منذ ما يزيد قليلا عن ثلاثين عام، احتلت المجاعة الإثيوبية الأنباء بشكل منتظم. واجتذبت الروايات البشعة بشأن الوفيات التي وصلت إلى مليون شخص، الناجمة عن الجفاف والحرب الأهلية، انتباه وكالات الإغاثة، الحكومات المتعاطفة، والمنظمات العاملة في المجال الإنساني حول العالم. بينما كان العقد الماضي على نقيض ذلك، عندما تأرجح معدل النمو الاقتصادي الإثيوبي عند نسبة أفضل قليلا من 10 بالمئة. لقد كان التحول سريعا للغاية لدرجة أن بعض المراقبين المخضرمين وصل إعجابهم به إلى وصفه بالمعجزة الاقتصادية، بل ووصفوا إثيوبيا بـ"الأسد الأفريقي" الذي يذكر نجاحه بنجاح النمور الاقتصادية الآسيوية.

مدفوعة بنجاحاتها، تستمر الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية الحاكمة في التركيز على استراتيجية نمو اقتصادي مرتفع هادفة لجعل إثيوبيا دولة متوسطة الدخل بحلول العام 2025. بالنسبة للمتابع العادي، يبدو ذلك الهدف قابل للتحقيق على نحو متزايد. فإثيوبيا لا تنمو فقط، بل حققت أو اقتربت بالفعل من تحقيق بعض الأهداف الإنمائية للألفية الهامة لها، ومنها التعليم الابتدائي الشامل وخفض معدل وفيات الرضع. انخفض معدل الفقر في إثيوبيا من 44 بالمئة عام 2000 إلى 30 بالمئة عام 2011. وتنخفض معدلات البطالة، رغم أنها لاتزال مرتفعة. كما ارتفع عدد أصحاب الملايين في إثيوبيا أسرع من أي دولة أفريقية.

ولكن تلك النجاحات تحققت بمقابل. فقد نتج عن هوس الحكومة بتحقيق معدلات نمو مرتفعة بأي ثمن غضب وسخط شعبي واسع النطاق، يمتد الكثير منه بطول الخطوط الإقليمية والعرقية. تزعم الحكومة الإثيوبية أن ممارساتها، المشتملة على تأجير مساحات كبيرة من الأراضي لصالح الشركات الزراعية الكبيرة بعد إعادة توطين أو تهجير السكان المحليين، ضرورية لاستدامة النمو الاقتصادي. إلا أن تلك الصورة من "مصادرة الأراضي" أدت فقط إلى مستويات إنتاج مخيبة للآمال، انتهاكات لحقوق الإنسان، وسوء استخدام للسلطة. ونتيجة لذلك، ورغم الصعود الاقتصادي، إن حققت الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية الفوز في الانتخابات الوطنية والإقليمية المنتظر إجرائها يوم 25 مايو القادم، فسيعود ذلك لتكتيكاتها السياسية القمعية، مثل التحرش بالمعارضة، الحملات الأمنية القاسية على المحتجين، وسجن الصحفيين المنتقدين بأرقام قياسية.

كل ذلك جزء من الخطة. اعتقد رئيس الوزراء الراحل ملس زيناوي، وكذلك السنغافوري لي كوان يو، أن تحقيق قدر من الازدهار كان أساسيا قبل أن تتخذ الديمقراطية مسارها. ونتيجة لذلك، منذ صعود زيناوي إلى السلطة عام 1995، اتبعت إثيوبيا نهج "التنمية الاستبدادية"، معطية الأولوية للنمو الاقتصادي تحت إشراف الدولة على حساب حقوق الإنسان والتعددية السياسية الحقيقية. لكن بينما حققت تلك الاستراتيجية (التنمية قبل الديمقراطية) نجاحا حتى الآونة الأخيرة، من غير المرجح أن ذلك النجاح يمكن استدامته لفترة طويلة. حتى مع افتراض أن الحكومة تستطيع قمع الاضطراب العرقي والإقليمي المتصاعد، تمثل القدرة المالية المحدودة لإثيوبيا عائقا آخر خطيرا أمام النمو المستمر. تصل الاستثمارات العامة في البنية التحتية، الشركات المملوكة للدولة، ورأس المال البشري إلى 19 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي – وهو ثالث أعلى معدل في العالم – ويتجاوز القدرة المالية للبلاد. ما أدى إلى تعلق آمال الحكومة من أجل تحقيق أهدافها الطموحة للتنمية باستعدادها لتقليص سيطرتها على الاقتصاد، وافساح المجال للقطاع الخاص لملئ الفارق. سيتطلب ذلك إصلاحات ديمقراطية.

لقد بدأت بعض اصلاحات الحكم والاصلاحات الاقتصادية بالفعل. وهبط الفساد، حسبما أورد البنك الدولي، بشكل حاد خلال السنوات الأخيرة، حيث أصبحت إثيوبيا تحقق أعلى مرتبة في شرق أفريقيا على مؤشر البنك الدولي. علاوة على ذلك، ولأن القطاع العام يلعب ذلك الدور الرئيسي في الاقتصاد، أسست الحكومة لإصلاحات في مجال الخدمات العامة، والتي جعلت إثيوبيا في المركز الثاني بعد كينيا بين دول شرق أفريقيا على ترتيب البنك العالمي لفاعلية الحكومة.مع الأسف، كان التقدم في المجالات الأخرى محبطا. حيث كان لتاريخ الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية من الترهيب تأثير مروع على الديمقراطية لدرجة أن المعارضة تحتفظ حاليا بمقعد واحد بمجلس النواب الإثيوبي المتكون من 175 مقعد. فليس من المفاجئ أن تصنف إثيوبيا في المركز الأخير على مقياس البنك الدولي للوضوح والمساءلة، الاستقرار السياسي، وغياب العنف. منذ عام 2005، مرت إثيوبيا أيضا بانخفاض شبه مستمر على مقياس مؤسسة "هيرتاج هاوس" للتحرر الاقتصادي، حيث حلت في المركز الأخير بالمنطقة.

بينما تستمر الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية في الاصرار على أن عملها قد بدأ للتو والإشارة إلى أن الدول الآسيوية النامية احتاجت لعقود للوفاء بأهدافها الاجتماعية الاقتصادية والاقتصادية الكلية، تواجه الآن حواجز تمويلية ضخمة. فقد دفع الهبوط في الأرباح الحكومة نحو تمويل بعض مشروعاتها الأكبر طموحا عبر قروض دولية من الصين، الهند، والبنك الدولي. كما تمثل خيار تمويلي آخر في التمويل المباشر من البنك المركزي وإجبار البنوك الخاصة على شراء أذون خزانة مقابل معدل فائدة مخفضة. ولكن العودة إلى التمويل المحلى أدت إلى تفاقم ضغوط التضخم، حيث وصل التضخم إلى 40 بالمئة في مرحلة ما خلال أغسطس 2011.يسلط تقرير لصندوق النقد الدولي الضوء على المقايضات التي جرت في المعضلة المالية الإثيوبية. رغم تراجع التضخم إلى أرقام أحادية، قد يتسبب الاقتراض المفرط من النظام المالي لتمويل المصروفات الاستثمارية في ارتفاعه مجددا على نحو سريع. ولأن التضخم يصيب الجماعات العرقية والمناطق منخفضة الدخل بقوة وبشكل خاص، قد يتسبب ذلك بشكل شبه مؤكد في تحول السخط الاجتماعي الحالي إلى اضطراب خارج عن السيطرة. والبديل هو الاقتراض الخارجي، والذي قد يخفف ضغوط التضخم ولكن على حساب ارتفاع كبير في عبء الدين. ووفق حسابات صندوق النقد الدولي، وحتى تظل إثيوبيا داخل الحدود الآمنة للرصيد المحلي والدين الخارجي، سيكون عليها خفض أهداف النمو الخاصة بها إلى مستويات أكثر قابلية للتحقيق.

قد يكون النمو الأبطئ ضارة نافعة. فتجارب الدول الأخرى التي حاولت الحفاظ على مستويات عالية من النمو تشير إلى أن تلك الأساليب تخلق أضرار جانبية متزايدة الضرر.قبل وفاته بفترة قصيرة، تلقى ملس زيناوي بعض النصائح الحسنة من جاو تشي تشين بمنتدى الاستثمار الصيني. حيث حذره قائلا: "لا تفعل بالضرورة ما فعلناه"، مضيفا أن السياسات التي تسعى إلى تحقيق "نمو اقتصادي هائل" في الصين أثقلت البلاد بقدر ضخم من التلوث والظلم. وتابع: "أمامك ورقة بيضاء"، "حاول أن تكتب شيئا جميلا".مع الأسف، حتى النمو الأبطأ قد يمثل نقطة خلافية. فنموذج التنمية الإثيوبي بقيادة الدولة لن يمكن استدامته في النهاية إن افتقدت الحكومة القدرة على الحفاظ على المعدلات المطلوبة من الاستثمارات العامة. والبديل الوحيد الواقعي هو تقليص سيطرة الدولة على الاقتصاد، لتسمح للقطاع الخاص بدفع المزيد من النمو. إلا أنه حتى يكون قابلا للتطبيق، سيحتاج القطاع الخاص إلى حقوق ملكية أكثر أمانا، إنفاذ طرف ثالث محايد للعقود، تحرر افتصادي متزايد، وتعليم عام جيد – وجميعها عوامل تمثل أحجار زاوية للديمقراطية.

في حال أثبتت الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية عدم استعدادها للتخلي عن السيطرة ولسن الإصلاحات الضرورية، سيصبح النمو الاقتصادي أبطأ بشكل كبير وشبه مؤكد، لتبتعد أي احتمالية لتحقيق ديمقراطية قابلة للتطبيق وفعالة. وبدلا من ذلك، ستتخلف إثيوبيا بشكل حتمي إلى ذلك النوع من "الديمقراطية الانتقالية" المنتشر في أفريقيا. عبر عدم كونها ديمقراطية بالكامل أو استبدادية بالكامل، ستنضم إثيوبيا إلى صفوف دول مثل بوروندي، كوت ديفوار، أوغندا، زيمبابوي، في تبنيها المظاهر الخارجية للديمقراطية، مع تجاهلها للتفاصيل المزعجة، مثل السيطرة على الفساد والانتخابات الحرة والعادلة.صرح مسؤولو الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية مرارا أن الديمقراطية، مثل التنمية، تمثل أمرا وجوديا لإثيوبيا وأن الحزب ملتزم بشكل متساوي تجاه تحقيقهما. حان الوقت لتطبيق تلك الفلسفة. فنموذج التنمية الإثيوبي بقيادة الدولة استنفذ غرضه ويواجه الآن العوائد المتناقصة. كما تؤدي الكثير من الانتهاكات المرتبطة بذلك النموذج إلى حشد قطاعات واسعة من الشعب ضد الحكومة، والتي لن تتوافر لها الموارد للتغلب على تلك المقاومة. في المرحلة الحالية، يمكن استدامة النمو فقط إن سمحت الحكومة وشجعت تحولا إلى نموذج أكثر نشاطا مدفوعا من قبل القطاع الخاص. إن تمكنت الحكومة من تحقيق ذلك، ستتوافر الفرصة لتحقيق الإزدهار والديمقراطية في إثيوبيا