أثارت دولة جنوب السودان عند استقلالها عام 2011 آمالا كبيرة كِبر مساحة البلد الذي انفصلت عنه ، لكنها سرعان ما انهارت في شهر واحد بسبب النزاعات السياسية والتلوينات العرقية التي أدخلت هذه الدولة الفتية في دوامة من العنف يجهل مداها.

انهيار سريع  للدولة الفتية ؟!

النزاع الذي يهدد بحرب أهلية شاملة، هو في ظاهره صراع على السلطة بين رجلين : الرئيس سلفا كير ونائبه السابق رياك مشار، لكن هذا الصراع  اتخذ عنوانا عرقيا بدخول قبيلتي الرجلين على الخط : الدينكا بالنسبة لسلفا كير والنوير بالنسبة لرياك مشار، وهو صراع لايمكنه بهذا الشكل إلا أن يدمر بلدا لم يخض بعد في مرحلة بناء مقومات الدولة. وقال مابيرو قرنق، نجل الزعيم التاريخي لحرب الاستقلال جون قرنق، وهو عضو في وفد حركة التمرد في مباحثات السلام الجارية في أديس أبابا "عندما ينتهي الأمر سنكون جميعا خاسرين".  

أما  جوك مادوت جوك المسؤول الحكومي السابق الذي يدير حاليا مركز الأبحاث "ذي ساد انستيتيوت" فيرى أن أبناء جنوب السودان باتوا يشهدون بلدهم "ينهار قطعة قطعة" وهم في حالة صدمة.

ولا يخفي المراقبون المتابعون للصراعات المعقدة اندهاشهم من السرعة التي تفجر بها الصراع على السلطة في جنوب السودان والإيقاع الذي اتسعت بها رقعة النزاع وضراوة أعمال العنف بين قبيلتي الدينكا والنوير.

شوائب الماضي المشترك

يجمع متتبعو الملف السوداني أن الأسباب العميقة لأعمال العنف تعود في الأصل إلى صراعات قديمة بين المتمردين الذين أصبحوا زعماء سياسيين ، وإلى  جراح الحرب الأهلية التي لم تندمل على مدى 20 عاما ، عمر الحرب بين المتمردين الجنوبيين وبين سلطات الخرطوم.

ويتابع هؤلاء أن السودانيين الجنوبيين ارتكبوا فظاعات ضد بعضهم البعض ، وهذا ما يفسر برأيهم جزئيا مدى السرعة التي اتسع بها النزاع الحالي ، خاصة وأن لا أحد خضع للحساب على هذه الفظاعات بعد انتهاء الحرب ، الأمر الذي ترك جروحا غائرة في قلوب ونفوس الكثيرين.

والحال أن الوضع على درجة ليست بالصغيرة من التعقيد ، فالمنظور القبلي  لا يمكن اعتماده وحده في ازمة جنوب السودان ، إذ أن قائد جيش كير من النوير كما أن وفد مشار في محادثات أديس أبابا يضم مسؤولين كبارا من الدينكا.

كما أن الاندماج السريع في الجيش لمختلف الفصائل المتمردة السابقة التي كانت بينها منافسات قديمة ، أخفى سطحيا الانقسامات العميقة والمتجذرة، فقط ليظهرها لكن سريعا وبتداعيات سلبية مدوية.

 

جنوب السودان أمام المحك

يمر جنوب السودان بتجربة تعتبر الأسوأ في تاريخ سكانه إذ فتحت الصراعات السياسية  جروحا غائرة لمعارك 1991 بين قبائل النوير والدينكا  ، وما يزيد من قتامة الوضع تخندق كل طرف ورفضه تقديم تنازلات للطرف الآخر .

أبرز التحديات أمام الدولة الوليدة كانت ذات صبغة ديمقراطية على ما يبدو ، حيث اتًهم سلفا كير بـ "الديكتاتورية" مطلع ديسمبر الماضي مع إقالته نائبه رياك مشار منافسه القديم .

كما أن هذه الدولة الفتية لم يظهر عليها أثر مليارات الدولارات من المساعدات الدولية والاستثمارات الخاصة التي انهمرت عليها بناء مؤسساتها ،  في وقت توالت التحذيرات المتكررة من الفساد المتفشي وخاصة سرقة مليارات الدولارات من النفط والتجاوزات التي اتهمت بها قوات الأمن.

 

مفاوضات .. وتشاؤم

ويؤكد بول مانيوك وهو تاجر هرب من المعارك في مدينة بور الاستراتيجية التي ما زالت تحت سيطرة المتمردين "أنها مناورات سياسية لكن النار الآن طالت القاعدة والمشكلة أصبحت قبلية".

التشاؤم من نتائج المفاوضات حاليا في اثيوبيا يكاد لا يكون حكرا على السياسيين والوسطاء ، إنما يتعداهم إلى قطاعات عريضة من سكان جنوب السودان الذين لا يخفون أن الأزمة المعتملة بلغت برأيهم منحى لا يبعث على التفاؤل لأن الحل ببساطة بعيد المنال. على الارض ، هناك ربما ما يشفع لهذا الاعتقاد، فالتقارير الدولية تتحدث عن مذابح بين المجموعات الاتنية ، الأمر الذي دفع بأعداد كبيرة إلى التفكير في النزوح طلبا للأمان.