المشهد السياسي في تونس اليوم أشبه بطريق لا تُعرف نهايته. لا أحد يتنبأ بالمستقبل وسط تطورات مستمرّة بين الرئيس قيس ومعارضيه وفي وضع اقتصادي صعب وغير مسبوق. مهما كانت درجة التفاؤل بإسقاط منظومة العشرية السابقة بكل مساوئها، لا أفق لانفراجة قريبة رغم تحكم الرئيس في كل الأوراق ووعوده الكثيرة في جبر الكسور التي ضربت البلاد، لأن الواقع وتعقيداته أصعب بكثير من أحلام السياسيين مهما كانت درجة صدقهم ومواقعهم.

فبعد ثمانية أشهر من التجميد والمراسيم الكثيرة، وفي خطوة غير مستغربة، أعلن الرئيس التونسي عن حل البرلمان، لينهي بذلك فترة طويلة من الجدل استغلها معارضوه للضغط وزعم التحرك بصفاتهم البرلمانية ووفق الدستور الذي بدوره اليوم في حكم المُتخلى عنه، مهما كانت حجج المستشهدين به بالانضباط إليه.

إعلان قيس سعيّد، المتحكم اليوم في كل المؤسسات، جاء بعد أن تحدى عددٌ من النواب على رأسهم منتسبو حركة النهضة والمقربون منها، الإجراءات والمراسيم الرئاسية، وأعلنوا عن عقد جلسة عامة "أنهوا" من خلالها كل ما قرره الرئيس بعد 25 يوليو 2022، بما يعني بالنسبة إليهم عدم الاعتراف بكل الخطوات التي اتخذت وأن جلستهم قانونية.

اللافت في جلسة النواب أن رئيس البرلمان راشد الغنوشي كان متغيبا عنها، في محاولة منه عدم الظهور في الصورة ومنح صلاحية الجلسة لشخصية أخرى غير إسلامية وهو الرئيس الثاني "طارق الفتيتي"، ويريد الغنوشي هنا إرسال رسالة إلى الرأي العام الداخلي وخاصة الخارجي أن صراع رئيس البلاد ليس مع حركة النهضة بل مع "الديمقراطية"، بحسب زعمه، وهذا وصل صداه بالفعل إلى بعض الأطراف الدولية، التي يبدو بعضها أقرب إلى موقف الإسلاميين في تونس من خلال بيانات الدعوة إلى عودة ما تسميها المؤسسات الدستورية وهنا القصد تحديدا البرلمان المجمد سابقا والمنحل حاليا.

فقد عبرت الولايات المتحدة والأمم المتحدة عن رفضهما لقرار الرئيس سعيّد حل البرلمان. الأولى عبر المتحدث باسم خارجيتها نيد برايس الذي قال بعد ساعات من حل البرلمان التونس، إن بلاده تشعر بقلق بالغ من قرار سعيّد حل البرلمان وملاحقة بعض نوابه قضائيا. والأمم المتحدة عبر فرحان حق المتحدث باسم غوتيريش الذي عن من حل البرلمان البرلمان، داعيا إلى تجنب أي أفعال تؤدي لمزيد من التوتر السياسي.

داخليا كانت التعاليق على جلسة النواب المجمدين متباينة، فمؤيدو الرئيس وهم بعض الأحزاب والشخصيات المستقلة، اعتبروها خطوة خطيرة من شأنها أن تفتح الأبواب أمام تنازع الصلاحيات وربما حتى فتح البلاب أمام انقسام سياسي شبيه بما حصل في ليبيا بكل ما لذلك من ضريبة قد تصل حتى العنف بين الأطراف المتنازعة، أما مناهضو الرئيس ومن بينهم حركة النهضة، فاعتبروا المسألة قانونية في إطار القيام بمهامهم التي حرمهم منها قيس سعيّد الذي تحرك مباشرة عبر استقبال رئيس الحكومة ووزيرة العدل، محذرا ومطالبا النيابة العمومية بفتح تحقيق بتهم زعزعة أمن الدولة الداخلية وتهم أخرى.

فبعد يوم فقط من الجلسة بدأ القضاء التونسي في استدعاء عشرات النواب، بينهم رئيس البرلمان راشد الغنوشي، للتحقيق معهم أمام فرقة مكافحة الإرهاب، بشأن الجلسة التي عقدوها افتراضيا وألغوا فيها إجراءات 25 يوليو، وتم إطلاق سراح من حضر منهم في انتظار تواصل التحقيق في ما نسب إليهم، وهذا بالتأكيد سيأخذ وقتا قد تتغيّر الكثير من الأمور فيه، سواء عبر الخيارات الداخلية أو حتى تحت الضغط الخارجي.

لكن بعيدا عن الجانبين الدستوري والقانوني اللذين سيبقيان مثار جدل، هناك جانب سياسي هو جوهر الخلافات، حيث وصلت العلاقة بين الرئيس وحركة النهضة أساسا نقطة اللاعودة. فالحركة التي حملت رصيد الفشل لعشر سنوات تصر على اعتبار ما قام به سعيّد انقلابا يجب العودة عنه داعية إلى حوار يضم جميع الأطراف (تعرف أن ذلك غير ممكن حاليا) وتضغط خارجيا عبر وساطات من شخصيات مقربة من دوائر القرار الأمريكي لوضع الرئيس أمام إحراجات أساسا اقتصادية فيما يشبه عملية التحريض. أما الرئيس فيبدو مصمما على الذهاب في إجراءاته، بل في كل خطاب كان يرسل إشارات أن النهضة لن تكون في أي حوار مستقبلي لأن التصنيف الذي يعتمده في قائمة الأصدقاء والخصوم النهضة تأتي في القسم الثاني المرفوض الجلوس معه باعتباره متهما.

ووسط هذه التطورات هناك مشاكل أخرى هي التي تهم التونسيين، بعيدا عن حلم النهضة بعودة إلى لحظة انتهت بالتأكيد ولا سبيل للعودة إليها وعن نوايا الرئيس التي لا تخفي رغبة في التفرّد بالسلطات، وهي مشاكل الاقتصاد التي بلغت درجة لم تعرفها البلاد في تاريخها الحديث سواء في علاقة بالمديونية العامة أو في نسب البطالة، وحتى في مستوى السيولة التي اضطرت سلطات البلاد بحسب خبراء، إلى طباعة مبالغ كبيرة من العملة المحلية بكل ما في الإجراء من ضرر على قيمة الدينار ونسبة التضخّم، وهذا كله يحتاج إلى الذهاب في خطوات إصلاحية سياسية عبر وضع روزنامة واضحة للانتخابات، واقتصاديا من خلال إيجاد حلول لارتفاع الأسعار وانقطاع السلع التموينية، وخاصة من خلال إيجاد اتفاق مع المانحين الدوليين الذين يبدو أنهم وجدوا في الوضع السياسي فرصة للضغط ضد توجه الرئيس قيس سعيّد