عانت مدينة بنغازي،كغيرها من المدن الليبية،من ويلات التنظيمات الإرهابية التي سيطرت عليها السنوات الماضية،ورغم أن تحريرها على يد الجيش الوطني الليبي قد بعث الأمل في عودة المدينة الى اشعاعها السابق،فان يد الارهاب الغادرة مازالت تتحرك لافساد مساعي البناء وتحقيق الأمن ومحاولة تشتيت جهود الجيش الليبي الذي يسعى منذ أشهر لتحرير العاصمة الليبية.

وبدد التفجير الإرهابي الذي وقع،الخميس 11 يوليو 2019، في مقبرة الهواري في بنغازي الهدوء النسبي شهدته ثاني أكبر المدن الليبية،خلال الأشهر الماضية.وادى الإنفجار الذي استهدف المشيعين لجنازة اللواء خليفة المسماري،القائد السابق للقوات الخاصة في الهواري ببنغازي إلى مقتل 4 أشخاص وإصابة 26 آخرين.

ولاقى هذا التفجير الخطير،تنديدا كبيرا حيث أعرب رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الفريق عبدالرازق الناظوري، عن إدانته للعمل الإرهابي الغادر الذي وقع بمقبرة الهواري في بنغازي أثناء مراسم دفن اللواء خليفه المسماري، ما أسفر عن قتلى وجرحى.مشيرا إلى أن "هذه الأعمال الجبانة لن تحط من عزائم القوات المسلحة ولن تؤثر قيد أنمله في استمرار التقدم وتطهير البلاد من هذه الجماعات التي تستخدم أقذر الأساليب في حربها".

وأدانت الحكومة الليبية المؤقتة بأشد العبارات التفجير الإرهابي،وقالت، في بيان لها إن هذه الأعمال الإرهابية الجبانة تهدف لبث صورة بأن مدينة بنغازي التي تم تطهيرها من قبل القوات المسلحة من قبضة الجماعات الإرهاربية لا تنعم بالأمن والاستقرار.وشدد البيان على أن القوات الأمنية تواصل ليل نهار تأمين البلاد والعباد من خلال اجتثاث الخلايا النائمة ومحاربة الجريمة والمليشيات الإرهابية التي تعمل على نشر الفوضى ونهب الثروات.

وفي السياق ذاته، أدان مجلس النواب الليبي بأشد العبارات الهجوم الإرهابي على مقبرة الهواري، الذي "نفذته أيادي الإرهاب المرتجلة المهزومة".وطالب المجلس، في بيان رئيس مجلس الوزراء بالحكومة الليبية المؤقتة ووزير الداخلية بالإشراف والمتابعة المباشرة للتحقيقات في الحادث للوصول الأيادي الآثمة من الخلايا النائمة من الإرهابيين التي تقف وراء هذا العمل، داعيا لمحاسبة جميع المقصرين والمتراخين من الأجهزة الأمنية.

من جهتها،أعربت اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان بليبيا، عن إدانتها واستنكارها الشديدين إزاء التفجير الانتحاري الارهابي.وقالت اللجنة في بيان إن هذه العملية الإرهابية والتي استهدفت المشيعين والمعزيين، تعتبر دليلاً آخر على ما تعانيه ليبيا من خطر الإرهاب ومن الجماعات الإرهابية المتطرفة التي تمثل خطرا وتهديدا كبيرين على الأمن والاستقرار والسلم الوطني والاجتماعي في ليبيا، مؤكدة على أن خطر الإرهاب والتطرف لإزال يفتك بليبيا ويقتل وينكل بأبنائها على يد الإرهابيين.

كما أدانت الهيئة العامة لرعاية أسر الشهداء والمفقودين في بنغازي بأشد عبارات الإدانة والاستنكار التفجير الإرهابي الجبان.وأكدت الهيئة أن هذه الأعمال الإرهابية الجبانة لن تثني الليبيين عن المضي قدما في إقامة الدولة الليبية المنشودة التي يطمح إليها كل الليبيين الشرفاء.وفي ذات السياق،أعربت المؤسسة الوطنية للنفط عن إدانتها للهجوم الذي استهدف المشيعين بمقبرة الهواري.وبينت المؤسسة الوطنية للنفط عبر صفحتها بموقع "فيسبوك" إن التفجير أدى لمقتل موظّف لدى شركة الخليج العربي للنفط خالد المسماري.

ويبدو أن التفجير الارهابي كان يستهدف قيادات الجيش الليبي حيث تحدثت تقارير اعلامية نقلا عن مصادر ليبية عن نجاة قيادات عسكرية كانت مشاركة في الجنازة بمقبرة الهواري ببني غازي، وعلى رأسهم قائد القوات الخاصة الليبية اللواء ونيس بوخمادة خلال التفجير الذي استهدف موكب الجنازة.

وأكد الناطق باسم الجيش أحمد المسماري أن منفذي التفجير رتبوا له بدقه حيث وقع التفجير الأول على بعد 20 متر من القبر الذي سيدفن فيه خليفة المسماري الأمر الذي أثار حالة ارتباك ودفع الناس للتراجع فوقع التفجيرين الثاني والثالث في المنطقة التي تراجع إليها الناس مشددا على نجاة آمر القوات الخاصة ونيس بوخمادة وجميع ضباط الصاعقة من الحادث.

وليست هذه المرة الأولى التي تستهدف فيها الجماعات الإرهابية،القيادات العسكرية في بنغازي،عقب اعلان انتهاء العمليات العسكرية فيها.ففي يناير/ كانون الثاني 2018،قتل ما لا يقل عن 41 شخصاً وأصيب أكثر من 80 آخرين، بينهم قيادات أمنية وعسكرية كبيرة وعناصر من الشرطة، بانفجار سيارتين مفخختين، في هجوم إرهابي يعد الأكثر دموية وبشاعة خلال السنوات الماضية.

وقتل في هذا التفجير الإرهابي،آمر وحدة القبض والتحري،التابعة للقيادة العامة للجيش الوطني،أحمد الفيتوري،ومعه مرافقه عبد الرحمن الجروشي، بينما أصيب مدير إدارة مكافحة التجسس بجهاز المخابرات، العميد المهدي الفلاح، بجروح طفيفة.وقالت مصادر أمنية،إن التفجيرين خطط لهما بإحكام ودقة عالية، وكانا يستهدفان تصفية قيادات أمنية وعسكرية هامة في مدينة بنغازي، وإسقاط أكبر عدد من القتلى في صفوف قوات الشرطة.

ومطلع إبريل 2018،تعرض قائد الاستخبارات العسكرية في غرفة عمليات الكرامة بالجيش الليبي صلاح بولغيب لمحاولة اغتيال،حيث قامت مجموعة مسلحة خارجة عن القانون بافتعال مشاجرة، وقاموا بإطلاق أطلقة نارية أسفرت عن إصابة بولغيب في صدره، ولاذو بالفرار.وتم نقل بولغيب إلى أحد المستشفيات العامة ببنغازي، حيث تم إجراء عملية جراحية له لإخراج الرصاصة.

وفي 18 أبريل 2018،تعرض رئيس أركان الجيش الوطني الليبي، الفريق عبد الرزاق الناظوري، الحاكم العسكري في منطقة  درنة - بن جواد،لمحاولة إغتيال إثر انفجار سيارة مفخخة، وضعت على قارعة الطريق في المدخل الشرقي لمدينة بنغازي بمنطقة سيدي خليفة، وانفجرت فور مرور موكبه بها.

هذا وشهدت بنغازي تفجيرات إرهابية بسيارات مفخخة إستهدفت القيادات الأمنية أو الشخصيات المؤثرة والهامة في المدينة، حيث وقع اغتيال الشيخ أبريك اللواطي، عمدة أكبر قبائل شرق ليبيا، في أيار/مايو 2017، إضافة إلى استهداف وزير الداخلية الأسبق، عاشور شوايل، مطلع العام 2017 ومحاولة اغتياله، وكذلك النقيب محمود الورفلي القيادي العسكري، والعقيد صلاح هويدي مدير أمن بنغازي، في عمليات منفصلة، نجوا منها جميعاً.

وتتجه أصابع الاتهام في الوقوف وراء الهجوم الأخير الذي استهدف مقبرة الهواري في بنغازي الى التنظيمات الارهابية التي مازالت تنشط بعض عناصرها في عدة مناطق ليبية خاصة في ظل الدعم التركي الذي تحضى به والذي جعل أنقرة في مرمى الاتهامات بالضلوع في التفجيرات خاصة بعد التهديدات السابقة للمسؤولين الأتراك باستهداف الجيش الليبي. 

واتهم المتحدث الرسمي باسم القوات المسلحة الليبية تركيا بالوقوف وراء التفجيرات الأخيرة.وقال اللواء أحمد المسماري،، في مؤتمر صحفي، إن "المدعو أردوغان" مسؤول بصورة مباشرة عن التفجيرات الإرهابية التي ضربت بنغازي، وفايز السراج دفع بشكل مباشر أموالا لبعض الخونة والإرهابيين في المدينة.وتابع أن استهداف الجماعات الإرهابية جنازة اللواء خليفة المسماري استمرار لجرائم تلك الجماعات في ليبيا، ولا توجد أي اختلافات بين الإخوان وداعش والقاعدة.

ولا يستبعد مراقبون ضلوع أردوغان في تفجيرات بنغازي من خلال دعم المتطرفين وهو ما تأكد بصورة واضحة خلال الأشهر الأخيرة.حيث يسعى النظام التركي لمساندة المليشيات الموالية له في العاصمة الليبية التي تشهد عمليات عسكرية منذ أبريل/نيسان الماضي بهدف تحريرها وبسط الأمن والاستقرار فيها.

ويبدو أن انتصارات الجيش الليبي والخسائر التي منيت بها المليشيات الموالية لتركيا قد أفقدت أٍدوغان اتزانه،حيث تحول الرجل ومسؤوليه الى خطاب تصعيدي خطير كشف فيه عن نواياه الواضحة التي تهدف لبسط نفوذ تركيا على ليبيا.ففي آخر تصريح له وصف أردوغان قائد الجيش الليبي المشير خليفة حفتر بـ"القرصان"،فيما وصف وزير خارجيته مولود جاويش أوغلو حفتر بأنه "لا يمتلك حسا إنسانيا ويستهدف الشعب الليبي بلا رحمة".

وكان وزير الدفاع التركي خلوصي آكار أعلن أن أنقرة سترد على أي هجوم، تنفذه قوات الجيش الليبي ضد "المصالح التركية"، وذلك بعدما كشف الجيش الوطني الليبي أن تركيا أصبحت دولة معادية وأن خسائر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في ليبيا ستكون كبيرة.واعتبر مراقبون إن التهديد التركي يعد خرقا واضحا للأعراف الدبلوماسية والقانون الدولي، كما أنه يعتبر اعترافا واضحا من أنقرة بالتدخل في الشؤون الليبية ليس فقط عبر الدعم السياسي، بل في تقديم الدعم العسكري للميليشيات في طرابلس.

وتتالت خلال الأسابيع الماضية مؤشرات التدخل التركي في ليبيا من شحنات السلاح مرورا بالضباط الأتراك الذين يقودون المعارك في صفوف المليشيات،والطائرات التركية المسيرة التي تقصف الليبيين،وصولا الى نقل المتطرفين من سوريا الى الأراضي الليبية بهدف عرقلة تقدم الجيش الليبي نحو فرض الأمن في البلاد.حيث تمثل الفوضى ستارا مثاليا لأردوغان لمزيد نهب الثروات الليبية أملا في دعم اقتصاد بلاده المهزوز جراء سياسات حزبه الذي بات يشهد انشقاقات كبرى.

وحول البصمات التركية في تفجيرات بنغازي،قال الدكتور محمد الزبيدي أستاذ القانون الدولي الليبي، أن الزاوية الأولى التي يمكن من خلالها قراءة الإقدام على تنفيذ التفجير الإرهابي في الشرق ترتبط بالعملية الدائرة في طرابلس، خاصة بعد اقتراب الجيش الليبي من قلب العاصمة، وبعد وصول تعزيزات كبيرة إلى قوات الجيش واقترابها من حي "الهضبة" التي تؤيد عمليات الجيش بشكل قوي ما يجعلها حاضنة مهمة للقوات المسلحة الليبية، وحال الدخول إليها يعني ذلك أن طرابلس أصبحت بيد الجيش.

ونقلت وكالة "سبوتنيك" الروسية عن الزبيدي قوله أن التقدم على الأرض، وكذلك الضربات الجوية التي نفذت ضد غرف التحكم في الطائرات المسيرة التركية، دفع الجميع للعمل خلف صفوف الجيش الليبي في الشرق، من خلال العمليات الإرهابية.مضيفا أن الخلايا النائمة، والذئاب المنفردة تعد أحد العوامل التي يجب أن تضع في الحسبان، خاصة في ظل صعوبة السيطرة على مثل تلك العناصر في أي دولة.

وتابع أنه وبحسب المعلومات التي توافرت حتى الآن رغم أن التحقيقات لم تنته بعد، فإن الحقيبة والقنابل اللاصقة التي استخدمت في التفجير هي ذات المتفجرات التي ضبطت على ظهر السفينة التركية القادمة من تركيا في ميناء "الخمس"، في ديسمبر/كانون الأول 2018، خاصة أن هذه الأسلحة اختفت فيما بعد ولم يتم إعادتها إلى تركيا أو التحفظ عليها، وهو ما يعني أنها وصلت إلى الجماعات الإرهابية في ليبيا.

ومدينة بنغازي، ثاني أكبر المدن الليبية،بقيت على مدار ثلاثة أعوام، منذ 2014 وحتى نهاية عام 2017، قاعدة لمختلف التشكيلات المسلحة، ومسرحاً للاقتتال بين مختلف التنظيمات الارهابية كأنصار الشريعة،و"داعش" وغيرها من الميليشيات المتعددة الولاءات والتوجهات.وحققت قوات الجيش الليبي النصر في صراع بنغازي بعد معارك مطولة ضد هذه التشكيلات التي تسببت في دمار المدينة الساحلية، لكن الجماعات المتطرفة مازالت تحاول زعزعة أمن المدينة عبر الهجمات الفردية والتفجيرات.

ويشير استهداف الارهابيين للمقابر الى مدى خطورة الأوضاع التي تلقى بظلالها على ليبيا في ظل تواصل حالة الانقسام التي تعطل جهود تحسين الأمن في البلاد.ويرى مراقبون أن تحرير العاصمة الليبية طرابلس بات ضروريا لانهاء حالة الفوضى ومنع التدخلات الخارجية التي تساهم في دعم العناصر المتطرفة لمنع ارساء سلطة موحدة وتحقيق الأمن والاستقرار في البلاد.