"إسأل نفسك مع شروق الشمس متى ستشرق أنت..غن لا تبالي بأحد, افرح, الفرح لك, السماء لك, الكون لك, إنك سيد نفسك فلا تخضع, وأنت العاقل فلا تتبع القطيع, وأنت الحر لا تركع, كن عاشقا, كن ولهانا, كن سكرانا بالحرية...", كانت هذه الكلمات من الوصايا العشر بل من الوصايا الألف التي رشح بها العرض المسرحي الإستثنائي "رسائل الحرية" في افتتاح مهرجان الحمامات الدولي بتونس, أول أمس الأربعاء, في سهرة راقية لعشاق الفن الرابع حضرتها "بوابة إفريقيا الإخبارية".
"رسائل الحرية" نص عميد المسرح التونسي والعربي عز الدين المدني وسينوغرافيا وإخراج حافظ خليفة, مع مشاركة شرفية وأداء صوتي للفنان لطفي بوشناق, هو عمل مسرحي ضخم جمع قامات من المسرح التونسي على غرار كمال اليعلاوي والبشير الغرياني والبشير الصالحي وكمال زهيو وفتحي الذهيبي وغيرهم.
وتتناول المسرحية حقبة زمنية معينة عاشتها البلاد التونسية بماضيها السياسي والديني والإجتماعي أسفرت عن قيام حراك شعبي من أجل الحرية والإنعتاق تمكن إثرها الشعب المنتفض على الفقر والجوع وعلى القيود النمطية والقوالب السياسية والتاريخية والدينية والإجتماعية الجاهزة والمتوارثة من بناء دولة افتك حكمها لاحقا "كهنوت" السياسة والدين.
"رسائل الحرية" استوحت سياقات حقبة تاريخية معينة من تاريخ تونس والتاريخ العربي ككل لتكسر جميع "التابوهات" سياسيا ودينا وثقافيا واجتماعيا وتعري الكوامن والمسكوت عنه وتفتح نوافذ ناقدة ومنتقدة لحاضر تونس وحاضر بلدان المنطقة العربية بعد ما يسمى ب "ثورات الربيع العربي" وما "أشبه الأمس باليوم" بما أن "التاريخ يكرر نفسه" في بعض الحالات إن لم نقل أكثرها.
"رسائل الحرية" استلهمت من تاريخنا العربي جانبه الموبوء وفضحت بؤسه زمانيا ومكانيا وكشفت جميع عوراته, بدء من ظلم الحكام الطغاة ودجلهم وشعوذتهم الأزلية من أجل الإستحواذ على السلطة والبقاء فيها "خالدين مخلدين", مرورا بحجم المجازر التي ارتكبت من أجل عيون السلطة وبإسم الدين في حق الشعوب العربية المغلوبة على أمرها, وهي مجازر ظلت في الحقيقة موجودة إلى اليوم, وإن خفتت حدتها نوعا ما, وذلك رغم اختلاف الزمان والمكان وتباين السياقات التاريخية والإجتماعية والسياسية لكل بلد عربي.
وانت تشاهد المسرحية تبحر في ثنايا التاريخ بين دجل "المهدي المنتظر" و"نبوءة السلطة" في تقاطع رهيب مع نبوءة الجنة والاخرة وحور العين والجزاء والعقاب والفرقتين الناجية والمغضوب عليها سياسيا ودينيا وإجتماعيا في عرف سماسرة السياسة والدين ماضيا وحاضرا.
"رسائل الحرية" التي افتتح بها مهرجان الحمامات الدولي سهراته مثلت بجدارة الحدث الإبداعي الأهم لهذا الموسم في تونس, حيث كشفت زيف أساطير الأولين والحالين من مشعوذي السياسة والدين في تونس والعالم العربي وعرت بؤسنا كشعوب في ظل "الحاكم بأمره" و"الزعيم الأوحد", ونحن نرزح تحت ثقل تاريخ بائس وحاضر مؤلم ومستقبل غامض ومجهول, في زمن نحن ندور فيه جميعا في حلقة مفرغة تضيق بنا يوما بعد يوما وفق مسار أوحد ووحيد هو مسار " نبوءة المهدي المنتظر" المزعوم التي تتمظهر لنا يوميا في واقعنا الراهن الذي يعاني من عاهات وعلل تكاد تكون مزمنة وفي كل المجالات.
"رسائل الحرية" أراد لها مؤلفها عز الدين المدني أن تنطلق من حدث انتشار وإكتساح دعوة أبي عبد الله الشيعي بإفريقية (تونس) وقيامه بثورة ضد الأغالبة, أهل الدار والسكان الأصليين, بدعوى محاربة الظلم وإسقاط حكم الدكتاتورية والإضطهاد وعتق الشعب من الفقر والجوع والحيف الاجتماعي, لكن يتبين لاحقا أن هذا القادم الغريب عن أهل الدار ليس سوى دجالا متخفيا تحت عباءة "الدين", وليس سوى سفاحا وجلادا متسربلا بسربال العدل والحرية الزائفين.
ويعيث الحاكم الجديد الذي أتى لإسقاط نظام وإستبدال حكم فسادا وتقتيلا في إفريقية, وتغرق البلاد في مسار مظلم من الظلم والتفقير والجوع والقتل, وأصبح أهلها يعيشون في أوضاع أكثر سوء وشرورا من الماضي, لكن فجأة ينبثق صوت من دهاليز هذا النفق السحيق مكسرا جميع القيود وحواجز الخوف والمنع صارخا وهادرا :" اعلموا أن من يحكمكم دجال ومشعوذ..اعلموا أن المهدي المنتظر هو مجرد حلم.. مجرد أمل ولا وجود له.. لا وجود للمهدي المنتظر.. أنتم هم المهدي المنتظر".
...ذلك الصوت الهادر كان هو صوت "رسائل الحرية".