قال الدكتور مهدي مبروك عالم الاجتماع ووزير الثقافة في حكومتي الجبالي والعريض ان حكومة الترويكا التي عمل بها لمدة سنتين لم تخرج تخت ضغط سياسي وشعبي مضيفا أن قوى الضغط لم يكن لها امتداد شعبي بقدر ما كانت لها قدرة على التعطيل ورغبة في الزحف على مؤسسات الدولة وتستند الى اعلام محرض

وفي حواره ، وهو الاول له بعد مغادرته الوزارة قال مهدي مبروك ان على القوى الثورية التونسية معاقبة رموز النظام السابق الذين لم يتم عزلهم قانونيامن خلال صناديق الاقتراع

 س :تنامت بعد الثورة ظاهرة الهروب من البلاد لدواع ومنطلقات مختلفة وارتدت أشكالا متعددة : طلب اللجوء الى أوروبا وغيرها ، الاستثمار في الخارج ، الحرقة كيف يمكن تفسير هذه الظاهرة وخلفياتها؟

ج : كل المؤشرات المتوفرة على قلتها تؤكد ان ظاهرة مغادرة البلاد في شكها الأبرز أي ظاهرة  الهجرة غير الشرعية قد تراجعت في السنتين الأخيرتين بشكل حاد و هي لم تتجاوز 8 آلاف مهاجر ( ممن تم ايقافهم على الحدود الايطالية)  و هو ثلث ما تم تسجيله خلال الشهرين الذين تليا الثورة مباشرة أي شهري فيفري و مارس 2011 . بعد سقوط النظام مباشرة و ما عرفته البلاد من فلتان امني و انهيار منظومة حماية الحدود الترابية و البحرية عرفت البلاد موجة هجرية هي اشد ما عرفته البلاد في تاريخ الهجرة الحديثة حيث تجاوز من تم إيقافهم على الحدود الايطالية خلال تلك الفترة ما يقارب24 الف و لربما زاد العدد اذا ما آخذنا بعين الاعتبار من استطاع الوصول الى الحدود الايطالية دون ان تتمكن السلطات من إيقافهم و لكن خلال السنتين المنقضيتين تراجعت الظاهرة بشكل حاد و ذلك يعود الى سبب امني إذ تم استعادة المبادرة الأمنية و ذلك بالتعاون و التنسيق مع السلطات الايطالية و غيرها، تراجع الظاهرة لا ينم عن تغير في مواقف المرشحين إلى الهجرة  او تحسن ظروفهم و خروجهم من دارة التهميش و الفقر وإنما الى تلك العوامل التي اشر تاليها لكن اعتقد ان المقاربة الامنية وحدها ستبين عجزها عن معالجة ظاهرة الهجرة غير الشرعية.

اما ظاهرة اللجوء السياسي ففيما اعتقد ان الأمر يتعلق بأفراد لا يتجاوز عددهم أصابع اليد تعلقت بهم تهم ذات صلة بمسائل التعبير و الفكر و المعتقد  و لكن مقارنة بما عرفته البلاد خلال العقدين الأخيرين من القرن الفارط فان لا وجه للمقارنة  و مع ذلك علينا ان نعمل من اجل الحد من تلك الحالات و لو كانت محصورة و غير ذات دلالة إحصائية ففي مثل هذه الحالات الدلالة تحدد برمزيتها. اعتقد ان جهدا بيداغوجيا تحتاجه نخبنا حتى يحدث ضرب من التوافق تحترم فيه الحريات الفردية كما نص عليها الدستور ضمن احترام قواعد العيش المشترك و مسائل الحريات و الحقوق العامة.

 

أما هجرة رجال الأعمال فاعتقد ان إدارة ملف العدالة الانتقالية و تأخر الحسم و المزايدة السياسية أصاب هذا الملف بارتباك شديد نجم عنه هجرة البعض منهم للاستثمار، من حيث البعد القانوني حق الهجرة حتى لأصحاب رؤوس الأموال يكفله الدستور و مع ذلك اعتقد ان بلادنا أولى باستثمار أبنائها فيها. هناك مسائل قانونية تنسحب على الجميع و لا احد فوق القانون. ابتزاز الدولة الذي يفيد الاستثمار مقابل العفو مرفوض و لكن منطق التشفي خارج القانون  و العقاب الجماعي لا يمكن القبول بهما أيضا.

س : شاركت في حكومة الترويكا وكنت محسوبا على المستقلين ، وعند انتهاء مهامك قدمت اعتذارا للتونسيين ، ما هي خلفياته ومقاصده الحقيقية ، وماهي الأخطاء التي قمت بها في وزارتك ، أو الأهداف التي لم تحققها

 

ج : "الاعتذار" الذي قدمته للتونسيين لا علاقة بانتهاء مهامي كوزير للثقافة ضمن حكومة الترويكا. بين مغادرتي الوزارة و" الاعتذار"  اكثر من ثلاث اشهر، الاعتذار صدر ليلة صدور الأحكام المتعلقة بقضية الشهداء و التي رأيت فيها مهزلة. غادر هؤلاء السجن و العض منهم صور نفسه بطلا، في استفزاز عائلات الشهداء و دمائهم الزكية و دون أدنى مراعاة لمشاعر ملايين التونسيين، الشعور الذي انتابني اننا خذلنا الشهداء و اننا لم نكن على العهد، هذا معنى الاعتذار هو اعتذار في حقهم للتقصير الذي تمكن منا. الأسلوب الذي به صغت التص كان ساخرا أي السخرية السوداء مما آل اليه وضعنا بعد  رحيل الشهداء. البعض لم يقرا النص و اكتفى بعنوانه( إعلان اعتذار) و بدا في تحليل دواعي ذلك و البعض ذهب إلى أنني استعد للالتحاق بحزب نداء تونس. يتوهم من يذهب الى هذا المغزى. كل دقيقة من مسيرتي السياسية مصدر اعتزاز من سجني بالمرحلة الثانوية   (بالسجن المدني بالمهدية   جويلية  1981) الى مغادرتي وزارة الثقافة، اما التقييم المتعلق بالأداء الوزاري  فذلك أمر لا علاقة له بالمشوار  السياسي العام  للشخص. كان بعض الاشخاص  يتصيدونني ووجدوا في العنوان المشار اليه أعلاه  فرصة نادرة لتصفيات حسابات لا تعنيني أصلا.

 

نعم شاركت في حكومة الترويكا  و هذا شرف لا أخفيه. أن تساهم في إدارة مرحلة انتقالية بكل صعابها مهمة نبيلة حولنا قدر الإمكان انجازها. ثمة صعوبات موضوعية و ثمة أيضا تقصير ذاتي ناجم عن اجتهادات تحمل الخطأ و الصواب كتلك المتعلقة بإدارة أزمة العبدلية مثلا و لكن ثمة أيضا ما لا يمكن نكرانه رغبة مسبقة في إفشال التجربة، حرص البعض على استهداف حكومتي الترويكا حتى قبل تشكلهما،لم يكن البعض ليهنأ او يرتاح لو نجحت تجربة حكم الترويكا، و كان يتوهم ان رصيده الانتخابي و السياسي يتبدد اذا نجحت التجربة و لذلك حدث ما حدث و أجبرت هذه الأخيرة على مغادرة الحكم بعد ان غلبت المصلحة العليا للبلاد و برهنت على ان تونس فوق الحسابات. لم يحدث ذلك في اعرق الديموقراطيات. كان البعض يراهن على اما على حرب أهلية او انقلاب لكن سحبت الترويكا البساط من تحت أقدام هذه السيناريوات الكارثية التي كانت بعض القوى الخارجية تتمنى حدوثها. 

 

في كل الحالات اتمنى لحكومة السيد المهدي جمعة النجاح لان ذلك نجاح للبلاد. و اتمنى لزميلي السيد مراد الصقلي كل النجاح و التوفيق.

 

س : قبل الثورة كنت تنتمي الى الحزب الديمقراطي التقدمي ، الجمهوري حاليا ، هل تفكر في الانتماء الحزبي مجددا ، وأي الأحزاب أقرب الى قناعاتك وتفكيرك ، أم أنك ستكتفي بالتدريس والبحث العلمي؟

 

ج : انتميت لعشرات السنين الى الحزب الديموقراطي التقدمي الذين كان رأس الحربة في مقارعة الاستبداد و النظال الديموقراطي و كانت هياكله و مقراته و صحيفته الموقف ساحة كافة الأطياف السياسية التي  ساهمت في مكافحة الاستبداد و لم يكن الحزب  يقيم معايير ايديولوجية او شخصية في تشكيل جبهاته النضالية لعل أهمها مكافحة التطبيع و التصدي لبروباغندا النظام اثناء انعقاد القمة العالمية للمعلومات و تحالف 18 اكتوبر و مساندة انتفاضة الحوض المنجمي الى جانب إضراب الجوع دفاعا عن المقر. هذه محطات نضالية فارقة في تاريخ  المعركة الديموقراطية التي مهدت للثورة، و لكن حدث تباين بعد الثورة ناجم عن اختلاف تقييم الأرضية السياسية التي اختارها الحزب بعد الثورة و كذلك  التحالفات و الآداء السياسي  بصفة عامة. السيد نجيب الشابي لا يحتاج إلى شهادة مني حول خصاله السياسية و النضالية لذلك فان الخلاف كان حول مسائل موضوعية لا علاقة لها بالأشخاص.

 

. التجربة مع الديموقراطي التقدمي من أجمل تجاربي السياسية لانها كانت تخاض بروحية عالية في مناخ كانت حياة الناس و أساسا المناضلين في خطر.  احمد الله ألف مرة أنني لم أكن من المستقيلين الذي خيروا المشاهدة و الصمت آنذاك  اعتقد انها تجربة علمتني الكثير و منحتني تقديرا خاصا لدى الناس.  

 

حاليا و في المدى المنظور لن أخوض أي تجربة حزبية و خيرت منذ مغادرتي الوزارة استئناف أبحاثي الجامعية و انا بصدد الكتابة حاليا، ربما انا أميل إلى الاشتغال على قضايا علم الاجتماع السياسي سأغادر مبحث الهجرة السرية رغم نبل المبحث و لكن بعد إصدار كتابي الأول  "أشرعة و ملح" حول الظاهرة سنة 2010 أخشى ان اكرر نفسي، لذلك سأعدد المباحث قادما و أنوعها . هناك مشروع تاسيس مركز للأبحاث و الدراسات السياسية نحن بصدد مناقشة تفاصيله.  رغم مغادرتي الحزب مازلت أتابع اخباره و اتالم احيانا لما يشهده من أزمات و اعتقد انه حزب اكبر من حاضره. تربطني بجل قياداته و مناضليه علاقات إنسانية عميقة.

 

س : حكومتكم استقالت بعد ضغط سياسي وشعبي كبير ، هل ترى أن الاستقالة تأخرت ؟

 

لا اعتقد ان استقالة الحكومة كانت تحت ضغط شعبي و جماهيري لقد انهارت كل السناريوهات التي دعت الشارع و ضلت مجموعات صغيرة  تتحرك في الشارع دون ان يكون لها امتداد جماهيري يذكر. فشلت دعوات الزحف على مؤسسسات الدولة و إخراج المسؤولين و سقطت كل الدعوات الفوضوية التي حاولت حشد الناس و تعبئتهم في أكثر من "أسبوع رحيل"، سوسيولوجيا لم تكن مغادرة الترويكا للحكم ناجمة عن موازين قوى احتكمت الى الشارع. كانت أقلية تمتلك قوة هائلة على التعطيل و هي حالة سوسيولوجية تعرف بالاقليات الضاغطة يسندها إعلام محرض  فقد موضوعيته في الكثير من الأحيان و بعض منظمات المجتمع المدني في سياق تنامت فيه الجريمة الإرهابية . المغادرة كانت ناجمة عن تقدير سياسي و ليس ميزان قوى معيارها الشارع و الضغط الشعبي، البلاد كانت على حافة تعميم حالة من العنف  التي قد تجهض تجربة الانتقال الديموقراطي برمته خصوصا وان أهم سلطة تأسيسية قد تم تعطيلها ألا وهي الجلس الوطني التأسيسي. الحوار الوطني  كان مسلكا لتجنيب البلاد الأسوأ. كان احتمال مغادرة الترويكا رغم حيفه الأخلاقي و السياسي هو الخيار الأقل تكلفة.  الآن عبرنا تلك المرحلة العويصة و التاريخ سيذكر للترويكا و النهضة ذلك الموقف.هل كان ذلك ناجم عن ضغط ام حسن قراءة لوضعية البلاد ام لتوافقات ام لتطور في الفكر الحركي و السياسي للنهضة و حلفاءها هذا لايهم ستنجلي غيوم قد تساعد على ترجيح أي من العوامل تلك قد كانت المحددة و لكن العبرة بالخواتم.

لو تسألني ما هو السناريو الأفضل في إدارة  الأزمة السياسية التي بدت جلية بعد اغتيال الشهيد شكري بلعيد لقلت لك تشكيل حكومة تكنوقراط او غير متحزبة او محل توافق كبير على شاكلة ما نادى به السيد رئيس الحكومة السابق حمادي الجبالي لقد كنت من هيئة الحكماء التي لم تعمر طويلا و حلت بمجرد مغادرة هذا الأخير رئاسة الحكومة.  لم يكن هذا موقف الترويكا و تشكلت حكومة السيد على العريض. تحسن الوضع نسبيا و لكن تم الاغتيال الثاني الذي غيب الشهيد محمد البراهمي و لم تعد البلاد تحتمل مواصلة الحكومة لعملها في مناخ من التوظيف و التأمر عل التجربة التونسية بالذات. من يركز على تقييم الآداء بمعزل عن السياق يتجنى على التجربة و يتلف ابجديات التحليل العلمي.

 

س : بعد السماح للدستوريين والتجمعيين بالمشاركة في الانتخابات القادمة وأثر صدور القانون الانتخابي هل ترى أن نتائج الانتخابات القادمة ستؤدي الى تغيير الخارطة السياسية ، وقبل ذلك هل أنت مع الفصل أو الدمج بين التشريعية والرئاسية؟

 

ج : بعد اسقاط الفصل المتعلق" بالعزل السياسي المؤقت" من القانون الانتخابي  والذي من نتائجه السماح لمسؤولي التجمع الدستوري الديموقراطي من الترشح و الانتخاب ستكون الخارطة  السياسية مقبلة على تغيرات  ذات معنى مما يجعل المسابقة الانتخابية على أشدها و قائمة على تساوي الفرص من جهة قانونية بحتة. قد يكون ذلك سببا في فك الارتباط المتعسف بين نداء تونس و العائلة اليسارية التي لا تقف مع النداء على نفس الأرضية الإيديولوجية و السياسية.   و قد يكون سببا أيضا في تفكك الترويكا و ظهور تحالفات جديدة. اللعب سيكون مفتوحا  و التكتيكات ديناميكية مما يجعل اللعبة شيقة محافظة على بعدها الفجائي.

كان الناس على استعداد لتقبل اسقاط الفصل المتعلق بالعزل السياسي لو اعتذر هؤلاء عن ثلاثة عقود من الاستبداد  نظروا اليها او طبقوها او سكتوا عنها و لكن ذلك لم يحدث و حتى العدالة الانتقالية تأخرت عن معالجة هذا الأمر ,لذلك ترى بعض الخيبة غي وجوه الشياب الذي قاد الثورة, و لكن اعتقد ان ما ستغنمه تونس هو انتقال ديموقراطي حقيقي  و لو أحيانا على حساب المشاعر النبيلة، إسقاط العزل يضع القوى الثورية أمام تحديها الأكبر: كيف تكون صناديق الاقتراع وفية لدماء الشهداء متبرمة بمن قاد البلاد لأكثر من ثلاثة عقود بالدم و النار. عزل سياسي يقوم على العقاب الانتخابي و ليس على العقاب القانوني، لا بد من نقل المعركة الانتخابية إلى صناديق الاقتراع  و ليس إلى النصوص. و لكن علينا ان نخوضها بنبل و احترام القانون و الالتزام بمعايير الشفافية و النزاهة سيكون للانتصار الانتخابي معاني أخرى أنبل و أعمق مما لو انتصرنا على خصم  معزول أصلا. سيذرع الخصم بذلك و يطعن في مشروعية الانتخابات من وجهة اخلاقية محضة.