مثل الوضع الليبي المتأزم أمنيا وسياسيا واقتصاديا،خلال السنوات الماضية صورة قاتمة للبلد الذي عاش على وقع فوضى عارمة وغياب تام لمفهوم الدولة. وفي ظل الانقسام السياسي الذي ترتب عنه انقسام في كل مؤسسات الدولة واداراتها،عانت البلاد من فوضى ادارية اثرت بشكل كبير على فاعلية وأداء المؤسسات الليبية وهو ما زاد من معاناة المواطن.
لقد ادى انقسام المؤسسات السيادية الى انقسام مترافق في اغلب المؤسسات الليبية العامة والشركات،وتكرس ذلك أكثر منذ مباشرة مجلس النواب لإعماله في طبرق مقابل انقلاب المؤتمر الوطني العام على نتائج انتخابات 2014.وتواصل مسلسل الانقسامات بعد وصول حكومة الوفاق في طرابلس، التي تشكلت بناء علي الاتفاق السياسي الذي رعته الأمم المتحدة في مدينة الصخيرات المغربية في العام 2015.
وبالرغم من تتالي محاولات توحيد مؤسسات الدولة خلال السنوات الماضية فان الفشل كان القاسم المشترك لكل هذ المحاولات في ظل استمرار مسلسل الصراعات والخلافات بين الفرقاء.وفي 23 أكتوبر/تشرين الأول 2020،كان المنعرج الابرز في الازمة الليبية حيث تم توقيع اتفاق وقف اطلاق النار بين الفرقاء الليبيين في جنيف برعاية اممية وفتح هذا الاتفاق الباب امام سلسلة من المشاورات والاجتماعات ادت الى توافقات هامة وصلت في مرحلتها الأخيرة الى الاتفاق على تشكيل حكومة تنفيذية جديدة لتوحيد مؤسسات الدولة والتمهيد للانتخابات.
وسرعان ما تسارعت التحركات نحو توحيد مؤسسات الدولة والذي بدات ثماره في الظهور مع اعلان  النائب بالمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق أحمد معيتيق،الأحد 07 مارس 2021،انتهاء حقبة الانقسام المالي بين وزارتي المالية غرباً وشرقاً و"إسدال الستار عليها بشكل رسمي".وأكد معيتيق أن وزارة المالية بحكومة الوفاق أحالت مرتبات كافة موظفي الدولة الليبية بمختلف القطاعات والوحدات الإدارية إلى مصرف ليبيا المركزي واصفا هذا التطور بـ"اللبنة الأولى في طريق توحيد مؤسسات الدولة".
وفي يوليو 2021،أكد وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء بحكومة الوحدة الوطنية الليبية،عادل جمعة، أن "كل الوزارات تدار من العاصمة طرابلس"، منوهًا إلى "توحيد أغلب المؤسسات الإدارية بنسبة إنجاز بلغت أكثر من 90%". ولفت إلى أن "رئيس الحكومة عبدالحميد الدبيبة أصدر تعليمات باجتماع الجمعيات العمومية للمؤسسات التي كانت منقسمة بين حكومتي الوفاق والموقتة السابقتين".
وبالرغم من هذه التطورات الايجابية فان ملامح التعثرات بدت واضحة خاصة في ظل استمرار الازمات وتواصل الانتقادات. ففي سبتمبر 2021،وجه رئيس البرلمان الليبي عقيلة صالح، انتقادات لحكومة الوحدة الوطنية، قائلاً إنها زادت من تقوية مركزية السلطة في العاصمة طرابلس ولم تقم بتوحيد مؤسسات الدولة، كما لم تلتزم بالتوزيع العادل للمناصب الوزارية والحكومية ومجالس إدارات الشركات بين الأقاليم الثلاثة.
وانتقد صالح، في كلمة وجهها إلى رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة خلال جلسة مساءلته وفريقه، نقل صلاحيات فروع الوزارات والهيئات في المنطقة الشرقية إلى طرابلس، وطالبه بضرورة تحديد اختصاصات الوزراء والمسؤولين في الحكومة وتقديمها مكتوبة بصفاتهم إلى البرلمان حتى تتم مساءلتهم عنها كما دعاه إلى دفع مرتبات العاملين بجهاز الأمن الداخلي والقوات المسلحة والهيئة العامة للأوقاف في المنطقة الشرقية.
وتحاول ليبيا البلد الغني بالنفط التعافي من الآثار المدمرة للحرب والأزمات السياسية بخلاف جائحة فيروس كورونا ما تسبب بأسوأ أزمة اقتصادية تعيشها البلاد.ويعد توحيد المؤسسات الليبية من أهم الخطوات نحو تحريك اقتصاد البلاد الذي يكابد 10 سنوات من الحروب التي ألحقت به الخسائر،وفق مراقبين.
وعاد الزخم مجددا لمسالة توحيد مؤسسات الدولة مؤخرا خاصة بعد فشل اجراء الانتخابات في موعدها أواخر ديسمبر من العام الماضي.وفي هذا السياق أعلن فرعا البنك المركزي الليبي في شرق البلاد وغربها، إنهما اتخذا خطوة كبيرة نحو إعادة التوحيد، في إطار جهود السلام التي تدعمها الأمم المتحدة بين الفصائل المتنازعة هناك.
وقال مصرف ليبيا المركزي، في بيان له، إن محافظ المصرف في طرابلس صادق الكبير ونائبه علي سالم الحبري الذي يرأس الفرع الشرقي، وقعا اتفاقا بشأن خطة من أربع مراحل لإعادة التوحيد، بما يشمل تعيين شركة استشارات خارجية.وقال المكتب الإعلامي لمصرف ليبيا المركزي في الشرق، إن الفرعين وحدا مجلسي إداراتهما وبدآ العمل في اللجان الفنية.
يذكر أن مجلس النواب قد أقال محافظ مصرف ليبيا المركزي بطرابلس الصديق الكبير في سبتمبر من عام 2014، وكلف نائبه على الحبري بمهام المحافظ ما أدى إلى انقسام مصرف ليبيا المركزي إلى إدارتين؛ إحداهما في طرابلس يترأسها الكبير والأخرى في البيضاء يترأسها الحبري.وأحرز الفرعين المتنافسين تقدما على مدار العام الماضي صوب إعادة التوحيد بالكامل.
وكان محافظ المصرف في طرابلس صادق الكبير،قد قال لرويترز، الشهر الماضي،إنه يأمل في الانتهاء من المرحلة الأولى من إعادة التوحيد بحلول يوليو تموز،وجاء ذلك بعد اجتماعه مع الحبري،في العاصمة التونسية،للاتفاق على خطة مفصلة لإعادة التوحيد.وينتظر أن تساهم هذه الخطوة في تجاوز ليبيا لازماتها الاقتصادية الخانقة التي كرسها انقسام مؤسساتها المالية.
 وياتي هذا التطور في أعقاب تحركات جادة نحو توحيد المؤسسة العسكرية من خلال لقاءات القائد العام المكلف عبدالرازق الناظوري مع رئيس أركان قوات المنطقة الغربية محمد الحداد.والأسبوع الماضي، كشفت رئاسة أركان المنطقة الغربية في بيان نشرته عبر صفحتها على فيسبوك،أن الاجتماع تم خلاله بحث وضع آليات وخطوات منظمة وأساسية لتشكيل لجان مشتركة لتوحيد المؤسسة العسكرية، وبناء جيش ليبي موحد.وتابعت رئاسة الأركان أن الاجتماع كان بحضور عدد من رؤساء الأركان النوعية والهيئات ومديري الإدارات العسكرية.
واجتمع الحداد والناظوري بقاعة فندق المهاري في مدينة سرت الليبية للمرة الثانية خلال أقل من شهر، بحضور رؤساء الأركان ورئيسي وفدي اللجنة العسكرية المشتركة "5+5" من الجانبين.ولقي اجتماع الطرفين إشادة واسعة من قبل الليبيين، وترحيبا حارا من جانب المستشارة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة لشؤون ليبيا، التي أكدت دعمها لجهود قيادات الجيش الليبي الرامية إلى توحيد المؤسسة العسكرية.
وتشير هذه التطورات الى توجه ليبي صادق نحو اعادة توحيد مؤسسات الدولة وهو ما يمثل اولوية قصوى لاعادة البلاد الى وضعها الطبيعي بعد سنوات من الفوضى والصراعات.ويؤكد مراقبون أن الانفراجة الأخيرة التي شهدها الملف الليبي تعتبر الأبرز خلال السنوات الماضية وقد تمثل الفرصة الأهم والأخيرة امام الفرقاء لانهاء حالة الانقسام وبناء دولة المؤسسات القادرة على مواجهة التحديات محليا ودوليا.