كانت هناك احتفالات في المغرب وبيانات تهنئة من جميع أنحاء العالم في 17 ديسمبر 2015، عندما وقّعت مجموعة من قادة ليبيا أخيرا اتفاقا لإنهاء الأزمة السياسية التي مزقت البلاد منذ أواخر عام 2013. وحتى الآن، لم ينفذ الاتفاق السياسي، على الرغم من وعوده بإعادة الوحدة السياسية، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي، وبمساعدات أمنية دولية كبيرة.

استمرار التأخير في التنفيذ ، يقوض شرعية الاتفاق ويزيد من خطر تدهور الوضع. هناك العديد من العوائق التي تحول دون التنفيذ، أحدها حقيقة أن الليبيين لم يخوضوا عملية مصالحة وطنية للتغلب على المظالم وعدم الثقة التي تراكمت على مدى أربعة عقود من الديكتاتورية ، وسنوات من الاضطرابات الداخلية منذ عام 2011. فالتناحرات الداخلية على أساس المنطقة والمدينة والقبيلة والفصائل السياسية ، والعرقية، والعضوية في الميليشيات حلت محل القمع الديكتاتوري. تكاليف هذه الفرقة المتعددة صارخة: لقد فقدت ليبيا مليارات الدولارات من العائدات بسبب معارك السيطرة على قطاع النفط. كما أن ما يقرب من 5000 شخص قتلوا بسبب عدم الاستقرار منذ عام 2014، عندما أصبحت ليبيا مقسمة رسميا سياسيا.

ولعل العائق الأكبر أمام التنفيذ هو دور الجنرال خليفة حفتر، قائد القوات المسلحة الليبية. ورغم أن وزير الخارجية جون كيري لم يذكره بالاسم في بيانه في فيينا بعد اجتماع لدعم ليبيا في 16 مايو أيار، فقد كان حفتر حاضرا في ذهنه ، عندما قال "معارك الأفراد العاملين لمصالحهم الخاصة تقوض الأمن في ليبيا، وأن ليبيا تقف على مفترق طرق بين مصير الفوضى التي تغذيها الخصومات الشخصية ، أو الوحدة والسلام". وتنص المادة الثامنة من الاتفاق الحالي على أن مجلس الرئاسة يجب أن يكون القائد الأعلى للجيش الليبي، الذي يسيطر على تعيين وفصل جميع كبار المسؤولين الأمنيين. في الواقع، فإن هذا المقتضى يعطي مجلس الرئاسة تحكما في مصير حفتر. وقد جعلت الحكومة شرق ليبيا المؤيدة لحفتر، من إزالة هذه المادة أحد شروطها القليلة للاعتراف بحكومة الوفاق الوطني.

هذا المأزق يؤكد حاجة الليبيين لأن يقرروا للمرة الأخيرة وإلى الأبد طبيعة العلاقة التي يجب أن تكون بين الجيش و المؤسسات المدنية في ليبيا، وعلى وجه التحديد الدور الذي يمكن أو سيلعبه حفتر في مستقبل البلاد. وقد كان هذا أيضا مأزقا صعبا بالنسبة للحكومات الغربية التي تتأرجح في سياسات الشرق الأوسط  بين إعطاء الأولوية لمكافحة الإرهاب والأمن، ومصالح المدى الطويل مثل الاستقرار السياسي وسيادة القانون وحقوق الإنسان. ولئن ساهم حفتر في جهود مكافحة الإرهاب ضد جماعات مثل داعش، وخصوصا في بنغازي، فقد ساهم بتقويض الاستقرار في ليبيا على المدى الطويل.

دور حفتر
يدير حفتر واحدة من أقوى الكتل الأمنية في ليبيا. منذ أن بدأت عملية الكرامة لمكافحة الإرهاب في شرق ليبيا قبل عامين، كانت الدول الغربية متباينة بشأنه. وبينما يتقاسم الكثير منها نفس الأعداء مع حفتر، كانت هناك أيضا شكوك عميقة لدى بعضها من أن وضعه يمكن أن يقوض المؤسسات المدنية الضعيفة لما بعد الثورة والمصالح العريضة للشعب الليبي.
من جهة، كانت هناك تقارير واسعة الانتشار حول استقرار قوات فرنسية خاصة في بنغازي منذ شهور لدعم الجيش الليبي بقيادة حفتر كما أن أطرافا أجنبية رئيسية مثل وزير الخارجية الإيطالي باولو جينتيلوني شدد على ضرورة أن يكون لحفتر دور في مستقبل ليبيا، شريطة أن يلتزم بالرقابة المدنية ممثلة في حكومة الوفاق الوطني. ومن ناحية أخرى، رفض حفتر مؤخرا لقاء مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا مارتن كوبلر، فيما أعرب حلفاء رئيسيون مثل كبار المسؤولين البريطانيين عن القلق من العمل مع حفتر. وعلاوة على ذلك، يخشى كثيرون من أن تشعل مجددا مساعدة حفتر العنف السابق بين الفصائل ، بما يقوض الاتفاق السياسي الهش الذي تم التوصل إليه في وقت سابق من هذا العام.

الشعب الليبي نفسه منقسم بين أولئك الموجودين في الشرق وحول بنغازي ممن ينظرون إلى حفتر باعتباره الأمل الوحيد في البلاد للاستقرار وأولئك الذين يرونه بمثابة عودة مطلقة للقمع في عهد القذافي. كثير من الليبيين الآخرين الذين تعاملت معهم وجدوا أنفسهم أيضا في وسط هذا النقاش: لا نثق في حفتر ودوافعه، ولكن هو شر لا بد منه في المعركة ضد العدو المشترك، شريطة أن يخضع للرقابة المدنية.
حفتر والسياسة الليبية
قال حفتر مرارا إنه ليس لديه مصلحة في السياسة. ولكنه يستخدم قوته العسكرية للتأثير على السياسة، مثل العديد من قادة الميليشيات في المشهد السياسي الليبي متعدد ألوان الطيف منذ عام 2011. ومن الناحية النظرية، يخضع حفتر لرئيس البرلمان المعترف به، عقيلة صالح، القائد الأعلى للقوات المسلحة. ولكن في الممارسة العملية، يمارس حفتر سلطة كبيرة على الكيانات المدنية. قادة ، مثل عقيلة صالح وعضو مجلس الرئاسة المقاطع علي القطراني يحتجون على جوانب من اتفاق 2015 وحكومة الوفاق لأنها ضد المصالح الشخصية لحفتر.

نفوذ حفتر في المجال السياسي الليبي لم يأت بسهولة. في فبراير 2014، أعلن عن انقلاب ضد ما اعتبره هو وكثيرون حكومة يهيمن عليها الإسلاميون في ليبيا، على الرغم من أن لا أحد أخذه على محمل الجد في ذلك الوقت. وخلال الأشهر القليلة التالية، حشد الدعم السياسي الذي كان يلزمه للشروع في عملية الكرامة في شهر مايو، ولكن بعد ذلك أصبح غارقا في المواجهة لأكثر من عامين مع ميليشيات إسلامية ومتطرفة لا تعد ولا تحصى في بنغازي، بما في ذلك أنصار الشريعة وداعش. أما المواعيد التي حددها لنفسه لتحرير بنغازي قد حلت وارتحلت، كما أن وعوده بالتحرك إلى طرابلس لإزالة الحكومة هناك لم يستطع الوفاء بها.

منذ إعلان مجلس الرئاسة عن حكومة جديدة في وقت سابق من هذا العام، كان حفتر وحلفاؤه مدفوعين لتسريع هذه المعارك لضمان بعض القدرة على التأثير في تشكيل وأنشطة  حكومة الوفاق الجديدة هذه. وكانوا يتمنون على وجه الخصوص، السيطرة على وزارة الدفاع، التي رشح لها أحد منافسي حفتر، وهو مهدي البرغثي. كما قيل إن صالح طلب توسيع الحكومة لتضم المزيد من وزراء من حكومة الشرق الموالية لحفتر.

حفتر وحلفاؤه يتمنون أن يكون لهم تأثير على من يمكن ومن لا يمكن أن يمارس السلطة في ليبيا المستقبل. وهم يهدفون إلى تحقيق ذلك من خلال الظهور بمظهر الشريك الليبي الأقوى لحكومة الوفاق والمجتمع الدولي في الحرب ضد داعش. الأهم من ذلك، أن حفتر وقادة ميليشيات آخرين من الذين يتحدون السلطة المدنية يجسدون أعراض بعض التحديات الأوسع التي تواجه ليبيا: ليبيا لم يكن لديها حقا هياكل عسكرية مهنية، ولم يكن هناك جهد ناجح لتحديد ما ستكون عليه الهياكل الأمنية في مرحلة ما بعد الثورة أو من سيقودها.

حلول محتملة
يجب على القادة المدنيين في ليبيا قيادة طريق الإشراف على هذه التحولات الأيديولوجية لتجنب تكلس ثقافة عسكرية مزعزعة للاستقرار، ويتعين على المجتمع الدولي أن يساعد في ذلك. وكان المؤتمر الدولي حول ليبيا في فيينا يوم 16 مايو فرصة لشركاء ليبيا الدوليين لبلورة استراتيجية واضحة للمساعدة في استقرار ليبيا. وقبل المؤتمر، دعا المبعوث الخاص للأمم المتحدة مارتن كوبلر إلى جيش وطني موحد لوضع نهاية لاحتكار استخدام القوة، وهذا الشهر كرر نائب الأمين العام لحلف الناتو الكسندر فيرشبو تعهدا بتقديم الدعم لمساعدة ليبيا في بناء مؤسساتها العسكرية ، بناء على طلب من مجلس الرئاسة بمجرد أن يبسط سيطرته في ليبيا. وفي بيان مشترك صدر بعد الاجتماع الوزاري، اعترف المشاركون بضرورة توحيد جميع القوات الليبية تحت قيادة مركزية تديرها حكومة الوفاق، وفقا للاتفاق. ويجب على المجتمع الدولي الآن دعم الإجراءات الليبية لتنفيذ هذه السياسة.

ومن المراجعات القابلة للتنفيذ والتي يمكن للمشاركين استكشافها في هذا الحوار السياسي هو تعديل المادة الثامنة من اتفاقية عام 2015 لجهة منح قائد الجيش الوطني الليبي دورا رئيسيا في الجيش في مرحلة ما بعد الأزمة.

في مقابل هذا التنازل، والذي قد يسمح أيضا باستلام حفتر شحنات الأسلحة القانونية التي طالب بها ، يجب أن يشمل التعديل إضافة حدود واضحة "للمساحة التشغيلية" للجيش الوطني الليبي ، سواء من حيث المكان الذي يمكن للجيش أن يعمل فيه فيزيائيا وماذا يمكن أن يفعل في تلك المناطق. على سبيل المثال، يمكن أن يسمح للجيش الوطني الليبي بالعمل وفق استراتيجية محددة بدقة على مكافحة الإرهاب، ولكن ليس للدفاع عن محطات النفط أو الحدود إلا بالتعاون مع القوات المنتشرة هناك بشكل منتظم. ويمكن الجهر بعواقب محددة بوضوح في اتفاق الجيش الوطني الليبي هذا، إذا تجاوز مهمته، بما في ذلك فرض عقوبات دولية.

في الوقت نفسه، وبوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة المعترف بها دوليا، يحتاج مجلس الرئاسة للبدء في تهيئة المجال لسيطرة مدنية على جيش محترف. الاضطرابات الأهلية الحالية في الدولة الليبية هي مرحلة للتغيير الاجتماعي الذي يقدم فرصا للتحولات الأيديولوجية، بما في ذلك العقيدة العسكرية، ولكن المؤسسات المدنية الضعيفة تواجه منافسة شرسة من قادة مثل حفتر الذي بسط سيطرة غير متناسبة على هذه التحولات. وينبغي أن تتضمن إصلاحات أخرى تحديد كم من قطاع في الجيش الوطني الليبي سيتبع لحفتر. على سبيل المثال، فإن وحدات الجيش التي مقرها في الشرق ستتبع إلى حفتر كقائد في الشرق، بينما تتبع وحدات أخرى لقادة جهويين آخرين ، وذلك لتعزيز ثقافة الاحتراف بدلا من الولاء الشخصي.

على الإصلاحات والمساعدات الدولية أيضا أن تأخذ بعين الاعتبار الدروس المستفادة من الجهود الفاشلة لبناء المؤسسات الرسمية للدفاع في الماضي. على سبيل المثال، الجهود السابقة تعثرت جزئيا لأن التدريب توقف خلال نوبات من انعدام الأمن المحلي. وبإدراك التحديات أمام وجود الأجانب في ليبيا منذ هجوم بنغازي عام 2012، يجب أن يكون هناك وجود أكثر اتساقا وكثافة للمدربين في البلاد جنبا إلى جنب مع الدعم الأمني ​​والدبلوماسي اللازم لذلك الحضور.

هناك وعد بدعم مركز لعدد متزايد من المقاتلين الذين يعملون مع شركاء من الولايات المتحدة وغيرها، بما في ذلك برامج لتدريب المدربين. التدريب الخارجي لم يكن ناجحا في الماضي، وقد يكون من الحكمة بالنسبة للولايات العمل بشكل وثيق مع إيطاليا وفرنسا والمملكة المتحدة وغيرها لضمان توفير وحدات تدريب داخل ليبيا بحيث تكون متسقة ومتكاملة ومعززة .

وعلاوة على ذلك، تعطلت الجهود الماضية لإصلاح القطاع الأمني ​​بسبب وجود صراعات فئوية داخل منشآت ضعيفة. يجب على المدربين والمستشارين والدبلوماسيين التركيز على تحديد مواطن الخلل الوظيفي ، والحد منه، في المراتب العليا لكيانات مثل وزارتي الدفاع والداخلية لإثبات النجاح واكتساب المزيد من الزخم لإصلاح أوسع لباقي المؤسسات. وحتى إذا تم تضمين هذه الدروس في المساعدات المستقبلية، يجب أن تكون التوقعات الدولية من هذه البرامج معتدلة وهادئة. فإيجاد الميليشيات المناسبة للعمل معها سوف يكون دائما صعبا ومحفوفا بالمخاطر، ورفع الحظر المفروض على الأسلحة التابعة للامم المتحدة على الجماعات المؤيدة لحكومة الوفاق لن يخلو من مخاطر لأن الكيانات الليبية ليس لديها سيطرة مريحة على تدفقات الأسلحة. ولكن نظرا للتأثير واسع النطاق لانعدام الأمن في ليبيا على الأمن العالمي، فقد أصبح المجتمع الدولي راغبا في تحدي هذه المخاطر.

يجب على الدعم أيضا أن يأخذ في الاعتبار نسقا نظريا كبيرا يحيط بالعلاقات المدنية-العسكرية لتحسين الفعالية في مجالين محددين. أولا، كما يقول مايكل ديش، قوة السيطرة المدنية على الجيش تُشكلها تهديدات البيئة االخاصة التي تتعايش فيها هذه الكيانات. وعلى برامج بناء المؤسسات العسكرية العمل ضمن هذا الواقع بدلا من استخدام إجراءات تشغيل جاهزة لبلدان أجهزتها الأمنية موجودة مسبقا. إصلاح القطاع الأمني يعتمد ، ثانيا ، على دعم إضافي للمؤسسات المدنية الليبية، وخاصة في قطاعي العدل والمالية. عالم الاجتماع الشهير موريس جانوفيتش، قال إن هذه المساعدة أمر بالغ الأهمية لبناء ثقة الجمهور في المؤسسات المدنية ولوضع حجر الأساس لسيطرة مدنية على الجيش على المدى الطويل.

قد لا تكون هذه الفجوة بين المدني والعسكري في ليبيا عادية على المدى القصير. ووفقا لنظرية صموئيل هنتنغتون، فإن ليبيا كدولة تواجه تهديدات داخلية عالية مرتبطة بتهديدات خارجية في الوقت الراهن، وتواجه معركة شاقة لإنضاج وإثمار العلاقات بين المؤسسات المدنية والعسكرية المتنامية. ومع ذلك، وبينما يسعى المجتمع الدولي لمساعدة ليبيا على التحرك نحو هذا المستقبل الذي تصوره المتظاهرون الذين بدأوا الثورة عام 2011، فمن الأهمية بمكان الحفاظ على الجهود وتعزيزها لتطوير المنشآت المدنية والسياسية في ليبيا والحفاظ عليها. وفي غياب هذا التطور، فإن ليبيا معرضة لتكرار الماضي.
*ليديا سايزر، كبيرة مستشاري "ميناس أسوشييت" في لندن. وقد كلفت سابقا منصب بملف ليبيا في وزارة الخارجية الأميريكة مابين عامي 2012-2014.