في نهاية العام 2018، اشترى الفنان التشكيلي الجزائري رشيد قريشي البالغ من العمر 74 عاما قطعة أرض في منطقة جرجيس، جنوب تونس،القريبة من الحدود مع ليبيا، يحيط بها أشجار الزيتون ليحولها في ما بعد إلى "حديقة إفريقيا" حيث يدفن فيها المهاجرين الذين يلفظهم البحر قائلا"أردت أن أمنحهم جزءا من الجنة" بعد معاناتهم الطويلة في رحلة الموت بحثا عن الفردوس القابع خلف البحر.

"حديقة إفريقيا" بمدخلها الأنيق قديم التصميم بأسلوب هندسي تونسي يعود للقرن السابع عشر،ما إن تلجها حتى يبهرك جمالها الهاديء ورائحة الياسمين التي تفوح من جوانبها  الذي يمنح السلام للقبور المترامية على جوانب مسالك صغيرة مغطاة ببلاط من السيراميك متفرعة عن مسلك رئيسي من السيراميك المزخرف باليد، و أشجار الزيتون المغروسة هنا وهناك بعناية والزهور التي تضفي على المقبرة بقبورها البيضاء سحرا خاصا، تعلو الحديقة  قبّة بيضاء وقاعة صلاة لمختلف الأديان، "جزء من الجنة" يعمها السلام منحها الفنان الجزائري للمهاجرين بكل حب وعطاء .

قامت المديرة العامة لليونسكو اودري أزولاي الأربعاء الماضي، بتكريم  الفنان الجزائري رشيد قريشي بتسليمه شجرة السلام وذلك في إطار زيارتها إلى مقبرة المهاجرين "حديقة إفريقيا" التي أنشأها في حركة انسانية لتكريم ضحايا الهجرة غير النظامية الذين خسروا حياتهم بطريقة مأساوية عند محاولتهم اجتياز البحر المتوسط واستقبلت مدينة جرجيس أعدادا كبيرة منهم.

وخلال تسليمها تمثال شجرة السلام الذي يتخذ هيئة غصون متشابكة تحمل هيئة حمائم طليقة الجناحين مجسدا قيم السلام، قالت المديرة العامة لليونسكو إنها مناسبة هامة لتحية ما أنجزه الفنان رشيد القرشي الذي أهدى لموتى البحر الأبيض المتوسط أطفالا ونساء ورجالا ما استطاع من الجمال ومن أثر لوجودهم لعائلاتهم إذا ما بحثت عنهم وتجهل مصيرهم.
 وأضافت أزولاي أن زيارة مثل هذه المقبرة بالشكل الذي تحمله من جمالية يخفي آلاما ومأساة ويحمل عميق التأثر ويمس المشاعر بما يقيم الشهادة على مبادئ الانسانية المشتركة وعلى الحق في الكرامة لكل البشر وفي العدالة الانسانية.

مقبرة تونسية تقدم نصب تذكاري حي لـ "مهاجرين مجهولين"


 ومن جهته اعتبر الفنان رشيد القرشي أن إقامة مقبرة لضحايا الهجرة غير النظامية ليست الا تكريما للانسان مهما كانت ديانته او انتماؤه ولتكون رمزا للانسانية في رسالة واضحة للعالم بحفظ الذات البشرية واحترامها وتكريمها حية او ميتة، مضيفا ان منحه تمثال السلام وحضور اليونسكو رسالة اعتراف وتقدير لجهود بلد حفظ كرامة الموتى دون مساعدة من أي بلد.
 وتمتد هذه المقبرة او "حديقة افريقيا" أو "القصر "كما يحلو للفنان رشيد القرشي تسميتها، على مساحة 2500 متر مربع بطاقة استيعاب لنحو 600 قبر ثلثها تم استغلالها بسبب تواتر وصول الجثث على الجهة وخاصة بسواحل جرجيس وجربة، حيث لم يمض وقت طويل على تدشين المقبرة حتى امتلأ نصفها.

يموّل الفنان رشيد قريشي المشروع بأكمله من مدخراته الخاصة ومن نقوده التي يجنيها من بيع لوحاته، وكان باع عددا من أعماله الفنية لجمع المال في البداية والانطلاق في مشروعه بعد أن ظهرت العديد من العراقيل في عملية دفن الجثث التي يتم انتشالها من البحر، في مدينة جرجيس التي يعيش فيها العديد من الصيادين.

وقال الفنان الجزائري رشيد قريشي في تصريح إعلامي إنه أراد بـ"حديقة إفريقيا" منح المهاجرين المدفونين "الذين قضوا في البحر"، "واجهوا الصحراء والعصابات والإرهابيين"، وأحيانا التعذيب ثم الغرق، و" جزءا من الجنة" بعد جحيم محاولات العبور على أمل تحسين حياتهم.

ويتم انتشال الجثث من البحر بعد حوادث غرق، أو تصل أحيانا الى الشواطىء في الجنوب التونسي بسبب التيارات البحرية، وغالبا ما تكون لأشخاص خاضوا المغامرة انطلاقا من لبيبا أو من تونس. وقد امتلأت مقبرة البلدية المخصصة لدفن المهاجرين، إثر وصول مئة جثمان في يوليو 2019، وكان من الضروري حفر قبور في "حديقة أفريقيا" حتى قبل الشروع في بنائها. ومنذ ذلك التاريخ بدأت تكتظ بالجثث كل أسبوع وخصوصا خلال فصل الصيف إثر تزايد محاولات العبور من تونس وليبيا. ويقول قريشي في هذا الشأن "نسعى إلى شراء قطعة الأرض المتاخمة لتوسيع المقبرة".

وتمثل الهجرة غير الشرعية قضية تؤرق بلدان حوض المتوسط وتتسبب في كل مرة إما في مأساة إنسانية يكون ضحاياها بالمئات أو مأساة دبلوماسية بين دول الإقليم سعيا لمحاربة هذه الظاهرة التي تزداد تفشيا متحدية كل العراقيل. وحسب إحصائيات الأمم المتحدة، هناك أكثر من 21 ألف وفاة بين مهاجرين ولاجئين مسجلة منذ العام 2014 في البحر الأبيض المتوسط.