من نافلة القول بأنه قد أصبح انتهاك القواعد القانونية ظاهرة شبه عادية، سواء في الأنظمة الداخلية، أو على صعيد العلاقات الدولية.

فقد يَحدُث أن يصدق رئيس الدولة على معاهدة من المعاهدات من غير أن يُراعي #الشرائط الدستورية المنصوص عنها في دستور الدولة؟ فما الحكمُ إذا تجاوز رئيس الدولة سلطته فصدق على المعاهدة دون سبق الحصول على إقرار السلطة النيابية، خلافًا لما يقضي به دستور بلاده؟ وما القيمة القانونية لهذا التصديق، الذي اصطلح الفقه الدولي على تسميته (بالتصديق الناقص) لأنه صدر فاقدًا لركن من أركانه الجوهرية؛ وهو العرض على السلطة التشريعية؟ وهل المعاهدة صحيحة ونافذة دوليًا؟ أم أن التصديق قد وقع باطلاً فلا ينتج أثاره الدولية؟

في البداية يجب أن نعلم بأن المعاهدات الدولية تمر بثلاث مراحل حتى نكون بصدد انعقاد معاهدة دولية مُنتجة لإثارها القانونية:
1-المفاوضات
2-التحرير والتوقيع
3- التصديق

#المرحلة الأولى: (المفاوضات) هي تلك المرحلة التي يتم فيها تبادل وجهات النظر بين ممثلي دولتين أو أكثر بقصد التوصل إلى اتفاق دولي بينهم، وتأخد المفاوضة وقتها؛ حتى يتم الوصول إلى تفاهمات وصيغ معينة ينتهي بها التفاوض.

#المرحلة الثانية: (التحرير والتوقيع)
وهي تلك المرحلة التي يتم فيها صياغة المعاهدة وكتابتها وتأطيرها بالشكل الذي تم الاتفاق عليه بين المُتفاوضين، ومن ثم يتم التوقيع عليها، ولا يعني توقيع ممثل الدولة على المعاهدة دخولها حيز النفاذ، حيثُ أن إجراء التصديق من قبل المجالس النيابية، وهي ثالث مرحلة لنفاذ المعاهدة بات أمرًا معمول به دوليًا، بعد أن نصت عليه معظم دساتير دول العالم، والتي أعطت للسلطة التنفيذية الانفراد بالتفاوض والتوقيع دون المصادقة.

وتجنبًا لأن -لا تقع- الدولة في أي التزامات دولية من خلال توقيع المعاهدة، فقد لجأت الدول طبقًا لما جاء في المواد (10- 12) من اتفافية فيينا للمعاهدات عام 1969 إلى التوقيع على المعاهدات بالأحرف الأولى، حيثُ يمر التوقيع بخطوتين:
الخطوة الأولى: التوقيع بالأحرف الأولى
الخطوة الثانية: هي التوقيع بالأسماء كاملة
وفي ذلك إعطاء فرصة للحكومات في مراجعة ما تم من اتفاق. فإذا ما وافقت الحكومة على المعاهدة يتم استكمال التوقيع، وإذا ما رفضت الحكومة في إطار سلطتها التقديرية عن التوقيع؛ يتم التراجع عنه، وتقف المعاهدة عند هذا الحد ولا تدخل حيز النفاذ.

#المرحلة الثالثة والأخيرة: ( التصديق)

#أولاً: موقف الفقه من مسألة التصديق الناقص وقيمته القانونية:
لقد انقسم الفقه إلى (ثلاث اتجاهات رئيسية) بشأن القيمة القانونية للمعاهدات الدولية، التي يتم إبرامها بِالمُخالفة للقواعد الدستورية السارية داخل الدولة:

#الاتجاه الأول: وهو الذي يرى أصحابهُ بأن التصديق المُخالف للقواعد الدستورية الداخلية لا يؤثرُ على المعاهدة ونفاذها، ويجب على الدولة أن تلتزم بها في إطار علاقاتها الدولية، وأن المعاهدة اكتسبت وصف الإلزام باعتبارها صحيحة ونافذة. ويؤسس انصار هذا الرأي لرأيهم من خلال أربعة أسانيد:
1- إن القانون الدولي لهُ الصدارة على القوانين الداخلية، فمسألة إخضاع الأحكام والنظم الدولية المتعلقة بالتصديق على المعاهدات لقواعد الدستور الداخلية؛ فهذا يعني تبعية القانون الدولي للقولنين الداخلية للدول. مما يتجافى مع الوضع الطبيعي للنظم القانونية.
2- إن تجاوز القواعد الدستورية للدول وعدم مُراعاتها؛ يجب أن لا يؤثر على صحة المعاهدة دوليًا، وذلك رغبةً في تحقيق استقرار العلاقات الدولية، دون النظر لما إن كان التصديق قد تم مُراعاة للأحكام الدستورية أو لم يتم. كما أن ذلك سيؤدي لتدخل الدول المتعاهدة في الشأن الداخلي لبعضها البعض، وتعمل على مراقبة تنفيذ الضوابط الدستورية في كلاً منها، فضلاً عن أن هذا الأمر يُعد تشكيكًا في تصرف رئيس السلطة التنفيذية، مما يُعد تجاوز لقواعد المجاملات الدولية.
3- يجب التمييز بين تكوين إرادة الدولة والإعراب عن هذه الإرادة، فمسألة الالتزام بالقواعد الدستورية الداخلية مسألة لا يُعنى بها إلا القانون الداخلي للدول؛ أما التعبير عن إرادة الدولة في علاقاتها مع أشخاص القانون الدولي يُمثلها رئيس السلطة التنفيذية للدولة، سواءً كانت قد مَثّل إرادة دولته بالشكل المُطابق لدستورها أو خرقًا له، فالدول لا تُعنى بذلك.
4- إن دخول المعاهدة حيز النفاذ ليس عملاً فوريًا، بل إنه يتم على مراحل كما سبق وأن أشرنا( المفاوضات، الصياغة، التوقيع) وتأتي في النهاية مرحلة التصديق. وهذا الأمر يعني بأن السلطة الداخلية للدولة كان لها وقتٌ كافي لمراقبة ومراجعة المعاهدة، فإذا ما تم التصديق عليها، فليس من المقبول أن تَدّعي الدولة بأن المعاهدة جاءت بالمُخالفة للضوابط الدستورية.

#الاتجاه الثاني: يرى أنصار هذا الاتجاه بأن المعاهدة إذا ما خالفت القواعد الدستورية الداخلية للدولة، فإن التصديق يقعُ باطلاً، ولا يُنتجُ أثرًا على الصعيد الدولي، ذلك أن التصديق ما هو إلا تعبير عن الإرادة الصحيحة، ويجب بالتالي الرجوع إلى الدستور؛ باعتباره هو السند الشرعي لوجود الهيئة الحاكمة في البلاد، وهو الذي ينشئها ويحدد اختصاصاتها. فإذا كان الدستور يقضي بوجوب تصديق المعاهدات حتى تُصبح نافذة؛ فإنه ليس لرئيس السلطة التنفيذية الانفراد بهذا الاختصاص والتصديق على المعاهدة، فإن أقبل على ذلك؛ فإنه يُعد عملاً قد تجاوز فيه اختصاصاته، ولا يترتب عليه أي أثر قانوني. فضلاً عن هذا فإن التطور الدستوري الحديث في غالب الدول -إن لم يكن جميعها- أوجب مشاركة المجالس النيابية في التصديق على المعاهدات، باعتبار أنهم ممثلي لمواطني الدولة، وعدم ترك السلطة التنفيذية منفردة بالتصديق على المعاهدة- لأنه بات أمرٌ غير مقبول من الناحيتين الداخلية والدولية.

#الاتجاه الثالث: هو الاتجاه الوسط بين الاتجاهين، فقد قالوا إن التصديق الناقص وإن كان -لا شك في ذلك- تصديقًا باطلاً من وجهة نظر القانون الداخلي، إلا أنه من المسلم به أن الدولة تسأل دوليًا عن تصرفات رئيسها، سواء تمت بالتطبيق لدستورها أو خرقًا له.

ولذلك أحاط أنصار هذا #الاتجاه كلاً من الجانب الداخلي والدولي ببعض المعايير والقيود؛ التي تهدف إلى تحاشي ومنع سوء النية. حيثُ قالوا بأن الانتهاك إن كان واضحًا للقواعد الدستورية الداخلية تكون المعاهدة باطلة، وإلا فإنها تكون صحيحة رغم ما قد يشوبها من عيوب دستورية.

وكذلك الدولة حسنة النية معذورة إذا ما اعتمدت على الأوضاع الظاهرة وتصورت أن التصديق الصادر من رئيس الدولة المتعاقد معها تصديق صحيح، لأن هذا هو الأصل، لذلك يعتبر التصديق (الناقص) صحيحًا احترامًا للأوضاع الظاهرة وحماية الدول على حسن نيتها.

أما إذا كانت الدولة الموجه لها التصديق سيئة النية، فلا مجال في هذه الحالة لحمايتها، لأنها كانت تعلم وقت وصول التصديق إليها بنقصانه، ومخالفته بشكل ظاهر للقواعد الدستوريةالداخلية، ومن ثم كانت حقيقة بطلانهُ أمامها ظاهرًا، ولذلك على من يّدعي سوء النية للدولة الموجه إليها التصديق الناقص عبء إثباته.

#ثانيًا: موقف اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات من مشكلة التصديق الناقص:

المادة (46) من معاهدة فيينا تنص على:
1- ليس للدولة أن تحتج بأن التعبير عن رضاها الالتزام بالمعاهدة، قد تم بالمخالفة لحكم في قانونها الداخلي يتعلق بالاختصاص بعقد المعاهدات كسبب لأبطال هذا الرضا إلا إذا كانت المخالفة بينة وتعلقت بقاعدة أساسية من قواعد القانون الداخلي.
2- تعتبر المُخالفة بينة إذا كانت واضحة بصورة موضوعية لأية دولة تتصرف في هذا الشأن وفق التعامل المعتاد وبحسن نية.

من خلال ما سبق يتبين بشأن #الاتفاقية الليبية التركية حول تحديد مجالات الصلاحية البحرية في البحر الأبيض المتوسط الآتي:

لما كانت حكومة المهندس فائزالسراج (الوفاق) جاءت كما يعلم الجميع عن طريق اتفاق الصخيرات #غير الدستوري، والذي لم يُضّمن إلى وقت كتابة هذا المقال إلى الإعلان الدستوري.

كما أن هذه الحكومة لم تنل ثقة البرلمان، وصدر في حق بعض قرارتها العديد من الأحكام القضائية التي تؤكد صحة بأنها حكومة غير دستورية، وكل ما يقع منها غير منتج لإثاره- من بينها حكم دائرة القضاء الاداري فى محكمة #استئناف البيضاء بتاريخ 10 أكتوبر 2016 فى الدعوة رقم 2016/116 و المرفوعة ضد المجلس الرئاسي ببطلانه، وقراراته؛ حتى يستوفي ما جاء فى الاتفاق السياسي من ضرورة تضمين الاتفاق فى الاعلان الدستوري، و نيل حكومة الوفاق ثقة مجلس النواب.
وكذلك -حُكمين سابقين- من القضاء بإبطال وإيقاف قرارين صادرين من الرئاسي؛ بشأن إعادة تشكيل لجنة تسييرية لإدارة الشركة العامة للكهرباء، وقرار المؤسسة الليبية للاستثمار لذات الأسباب؛ وهي انعدام الصفة واغتصاب السلطة.
ولما كان الإعلان الدستوري الليبي يؤكدُ على أن المعاهدات الدولية التي تُبرمها ليبيا، يجب أن يتم مصادقتها من الجهة التشريعية. ولما أشارت المادة (8) فقرة (2) من الاتفاق السياسي الذي ولد من رحمه المجلس الرئاسي على أن لحكومة الصخيرات ((عقد الاتفاقيات والمعاهدات الدولية على أن تتم المصادقة عليها من مجلس النواب))
فإنهُ طِبقًا للآراء الفقهية، وإعمالاً للمادة (46) من اتفاقية فيينا بشأن المعاهدات لعام 1969 فإن دولة تركيا دولة غير حسنة النية، وهي تعلم تمامًا الظروف الداخلية لدولة ليبيا،
وما تواجهه حكومة الصخيرات من عدم دستورية، حتى تبرم معها اتفاقية بدون الرجوع إلى السلطة التشريعية.
وهذا يعني بأن ليبيا -غير مُلتزمة قطعًا بهذا الاتفاق- ولا يقعُ على عاتقها أي مسؤلية دولية اتجاه تركيا بشأن هذا الاتفاق، الذي يتعارض بشكل واضح وجوهري مع القواعد الدستورية الليبية، كون أننا #نستند إلى أن التصديق ناقص من ناحية، ومخالفًا للقواعد الدستورية الداخلية لليبيا من ناحية أخرى، وهو عيبٌ واضحٌ وجلي، لا يمكن تصور أنه -لم تتفطن- إليه تركيا التي وجه إليها التصديق. لأنها كانت تعلم وقت وصول التصديق إليها بنقصانه، ومخالفتهِ بشكلٍ ظاهر للقواعد الدستوريةالداخلية.
وبهذا الصدد فلقد أُبرمت عام 1958 معاهدة خاصة بين كوستاريكا ونيكارجوا بشأن تعيين الحدود بين البلدين، وتم التصديق عليها من الجانبين، ولكن دون أن #تُراعي حكومة نيكارجوا القائمة وقتئذ نصوص دستورها. ثم حدث أن تغيرت حكومة هذه الدولة ودفعت الحكومة الجديدة ببطلان المعاهدة، ولم توافق كوستاريكا على بطلانها، فعُرض النزاع على التحكيم، وصدر قرار التحكيم عام 1988 لصالح نيكارجوا، على أساس أن صحة المعاهدة من الناحية الدولية يتوقف على صحة اعتمادها داخليًا.