شهد العالم العديد من النشاطات الاحتفالية بمناسبة الذكرى المئوية لمولد الأديب والفيلسوف العالمي البير كامو الذي ولد في قسنطينة / الجزائر ( نوفمبر 1913 / وتوفي في 1960)، وضمن هذه الاحتفالات تم اصدار “مفكرة ألبير كامو ” عن دار “غاليمار” ، الدار التي نشرت كل أعمال ألبير كامو، وبالتزامن نشرت دار “الآداب “البيروتية، بالتعاون مع مشروع “كلمة” بهيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، “مفكرة ألبير كامو” باللغة العربية وقد قامت بترجمتها الروائية والمترجمة اللبنانية نجوى بركات، في ثلاثة أجزاء، هي “لعبة الأوراق والنور” و”ذهب أزرق” و”عشب الأيام”.

ربما مثل ألبير كامو وجان بول سارتر أكثر الكتاب الغربيين تأثيرا في المتلقي العربي، وقد تربى جيل أو أكثر من المثقفين العرب على كتاباتهما الإبداعية منها أو طروحاتهما الفلسفية التي مثلت النسخة الفرنسية المبسطة من الفلسفة الوجودية ورمزها الفيلسوف الدنماركي سورين كيركيجارد، وقد كانت حقبة الستينيات من القرن الماضي فترة تلقف نتاج الكاتبين الكبيرين بما طرحته من أفكار وأيديولوجيا يسارية غير نمطية أو مقيدة بالأرثودوكسية الماركسية، بل كانت كتابات ذات سمات نقدية جريئة تتناول بالنقد الصارخ حتى التجربة السوفيتية.

وألبير كامو، مولود في قسنطينة بالجزائر عام 1913، من أب فرنسي، وأم أسبانية. تعلم بجامعة الجزائر، حتى حصل على اليسانس في الفلسفة، وانخرط في المقاومة الفرنسية أثناء الاحتلال الألماني، وأصدر مع رفاقه في خلية الكفاح نشرة باسمها ما لبثت بعد تحرير باريس أن تحولت إلى صحيفة Combat “الكفاح” اليومية التي تتحدث باسم المقاومة الشعبية، واشترك في تحريرها جان بول سارتر. ورغم أنه كان روائيا وكاتبا مسرحيا في المقام الأول، إلا أنه كان فيلسوفا.

 

العبثية والتمرد

كانت مسرحياته ورواياته عرضا أمينا لفلسفته في الوجود والحب والموت والثورة والمقاومة والحرية، وكانت فلسفته تعايش عصرها، وأهلته لجائزة نوبل فكان ثاني أصغر من نالها من الأدباء عام 1957. وتقوم فلسفته على كتابين هما “أسطورة سيزيف”( 1942) و”المتمرد” (1951) أو فكرتين رئيسيتين هما العبثية والتمرد ويتخذ كامو من أسطورة سيزيف رمزاً لوضع الإنسان في الوجود.

وسيزيف هو هذا الفتى الإغريقي الأسطوري الذي قدّر له أن يصعد بصخرة إلى قمة جبل، ولكنها ما تلبث أن تسقط متدحرجة إلى السفح، فيضطر إلى إصعادها من جديد، وهكذا للأبد، وكامو يرى فيه الإنسان الذي قدر عليه الشقاء بلا جدوى، وقُدّرت عليه الحياة بلا طائل، فيلجأ إلى الفرار إما إلى موقف شوبنهاور القائل:” طالما أن الحياة بلا معنى فلنقض عليها بالموت الإرادي أو بالانتحار”، وإما إلى موقف الآخرين الشاخصين بأبصارهم إلى حياة أعلى من الحياة، وهذا هو الانتحار الفلسفي ويقصد به الحركة التي ينكر بها الفكر نفسه ويحاول أن يتجاوزها في نطاق ما يؤدي إلى نفيه، وإما إلى موقف التمرد على اللامعقول في الحياة مع بقائنا فيها غائصين في الأعماق ومعانقين للعدم، فإذا متنا، متنا متمردين لا مستسلمين. وهذا التمرد هو الذي يضفي على الحياة قيمتها، وليس أجمل من منظر الإنسان المعتز بكبريائه، المرهف الواعي بحياته وحريته وثورته، والذي يعيش زمانه في هذا الزمان.

 

يوميات كامو

الجزء الأوّل من ثلاثية “مفكرة ألبير كامو” بعنوان “لعبة الأوراق والنور “، ويغطي المدة بين عامي 1935 و1942، في حين يغطي الجزء الثاني”ذهب أزرق” المدة ما بين يناير 1942 ومارس 1951. أما الجزء الثالث والأخير”عشب الأيام”، فينتهي في ديسمبر 1959 ويتألّف من الدفاتر التي دوّنها ألبير كامو بدءاً من مارس 1951 وحتى وفاته.

وتتناول الثلاثية يوميات تمتد على طول حياته الإبداعية، وهي في الأصل سبعة دفاتر يوميات كان ألبير كامو مواضبا على كتابتها لتشمل كل تفاصيل حياته الإبداعية والإنسانية، وقد اقترحت دار النشر تقسيم اليوميات إلى ثلاثة أجزاء، وقد تولى السيد روجيه كيليو تحرير الملاحظات الملحقة بالعمل والشارحة له، ووافقت زوجة ألبير كامو والسيدان جان غرونييه ورينيه شار على هذا العمل .

ويشكل هذا الكتاب بأجزائه الثلاثة خارطة عملاقة للمحطات الأساسية في عالم كامو الإبداعي : جغرافيا رواياته وبحوثه ومسرحياته ومارافقها من نوايا وشكوك ومخاض، حتى ليشعر القارئ أنه يستمع لحظة بلحظة الى صوت البير كامو الداخلي عبر اشتغاله على خلق شخوص اعماله وهي ماتزال مادة خاما قبل أن يعمل عليها ازميل المؤلف لاخراجها بالشكل الفني النهائي.

 

شفرات غامضة

تشير المترجمة نجوى بركات إلى الصعوبات التي اكتنفت عملها في ترجمة مفكرة البير كامو إذ تقول إنّها قضت عامين في ترجمة «المفكرة» بدفاترها وصفحاتها التي ناهزت الألف. هناك صعوبات كان لا بد من تجاوزها، فنصوص المفكرة هي أشبه بنوتات، كل فكرة من بينها لها روحها وعالمها ونبضها.

كتب كامو لنفسه، لهذا ترك لقلمه أن يسرد تعليقا على لوحة هنا ونقدا لشخص هناك، ولوما لآخر في مكان غيره، هذا عدا الاستشهادات التي جمعها لكتاب وفلاسفة للإفادة منها في كتابات يتحضر لإنجازها، من دون أن يوضح بالضرورة، وفي كل مرة، الغاية النهائية لما يسجله. كامو يتعرى أحيانا، يشرح نفسه، ينتقد بعض الظواهر، يعبر عن غضبه أو امتعاضه.
وتصف نجوى بركات هذه النصوص بأنها كانت “تشبه الشفرة أحيانا أو الحزازير، في أحيان أخرى” التي لا بد من فك غموضها، كي تتمكن من ترجمتها. فنقل هذا النوع من الكتابات يحتاج مترجما محبا لكامو، عارفا بكتاباته، كي يتمكن من فهم روح العمل، والتعمق في كنه المقاطع، وفهم مرامي تسجيلها.

وفي النهاية لابد من الإشارة إلى أنّ “مفكرة البير كامو “، ليست كتاب مذكرات أو يوميات عادي يمكن أن يشد القارئ العادي أو الكسول إذا جاز التعبير فهي “بازل” كبير أو نوع من الكلمات المتقاطعة يصوّر حياة أدبيّة لا يتمّ معناها ما لم تستقرّ فيها القطعةُ الصغيرةُ الأخيرة، السطرُ الأخير.

إنها كتاب الـ”ما قبل”إذا صحّ التعبير، أي ما قبل الانتهاء من كتابة”الغريب” و”الطاعون”و”الإنــسان المـتمرّد”و”أســطـورة سيزيف”و”العادلون”و”كاليغولا”وأعمال أخرى لم يُكتب لها أن ترى النور بعد الرحيل المفاجئ لصاحبها، لذا تراها أقرب إلى خريطة عملاقة تشير إلى المحطات الرئيسة في رحلة استكشاف كامو لجغرافيا الكتابة: رواياته وبحوثه ومسرحيّاته وما رافقها من أفكار وانطباعات ونيات وشكوك، من دون نسيان جغرافيا حياته الخاصّة ورحلاته وعلاقاته وصداقاته، لذا فهي كتاب للقارئ الذي يعرف جيدا عالم البير كامو ويريد أن يستزيد من سحر عوالم كتابته التي كانت مخفية حتى تم نشر هذه اليوميات.

 

*نقلا عن العرب اللندنية