منذ بدء الحرب في فبراير 2011 تأثرت المنظومة التعليمية في ليبيا، وسقطت في وضع اللامبالاة، وتحطمت أحلام الطلاب على صخرة الظروف الأمنية المتردية، إذ يظل الاطفال بمختلف مراحل تعليمهم الحلقة الأضعف والأكثر عرضة لويلات الحروب في العالم الحديث وما ينعكس على نفسيتهم من آلام وخدوش تنتهي باضطرابات نفسية عميقة.

حرب مستمرة ضد التعليم

لم تنته الحرب الليبية بسقوط نظام العقيد الراحل معمر القذافي، بل كانت وقودا لبداية مأساوية ودوامة متواصلة لتوترات الأمنية وحرب أهلية نتيجة صراع سياسي دام. فمع اندلاع الأزمة الليبية ونصف أطفال المشرَّدون داخليًّا في المناطق الشرقية من البلاد والعائدونَ إليها لا يذهبون إلى المدرسة، حتى أن بعضهم غادر مقاعد الدراسة والتحق طوعا أو كرها في أتون "الحرب الأهلية".

وتؤكد دراسات و بحوث أن انخفاض جودة التعليم أو انعدامه يعرض جيلا بحاله إلى البطالة أو انخفاض الأجور مما يجعلهم لقمة سائغة للمجموعات المسلحة التي توفر لهم مصدرًا للدخل والهيبة، كما تبرز ظاهرة تسرب الأطفال من مقاعدهم الدراسية كأحد أكبر المعضلات التي تواجه قطاع التعليم في ليبيا.

ففي صيف العام 2016، حذرت الأمم المتحدة من أن نحو 279 ألف طفل في سن الدراسة محرومون من الحصول على التعليم بسبب النزاعات العسكرية في ليبيا الغارقة في الأزمات الأمنية والسياسية، وقال مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (اوتشا) في تقرير أصدره إن البيانات الصادرة عن قطاع التربية والتعليم في ليبيا ترسم "صورة مثيرة للقلق بشأن إمكانية الحصول على التعليم".

وأوضح التقرير أن 558 مدرسة في مناطق متفرقة من ليبيا باتت تصنف على أنها معطلة عن العمل نتيجة الأضرار الجزئية أو الكلية التي لحقت بها جراء الصراعات العسكرية السابقة والحالية، فيما تحولت أعداد كبيرة منها في مدن مختلفة إلى ملاجئ لإيواء النازحين، ما يحول دون استغلالها لتعليم الأطفال.

وأغلقت غالبية المدارس في بنغازي، التي تشهد مواجهات مسلحة يومية، أبوابها منذ بداية الحرب فيها قبل أكثر من عامين، وتضررت بعض تلك المدارس جراء الحرب بينما تحولت أخرى إلى مساكن للنازحين الهاربين من مناطق الاشتباك. وفي نهاية العام الماضي، أعيد فتح أبواب نحو 70 مدرسة من بين 254.

وحسب التقرير، فقد تسببت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية داعش على سرت في حزيران/يونيو 2015 والحرب التي تشهدها حاليا بنزوح أكثر من 90 ألفا من سكانها البالغ عددهم 120 ألف نسمة.

وأوضحت المنظمة أن الغالبية العظمى من النازحين قصدوا 15 موقعا في مدن مجاورة بينها بني وليد وترهونة ومصراتة والجفرة التي فتحت جميعها أبواب مدارسها أمام العائلات النازحة، الأمر الذي بات يصعب حصول الطلاب على التعليم فيها.

من جانبه كشف تقرير اليونيسيف تحت عنوان “التعليم في خط النار”، أن تأثير العنف على تلاميذ المدارس في تسع مناطق من بينها سوريا والعراق واليمن وليبيا، أين يترعرع جيل بأكمله خارج النظام التعليمي، و من أبرز المخاطر التي تواجه الأطفال بهذه البلدان، تسرب الاطفال من المدارس، انتشار البطالة واستقطاب الشباب للعمل الحربي، فضلا عن انتشار الأمراض النفسية وأثرها على التحصيل مع تأكيد ثقافة الغش ومنح الدرجات العليا.

انقطاع مبكر عن الدراسة:

مع تنامي الفوضى الاجتماعية في ليبيا، بات من المألوف جدا رؤية الأطفال أمام مؤسسات الدولة و عند تقاطع الطرق تمد أيديها تطلب المال من المارة وأصحاب السيارات، كما يمارسون أحيانا شكل أخر لا يبعد عن التسول وهو بيع مناديل الورق في أوقات المدرسة.

هذه الظاهرة وبحسب متابعين، لها تبعات بحيث ومع طول فترة التسول وبيع المناديل يتعود الولد أو البنت على حمل المال مما سيشجعهم على ترك الدراسة، ما يجعلهم كذلك عرضة لاستغلال أخطر من التسول ألا وهو تجارة المخدرات والدعارة والانخراط في تنظيمات إرهابية للانتقام من المجتمع الذي لم يلتفت لهم وتركهم على قارعة الطريق يتسولون ذكور وإناث.

لا يختلف اثنان أن تكلفة الصراع الحربي شوهت رؤية أطفال ليبيا للمستقبل، فمن لم يفجع بفقد أبيه أو أمه ويقع فريسة التسول أو في فخوخ المخدرات أو داعش، بالتأكيد وبدون استثناء، عاش رعب الحرب وولولة صواريخه وطقطقت رصاصه.

استقطاب الأطفال و الشباب للعمل الحربي

مع تصاعد الصراع السياسي بعد سقوط القذافي بدأ السياسيون، بدون استثناء، بإيقاع الشباب وحتى الأطفال في شباك الإغراءات التي يقدمونها للمجموعات المسلحة الداعمة لهم، من خلال الرواتب المغرية، مما دفع العديد من الأطفال و الطلاب لمغادرة مقاعد الدراسة و الانخراط في الجماعات و الكتائب المسلحة، و الانخراط بساحة الحرب الأهلية.

ففي ظل النقص الحاد للسيولة و غياب التمويلات التنموية حتى الحياتية منها في مختلف مناطق و ربوع ليبيا، وجد العديد من الأطفال و الشباب طريقهم معبدا للالتحاق بالجماعات المسلحة، فنتيجة للحروب المتصاعدة منذ 17 فبراير 2011، وجد جيل كامل نفسه في أتون الرصاص بعيدا عن الدراسة.

في العام 2016 أعفى تقرير للمنتدى الاقتصادي الدولي، أو ما يعرف بـمنتدى «دافوس» ليبيا من الظهور في نتائج التقييم إلى جانب كل من سورية واليمن والعراق على اعتبار أنها دول لا تتوافر فيها أية معايير تخص جودة التعليم.

وأشار التقرير نفسه إلى نقص حاد في تدريب المعلمين، حيث تم تصنيف ليبيا في المرتبة 140 من أصل 144، وأورد أن النظام التعليمي الليبي يعاني نقص المعلومات، ولا سيما البيانات المتعلقة بكفاءة أداء المعلمين ومدراء المدارس.

مدارس تحتاج للصيانة

صيف العام 2016 أعلنت وزارة التعليم بحكومة الوفاق الليبية، عن وجود ما يناهز 4200 مدرسة على مستوى البلاد تحتاج 60% منها إلى صيانة، ولن تفي شركات الصيانة المتعاقدة مع وزارة التعليم بالتزاماتها تجاه صيانتها، ويرجع ذلك إلى ارتفاع تكلفة الصيانة وتغيّر سعر الدولار الحالي عن المتفق عليه سابقا في التعاقدات، مما أضطر إلى تأجيل الدراسة وهو ما اعتبره رئيس قسم التفتيش التربوي بوزارة التعليم بالحكومة المنبثقة عن مجلس النواب حمد حداد أن تأجيل الدراسة أمر طبيعي، نظرا لسوء الظروف الاقتصادية التي تمر بها البلاد، وعدم توفر السيولة المالية لتغطية مصروفات شركات المناولة لنقل الكتب.

ففي سرت فقط، وقع تدمير 65 مدرسة خلال الحرب التي دارت هناك، سواء خلال الحرب ضد نظام معمر القذافي أو الحرب على تنظيم داعش، من بينها 25 مدرسة تحتاج إلى صيانة كاملة، حسب إحصائيات رسمية، وهو ما اضطر العديد من العائلات إلى ترك المدينة والتنقل إلى مناطق أخرى من أجل تدريس أبنائها، أما البعض الآخر فقد اضطر إلى التعلم في مدارس لا تتوفر فيها أدنى الاحتياجات والمقومات اللازمة.

ويرجع تلاميذ ليبيا سبب الحالة التي وجدوا عليها مدارسهم إلى تواصل العنف والفوضى في البلاد والتي عاثت فيها فسادًا، بالإضافة إلى تخاذل السلطات وانشغالها بالصراعات السياسية والتنافس على السلطة، مما أبقى الوضع على حاله رغم تقدّم الوقت والأضرار التي لحقت بالتلاميذ الذين يدرسون في بيئة دراسية سيئة.

وفي أغسطس 2017، كشفت دراسة قامت بها منظمة اليونيسف وبالشراكة مع المركز الوطني لمكافحة الأمراض في ليبيا عدم كفاية وسوء نوعية مياه الشرب ومرافق الصرف الصحي في 54% من المدارس التي تم تقييمها في غرب وشرق وجنوب ليبيا، مما يعرض الطلبة لخطر المشاكل الصحية، ولا سيما الأمراض المنقولة عن طريق المياه، ومطلع سبتمبر الماضي أعلنت وزارة التعليم بحكومة الوفاق الوطني التي تتخذ طرابلس مقرًا لها، توزيع ما يزيد على 7 مليون دينار ليبي من ميزانية الطوارئ لصالح دعم وتهيئة المدارس لاستقبال العام الدراسي 2017/2018، غير أن هذا المبلغ لم يكن كافيًا لترميم ما خلفته الحرب.

تشير بعض الدراسات إلى أن تكاليف الحرب الأهلية على التعليم من ناحية اقتصادية تنقسم إلى الأتي:

- الأطفال المتسربون من التعليم ولم يتمكنوا من أكمال تعليمهم الابتدائي سيتقاضون رواتب وأجور زهيدة وتقدر بأقل بـ32% عن زملائهم الذين أكملوا دراستهم الثانوية، وبنسبة 56% أقل من الذين استمروا إلى إنهاء المرحلة الجامعية.

- تكلفة اقتصادية مباشرة تتمثل في الصرف على أعادة بناء ما دمرته الحرب وسببته من تخريب وما ضاع من وسائل تعليم ومختبرات تعليمية.

- الحاجة لإعادة تأهيل وتدريب بعض المعلمين والمعلمات الجدد.

- غياب الطلاب عن المدارس بالتأكيد له تكلفة من الناتج المحلي.