في زمن الفتن والادعاء اللامتناهي، والفتاوى المرعبة للقاصي والداني، وجهت دار الإفتاء الليبية سهامها التحريضية نحو دولة الإمارات للتغطية على الدور التركي العابث بأمن ليبيا، ووصفت دار الإفتاء الليبية الإمارات بـ"الدولة المارقة"، داعية الدول العربية والإسلامية إلى مقاطعة حكامها وعدم الاستثمار فيها والتجارة عبر مطاراتها وموانئها... وفي وقت سابق، تناول المؤشر العالمي للفتوى التابع لدار الإفتاء المصرية، الأوضاع في ليبيا، وأكد أن "أردوغان جنَّد مفتين ينتمون لجماعة الإخوان الإرهابية ليبرروا كل الأفعال الدنيئة التي تقوم بها مرتزقة تركيا... وفيما يتعلق بالسياسة الخارجية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، قال المؤشر في بيانه، إن "الرئيس التركي لا يزال يراهن على جماعات الإسلام السياسي للدفاع عن مصالح أنقرة داخل بلدانهم".

الثابت اليوم، أنّ تحريض دار الإفتاء الليبية، تخطى حدود ليبيا، ليصل إلى الإمارات العربية المتحدة، فقد دعا مجلس البحوث والدراسات الشرعية بدار الإفتاء الليبية، "علماء الإسلام ودعاته والهيئات العلمية والإعلامية وكل من له غيرة على هذا الدينِ وأهله أن يبيّنوا للمسلمين وجوب مقاطعة حكومة الإمارات، وحرمة الاستثمارِ فيها أو الاتجار معها، بخاصة بعد زيارة السفير الإماراتي لدى الكيان الصهيوني للحاخام المتطرف زعيم حركة شاس".

وأقل ما يمكن الرد به على البيان الصادر عن مجلس البحوث والدراسات الشرعية، أنّ دار الإفتاء الليبية، بارعة في تلهيةِ الشعب الليبي، تجيد المعاركَ الوهمية عندما تتلقى الأوامر من الصدر الأعظم بتركيا، فالداني والقاصي يعرف أنّ الشعب الليبي يعاني العوز الاقتصادي و الخدمي... ولكن لم تتحرك دار الإفتاء ولو بأضعف الإيمان للدفاع عنه، لكن عندما  أمرَهَا ولاةَ أمرهِا بالهجوم على الإمارات واتهامها بأبشع الاتهامات، كانوا بمثابة "حراس الهيكل" يظنونَ أن الله لم يهدِ سواهم، لكن ما يقاسيه ويعانيه ويعيشهُ الشعب الليبي... فمن وجهة نظرهم قضاء، والخنوعَ قضاء، حتى مجردَ السؤال إن كانت التفاحة التي أكلَها سيدنا آدم حمراء أم صفراء، هو ترف فكري يعارض هذا القضاء.

مستويات الانحطاط الذي وصلت إليه بيانات الفتاوى التي تصدرها دار الإفتاء الليبية، ومن يدعون أنهم يتبعون السّلف الصالح، باتت مستويات غير مسبوقة وتسيء للإسلام والمسلمين أضعافاً مضاعفة من الإساءات التي يتعرض لها الإسلام حتى من أعدائه، وإنّ أكثر ما يؤلم ليس محاولات التشويه التي لن تجد طريقاً إلّا لدى من يُقيمون في الجاهلية الأولى، بل الأشدّ إيلاماً هو تسخير الأخوان لإصدار فتاوى لا يقبلها عقلٌ ولا شرعٌ خدمة للسياسة التي لا تحمل غير معاول الهدم.‏

لدار الإفتاء الليبية أو غيرها، نقول بأن ثمّة فرق بين العمل الإسلامي الدَّعوي العلمي والعمل السياسي "الإسلامي"، كالذي تقوم به جماعة "الإخوان المسلمين" في ليبيا، أو القاعدة أو داعش...
والإسلام لا يمنعكم من ممارسة السياسة، لكنه يُلزمكم باستشارة أهل العلم والذكر عن كل ما تريدون نسبته إلى الإسلام من أقوال وأفعال، وممّا يجب قوله أيضاً هنا: ألا تخلطوا بين مصطلحاتكم المولّدة ومصطلحات الإسلام الأصيلة الثابتة، فالاهتمام بأمر الليبيين، على سبيل المثال، ليس هو عين السياسة أو ذاتها، والتظاهر، مهما كان نوعه، ليس هو كلّ الحسبة، أو التجلي الأهمّ لها وهكذا. وعلى كلّ، نحن لا ننهاكم عن أصل العمل، بل ندعوكم إليه لتمارسوه بأناقة وعفّة وحكمة وعدل وأمان، كما أنّنا نطلب منكم ألا تدّعوا أنكم تمثّلون الإسلام كلّه، وأنكم بديل مشروع عن الليبيين وعن سواهم، بل أنتم للعمل السياسي فحسب.

إن شيوخ دار الإفتاء الليبية، لا يمثلون وجهة نظر شرعية مؤيدة بحكم شرعي، بل يؤدّون دوراً مطلوباً منهم، فمهمتهم التي أوكلت إليهم من قبل تركيا والتنظيم الدولي للأخوان المسلمين، هي بث الفرقة بين الليبيين وإثارة عوامل الفتنة والصراع الدموي بين أبناء ليبيا، وقد نجحت قبلهم جماعة ''الصلابي'' في أداء تلك المهمة في ليبيا بشكل باهر، حيث إنّهم أشعلوا حرباً أهلية طاحنة في ليبيا، قضت على الاستقرار والقانون وعلى العدالة فيها. ففتاوى دار الإفتاء الليبية، خارجة على كل الضوابط الشرعية، فقد ابتعدوا عن المنهج الوسطي الذي دعا إليه الإسلام الحنيف، بسبب عدم المعرفة وقلة العلم، وسوء الفهم وضيق الأفق وتضخيم الخلافات، وسوء الظن وقلة الاعتذار للمخالف، وضعف استشعار نتائج التفرق والبغي وحب الظهور، وكلها أسباب إن اجتمعت في شخص فلا يصلح بحال أن يطلق عليه داعية، بل هو مصيبة لأن هذه الصفات إن وجدت في شخص فهي تؤدي إلى إنتاج خطاب تفريق وكراهية، بل يؤدي إلى أمر خطير وهو التفرق في الدين، مع أن دار الإفتاء الليبية يعلمون أن الدين الإسلامي ما أتى إلا ليجمع الأمة على الحق.

فالإسلام دين اتفاق وائتلاف، لا تفرق واختلاف يقول تعالى: (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه). ولا شك أن جمع الكلمة والاعتصام بحبل الله من أهم مقاصد الشريعة يقول سبحانه: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا)، ويقول سبحانه: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ)، ورسولنا صلى الله عليه وسلم يدعونا إلى الاعتصام بحبل الله، كما قال في الحديث الشريف إن الله يرضى لكم ثلاث ويكره لكم ثلاث، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال. ويقول صلى الله عليه وسلم: (من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه إلا أن يرجع)، و(يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار)،

وهنا نسأل: أين قيمة وقوة الإفتاء عند دار الإفتاء الليبية؟ هل منحصرة، في الخلاف والاختلاف مع الأئمة والمفتين المنتشرين في ليبيا؟ أين دراسات الواقع وتقلباته وأحوال الناس، وكيف حال المسلمين والمجتمعات والأمة؟ لماذا لم يُدعَوا إلى المشاركة في بناء الفكر الديني؟! وإني حقيقة لأدعو دار الإفتاء الليبية، لتحويل علوم الفقه والشريعة، لخدمة الإنسان الليبي، والإنسانية بشكل عام، وتوجيه المجتمع الليبي لتطوير ذاته، بالاشتغال بالعلم والمعرفة، والانطلاق من الحاضر إلى المستقبل، بعيداً عن تشدد الماضي، لا ضير من الاستفادة من لغته المسكونة في الاعتدال والوسطية القابلة لاستيعاب الأفكار الجديدة، وأقصد الإيجابية والمفيدة بغاية مواكبة المجتمعات، لا الابتعاد عنها، والانحصار مرة ثانية وثالثة في أفكار الماضي.

تقتضي الضرورة، أن نربط مضمون الجوهر المتعلق بالإيمان، بربطه مع الإيمان بالمظهر، الذي يدعو للإعمار في الأرض والإنسان، بعد أن غدا "فقهاء" دار الإفتاء الليبية منشغلين بتكفير من يريدون، متعلقين بلغة الماضي أكثر من زمن الماضي، الذي ظهر به الإسلام، يحلمون بعودة سيادته، يستندون إلى فتاوى الماضويين، لم يحاولوا حتى اللحظة فتح أبواب الحياة، وهنا يصحّ القول: بأن تغيروا وتدعوا إلى الانفتاح، فتح النوافذ والأبواب، والتطلع علمياً ومعرفياً، كما فعلت الكنيسة، التي اشتغلت باللاهوت، وتعلقت به كثيراً، إلى أن استوعبت، أن تحويله لخدمة البشرية، يمنحها حقيقة وجودها.

خلاصة الكلام: نحن نأمل ممّن يعمل في ميدان العمل السياسي أن يجرد عنوان حزبه من كلمة "الإسلام" حرصاً على تثبيت ثوابت الدين في أذهان المسلمين، لأنّ مفردات العمل السياسي متغيّرة ومتقلبة، وما كان يصلح منها في الماضي قد لا يصلح في الحاضر.

فاللهم وفقنا لإتقان أعمال مشروعة وُكِلت إلينا، وخذ بأيدينا إلى ما يرضيك عنّا جميعاً.

كاتب صحفي المغرب.