الصورة الماثلة أمام المواطن الليبي في علاقة بحكومة فتحي باشاغا لا تحتاج كثير اجتهاد ليعرف أنها أمام تعقيدات كثيرة. في مثل هذه الحالات الرغبات الخاصة والأمنيات لا مكان لها مهما كان سوء الطرف المقابل. الرجل الذي خرج بعد اختياره من مجلس النواب معلنا أنه لم يفصله عن طرابلس إلا ساعات معدودة وتبدأ حكومته في العمل إلى اليوم مازال يتحسس الكيفية لذلك وهل له الآن من القدرة والصلاحيات على فعل ذلك.

قد يكون دخول فتحي باشاغا طرابلس منطقيا إذا ارتبطت الأمور بما هو داخلي لأن البرلمان مهما كانت مؤاخذات الليبيين عليه يبقى في الأخير المؤسسة السياسية "الأكثر شرعية" مقارنة ببقية المؤسسات، لكن هناك حسابات خارجية أصبحت أمرا بديهيا كلما تعلق الأمر بليبيا، بالنظر لإشكال الاصطفافات الذي وقعت فيه معظم الأطراف، وبالنظر إلى أن القوى الدولية أصبحت محددا في المسار السياسي الليبي وهنا مفصل الحديث والإشكال الأكبر في حكومة باشاغا، لأن التباينات مازالت كبيرة والعديد من الأطراف مازالت تؤرجح مواقفها بشكل لا يجعلها موضع إدانة أو إشادة.

والزلات الكثيرة والمتواصلة لعبد الحميد الدبيبة وتجاوز حكومته لكل الخطوط الحمراء فيما اتُّفق عليه عند تشكيلها عقب الحوار السياسي والتذبذب في التعامل مع العديد من الملفات، وغضب الليبيين على واقع الحال ورغبتهم في الوصول إلى الانتخابات بأي شكل من الأشكال، عوامل يبدو أنها لم تؤثر على ما يعرف "بالشرعية الدولية" إن صحت العبارة، ومازال الدبيبة يحافظ على موقعه ويتحرك بنوع من الطمأنينة رغم مطالبات باشاغا المتكررة بأن يحترم قرارات برلمان البلاد ويغادر منصبه، ما يعني أننا أمام أزمة سياسية لا أحد يعرف كيف ولا متى تنتهي.

وبالعودة إلى التباينات الدولية، نستحضر تصريح الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون الذي صرّح عقب لقائه الدبيبة نهاية أبريل، إن بلاده مازالت تعترف بحكومة الأخير باعتبارها الحكومة المعترف بها دوليا. لكن التحليل السياسي للأمور لا يمكن أن يمر على هذا التصريح مرورا الكرام، فالرئيس تبون الذي يقود دولة بحجم الجزائر من المنطقي بل من البديهي أن يكون تعامله مع التحولات وفق المصلحة، بما يعني أن الخيارات الجزائرية اليوم تميل نحو كفة الدبيبة الذي يبدو أن زيارته إلى الجزائر وبذلك الحجم من الوزراء حملت إغراءات لا يمكن بعدها التفكير في إعادة التحالفات في الداخل الليبي.

تونس بدورها لم توضح الموقف من الحكومة الليبية المصادق عليها برلمانيا، وفضلت الصمت، وعلى الأقل ظرفيا مازالت منشغلة بمشاكلها الداخلية التي لا تقل تعقيدا عن الحالة الليبية. لكن من تابع تأجيل زيارة الدبيبة إلى تونس من جهة، رغم الإعلان عنها وعن الوفد الكبير فيها، ومن تابع مغادرة باشاغا، الذي كان مقيما فيها، نحو مدن الجنوب والوسط الليبي، والأنباء المتضاربة عن طلب تونسي بالمغادرة لرفع الحرج، كلها مؤشرات تدل على تهرب تونس من أن تُحسب على أحد طرفي الخلاف.

في جانب آخر اختارت مصر مع عدد من الدول الإقليمية، أن تعترف بحكومة فتحي باشاغا في خطوة هامة باعتبار أن ضمان أحلاف بذلك المستوى له قيمة كبيرة خاصة بالنسبة إلى مصر الجارة المؤثرة والساعية دائما للعب دور رئيسي في الأزمة الليبية، وهي تنظر دائما بعين القلق لكل تطور يحصل على الأرض. كما أن روسيا كلاعب قوي وصاعد دوليا اختارت أن تعترف بالحكومة المصادق عليها من البرلمان وهذا في حسابات السياسة أمر بالغ الأهمية، رغم أن باشاغا ارتكب هفوة دبلوماسية من خلال إدلائه بموقف منحاز لأوكرانيا في حوار مع صحيفة التايمز البريطانية، في محاولة منه لنيل موقف إيجابي من لندن إزاء حكومته، حيث قال "أريد مساعدة بريطانية. وستكون بريطانيا حليفا لا يستغنى عنه في القتال ضد المرتزقة الأجانب. وأريد شراكة استراتيجية مع بريطانيا- واحدة قائمة على التجارة والأمن والتشارك في الاستخبارات”.

لكن بريطانيا وككل الدول الغربية مازالت مواقفها متذبذبة مما يحصل في ليبيا، فالولايات المتحدة اختارت الحياد من خلال مواصلة اتصالاتها بالحكومتين، رغم أن باشاغا أعلن تواصله مع واشنطن، فيما يشبه جس النبض، حيث قال في تصريحات صحفية، إن "ليبيا في حاجة إلى التعاون مع حلفائها الدوليين للمضي قدما نحو مستقبل أفضل"، وهنا رسالة مفادها أنه يعتبر الأمريكيين حلفاء يحتاجهم في مثل هذه الأزمات بالنظر إلى التأثير الكبير الذي يمثلونه، لكنهم في الواقع ينظرون إلى ليبيا كقضية ثانوية على الأقل   في هذه المرحلة التي يعيش فيها العالم بصفة عامة تحولات كبيرة.

بقية الأطراف الدولية أيضا وخاصة الأوروبية، يبدو أنها غير مركزة في هذه الفترة على الملف الليبي بسبب انشغالها بالأزمة الأوكرانية التي لها تأثير كبير عليها، ولا نكاد نعثر على مواقف واضحة وهذا ما جعل البرلمان يوجه إلى البعثات الدبلوماسية الغربية بعدم التعامل مع حكومة عبد الحميد الدبيبة بأي شكل من الأشكال لأنه يراها غير شرعية ومنتهية الصلوحية.

خلاصة القول إذن أن الحكومة المصادق عليها برلمانيا مازالت تبحث عن اعتراف دولي يسهل عليها العودة إلى العاصمة طرابلس، وهذا إلى اليوم لم يحصل. ولكي تحلل الأمور بشكل منطقي مازال ذلك الاعتراف غير مضمون لأن قوى النفوذ في طرابلس خاصة في علاقة بالمجموعات المسلحة تحافظ على ولائها للدبيبة الضامن لبقائها ولمصالحها، وهذا هو مربط الفرس الذي يجعل المواقف الخارجية متذبذبة ولا تريد مواقفة حاسمة لأحد الأطراف.