد الزوايا عند نقطة الاختناق في منطقة سكنية قرب مقر إقامة الوزير.

التصدي للمراقبة

الواقع الصعب في الحماية هو أنه إذا تم السماح للمهاجم البارع بإجراء عملية مراقبة الهدف، فإنه سوف يكون قادرا على تقييم التدابير الأمنية، ومراقبة أنماط التنقل، وملاحظة نقاط الاختناق ومواقع الهجمات المحتملة، وتحديد الطرقات التي يمكن أن تكون عرضة للاستهداف.

وهذا ما حدث في اغتيال بركات، حيث أنّه من الواضح أن المهاجمين كانوا قادرين على التخطيط والتنفيذ من دون أن يتم اكتشافهم ومن دون تعرضهم لأي ضغوط، ومن الواضح أنه لا يجب إطلاق العنان للمراقبين للاطلاع على التدابير الأمنية والتخطيط لشن الهجمات.

فالأماكن الخاضعة للتفاصيل الأمنية، يمكن أن تكون خاضعة أيضا للمهاجمين. وبالإضافة إلى كون مراقبة ما قبل التنفيذ تعدّ مهمة للتخطيط إلى الهجوم، احتاج فريق الهجوم في اغتيال بركات أيضا إلى تأمين أماكن وقوف السيارات الخاصة وعملية تثبيت السيارات المفخخة.

وتشير بعض التقارير إلى أن السيارة المفخخة كانت رابضة وتم التحكم فيها عن بعد. إذا كان الأمر صحيحا، فهذا يعني أنه من الممكن أن يكون هناك شخص يراقب مقر إقامة بركات وأعلم المتحكّم في السيارة المفخخة بأن الهدف غادر مقر إقامته ويقترب من موقع الهجوم، وهناك حاجة إلى أن يكون للمتحكم في السيارة المفخخة رؤية واضحة لتفجير القنبلة في اللحظة المناسبة.

إبطاء الخطر في القاهرة

يسود اعتقاد أن أفرادا من جماعة أنصار بيت المقدس كانوا وراء اغتيال سعيد والهجوم الفاشل على إبراهيم. ولا شك أن هؤلاء الأشخاص لهم القدرة على تنفيذ هجمات قاتلة.

ومن الممكن أيضا أنّ أنصار بيت المقدس لم ينفذوا عمليات الاغتيال السابقة، أو أن أنصار بيت المقدس نفذوا الهجمات السابقة في حين أن جماعة أخرى هي التي اغتالت بركات. أوجه التشابه في مستوى التنفيذ بين الهجوم الفاشل على إبراهيم واغتيال بركات تشير إلى أن المخطط والمنفذ هو نفس الجهة.

ويعتبر الجهاز الإرهابي الذي تم استخدامه في حالة بركات مختلفا عن تكتيكات حرب العصابات التي يعتمدها تنظيم داعش في شبه جزيرة سيناء، مثل الهجمات واسعة النطاق في منطقة الشيخ زويد وتكتيكات أجناد مصر التي تستخدم القنابل الصغيرة ضد أهداف أمنية.

 وهناك اعتقاد بأن أنصار بيت المقدس في القاهرة لهم تحالف وثيق مع شبكة جمال محمد، وهي جماعة لقّبت باسم الزعيم السابق للجهاد الإسلامي المصري والذي تم اعتقاله في العام 2012. خلاصة القول، مهما يكن المسؤول عن اغتيال بركات، فالأكيد أنه لا يزال هناك لاعب إرهابي متطور في القاهرة، قادر على التخطيط وتنفيذ هجمات إرهابية معقدة ضد أهداف صعبة. مثل هذا الفاعل هو أخطر بكثير على الأهداف المحتملة من الشخصيات رفيعة المستوى مثل المسؤولين الحكوميين والدبلوماسيين، من أولئك الذين ينفذون عمليات من قبيل حرب العصابات مثل إطلاق النار العشوائي على رجال الشرطة أو السياح.