تمر عملية صوغ السياسات التنموية الجديدة في بلدان الربيع العربية حتميا عبر اعطاء البعد الاجتماعي والثقافي الحيز الذي يستحقه في ذلك وفق طرح قدمه عدد من الباحثين أمس السبت أثناء أشغال الجلسة الصباحية الاولى من أعمال اليوم الختامي للمؤتمر السنوي للعلوم الاجتماعية والانسانية.

ودفع الباحث بمعهد الدراسات والبحوث الانمائية في جامعة الخرطوم عبد الحميد الياس سليمان في ورقة بعنوان نموذج تنموي جديد التحولات الثورية والتحديات التنموية في العالم العربي في اتجاه نموذج تنموي بديل انطلاقا من التجارب الدولية الناجحة مع مراعاة خصوصية أوضاع المنطقة العربية معتمدا في ذلك على المقاربة النظرية التي تستبطن الحراك الاجتماعي في النموذج الليبرالي التنموي.

ويستوجب نموذج التنمية المقترح حسب الباحث عددا من المرتكزات أهمها دور مؤثر للدولة التنموية والاعتماد على الموارد الذاتية وتعزيز برامج الحماية الاجتماعية الى جانب تقديم الخدمات والاندماج الفعال في السوق العالمية وتعزيز الاستثمار في رأس المال البشري.

ويفترض بهذا النموذج التنموي البديل المقترح توفر عدد من السمات على غرار التمتع بالقدرة على مجابهة التحديات التنموية الكبيرة التي افرزها تطبيق السياسات التقليدية لفترة زادت عن الثلاثة عقود فضلا عن تعزيز الروابط بين النمو ومعالجة القضايا الاجتماعية الماثلة.

وفي ورقة بعنوان «الجودة الاجتماعية والسياسات الاقتصادية بعد ثورات الربيع العربي... التحديات المحلية» ركزت الباحثة في علم الاجتماع بجامعة الاسكندرية سارة البلتاجي على موضوع السياسات الاقتصادية في دول الربيع العربي ومدى امكانية الوصول الى مجتمع الجودة في ظل التحديات التي تواجهها الدول التي شهدت ثورات في الفترة الاخيرة خاصة من خلال استقراء تجارب عدة دول غربية شهدت اوضاعا اجتماعية واقتصادية وسياسية مماثلة في مجتمعاتها مثل تجربة الشيلي واندونيسيا والبرازيل وجنوب افريقيا وبولندا والاستفادة منها.

وتوصلت الباحثة الى ان اوضاع ما قبل الثورات في دول الربيع العربي لم تختلف عما شهدته دول اخرى عاشت حراكا سياسيا تبعه ازدهار اقتصادي واجتماعي واستقرار سياسي ومن ثمة تبرز اهمية الاستفادة منه.

وخلصت الى أن الاعتماد على مؤشرات النمو الاقتصادي والناتج المحلي القومي يؤديان الى نتائج غير واقعية في ما يتعلق بمستويات الامن الاجتماعي والاقتصادي الحقيقية للمواطنين وهو ما يتفق حسب الباحثة مع مدخل الجودة الاجتماعية بشأن أهمية الاعتماد على مؤشرات اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية خاصة بأوضاع المجتمع على نحو متكامل.

سياسات شاملة

هذا وكانت مسألة صوغ سياسات تنموية مستقبلية في دول الربيع العربي تقطع مع السياسات المنتهجة في السابق والتي أثبتت فشلها على مستوى ارساء العدالة الاجتماعية والحد من نسب الفقر والبطالة يستوجب بالخصوص معالجة الاسباب الكامنة وراء اطلاق شرارة الثورات وتلبية المطالب الرئيسية للثائرين بدول المنطقة هي أبرز النقاط التي تطرق اليها عشية الجمعة الماضي الباحثون في اليوم الثاني من المؤتمر السنوي للعلوم الاجتماعية والانسانية الثالث الذي تحتضنه تونس هذه الايام.

وفي ورقة بعنوان البطالة وأزمة التنمية في الدول العربية دور العوامل المؤسسية والسياسات الاقتصادية الكلية رأى الباحث الدكتور المتخصص في التنمية البشرية وأسواق العمل والحوكمة عاطف عبد الله أن خفض معدلات البطالة العالية في الوطن العربي يعتبر من أبرز تلك التحديات التي توجب على واضعي السياسات في تلك البلدان العمل على خفضها من خلال صوغ سياسات تنموية شاملة.

وفي ورقة بعنوان حول العدالة الاجتماعية وسياسات الانفاق العام في دول الثورات العربية بيّن الخبير الاقتصادي علي عبد القادر على أن الثورات العربية بوصفها تسعى نحو تأسيس أنظمة حكم ديمقراطية فانه يتوجب عليها انشاء مؤسسات سياسية تعددية ومؤسسات اقتصادية تتمتع بقدر عال من الكفاءة.

وحذر هذا الباحث من أن المؤسسات الدولية المانحة للعون التنموي على غرار صندوق النقد الدولي تفتقر الى فكر تنموي جديد في مجال صوغ سياسات الانفاق العام يكفل تحقيق العدالة الاجتماعية المنشودة.

ودعا الدكتور أحمد الكمالي والباحثة المستشارة في البنك الافريقي للتنمية سماح شطا في مداخلة مشتركة لهما بعنوان هل يؤدي عجز الميزانية الى استبعاد الائتمانات الخاصة من القطاع المصرفي؟ (مصر نموذجا) الى ضرورة وضع سياسات وأنظمة أكثر حذرا من جانب المصرف المركزي للحد من العوامل الخارجية السلبية للمصارف التي يتمثل دافعها الوحيد في تعظيم الربح دون الاخذ في الاعتبار تأثير هذا الدافع على سلامة النظام المالي والاقتصاد الكلي بشكل عام.

العلاج ليس مستحيلا

واستعرض الباحث المتخصص في مجال الاحصاء واقتصاد التنمية عبد الرزاق بن الزاوي واقع السياسات التنموية في الجزائر قبل وبعد أحداث أكتوبر من سنة 1988 وخلص الى أن ضعف أداء النماذج التنموية في هذا البلد مرده أن معظم القرارات السياسية والاقتصادية كانت مبنية على الارتجالية والظرفية دون دراسة حقيقية وتحليل للواقع واستشراف للمستقبل.

أما الباحث الاستشاري في مجال التنمية الاقتصادية وادارة المشاريع قيس الارياني فقد بين في ورقة له بعنوان ربيع اليمن وتحديات التنمية أن تحديات التنمية في هذا البلد كبيرة لكنها ليست مستحيلة المعالجة وأن تحقيق الاصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي بها عملية معقدة نظرا الى صعوبة الاوضاع الحالية والتركيبة السكانية السياسية والمذهبية والاجتماعية بالغة التعقيد.

ودعا الباحث الحكومة الجديدة الى رسم مجموعة متكاملة من السياسات التي تعمل في جميع الاتجاهات لتصحيح التشوهات التي أصابت بنية الدولة اليمنية وتبني سياسات الاصلاح الاقتصادي جنبا الى جنب مع معالجة الوضع الامني واصلاح المنظومة القضائية.

زمن المراجعات

أكد باحثون مشاركون في أشغال الجلسة الصباحية للمؤتمر السنوي للعلوم الاجتماعية والانسانية الذي ينظمه المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات بتونس من 20 الى 22 مارس الجاري أن ثورات الربيع العربي أسقطت أنظمة الحكم ولكنها حافظت على جوهر الدولة الوطنية.

ففي الجلسة الاولى لورشة أطوار التاريخ الديمقراطي التي اهتمت بموضوع الزمن الانتقالي الاطار المفاهيمي والتي ترأسها الدكتور عبد الحميد هنية تطرق الباحث واستاذ الفلسفة السياسية والفكر العربي المعاصر كمال عبد اللطيف (المغرب) في مداخلته حول ما بعد الثورات العربية زمن المراجعات الكبرى الى مال الاوضاع العربية اليوم انطلاقا مما يسمى بأزمنة المراجعات الكبرى.

واعتبر أن القيام بمراجعات مهمة في باب مقومات ومقدمات العمل الثقافي والسياسي في المجتمعات العربية مهم في بناء توافقات تنسجم مع الافق الذي دشنه الفعل الثوريلحظة الاطاحة بأنظمة الاستبداد والفساد بغاية الوصول الى أهداف مرحلية محددة وصياغة اجراءات تمكّن من القطع مع المراحل السابقة واثارها.وفي موضوع الاطوار الانتقالية في التاريخ معاني الازمنة ومفاهيم التحقيب قدم الباحث حسن الحاج على ورقة بعنوان مراحل انتقال الثورات العربية مدخل مؤسسي للتفسير بين فيها أن أوضاع الانتقال بعد الثورات تعد مراحل مفصلية يتوقف عليها مسار الثورات المستقبلي في كل من تونس ومصر وليبيا.

الوسطية السياسية

وطرح رئيس قسم علم الاجتماع في المعهد العالي للعلوم الانسانية بتونس البشير التليلى في مداخلة بعنوان السوسيولوجيون العرب أمام التحولات الكبرى... الثورات العربية وانتاج المعنى مسألة التحولات العميقة التي وقعت في أغلب المجتمعات العربية وما أحدثته من تأثير مباشر أو غير مباشر في الوطن العربي.

وتناولت الجلسة الثانية التي ترأسها الباحث المولدي الاحمر موضوع أزمنة الانتقال العربية. وفي هذا الاطار اعتبر الباحث محمد الطاهر المنصوري في ورقة عنوانها الانتقال من العصور القديمة الى العصر الوسيط في افريقية أن مراحل الانتقال التي مرت بها افريقية لم تكن سريعة ولم تكن بينها وبين الماضي قطيعة.

وحاولت ورقة الباحث رفعت الضيقة بعنوان الدولة الوطنية العربية حالة انتقالية مستمرة الاجابة على سؤال يتعلق بامكانية مواصلة اعتماد مفهوم المرحلة الانتقالية اليومكأداة نظرية لتحليل واستشراف التحولات السياسية الاقتصادية التي يمر بها العالم بشكل عام والعالم العربي بشكل خاص.

واختتمت الجلسة بمداخلة للباحث ماهر تريمش بعنوان الوسطية السياسية والانتقال الديمقراطي بتونس رؤية سوسيولوجية اعتبر فيها أن حادثة انتحار محمد البوعزيزي كانت بداية المرحلة الانتقالية في تونس.وأشار الى أن تحليل هذه الحادثة من الجانب السوسيولوجي يبين أن غايتها ابطال البنية الثقافية المؤسساتية الاستبدادية والرغبة في مغادرة الخوف والصمت الذي كان سائدا طيلة فترة النظام السابق.هذا واختتمت اشغال المؤتمر السنوي الثالث مساء أمس السبت بموكب توزيع الجائزة العربية للعلوم الاجتماعية.في غياب اتحاد الشغل

عن" جريدة الصحافة التونسية"