مرت أشهر عديدة على مكالمة موظف البريد السريع التي انتشلني من غرفة الاخبار المزدحمة بالدماء لتبلغني بوصول رواية "منينة بلانشيه" للكاتب محمد ولد أمين إلى باب المكتب، كنت أنزع المغلف باستعجال واستعراض متعمد مستثيرا من حولي من الصحافيين ليسألني أحدهم عن مضمون هذه الرسالة وحالة الفرح التي بدت على وجهي، ولأجد مبررا للاعتزاز باسم يضاف إلى قائمة الكتاب ويكسر شهرة "بلاد المليون شاعر" الملازمة لموريتانيا. – لم أكن قد قرأت الرواية حينها-

وفي الوقت ذاته كنت أستبطن شعورا بالحسرة ان مكالماتي ومراسلاتي العديدة مع أصدقائي في موريتانيا لم تنجح في أن تكفيني مؤونة استيراد أدب موريتاني من متجر ألكتروني في بيروت، فقد كانت الرواية – وربما ما زالت- لم تصل بعد إلى رفوف المكتبات الموريتانية المتخمة بالكتب الصفراء وإصدارات الانتقائية القبلية والمشيخية.

لا يعرفني الكاتب ولم ألتقه في حياتي سوى مرة واحدة حين كان وزيرا للاعلام، وكنت رفقة فريق من وكالة الانباء اليابانية  في رحلة إنتاج عن العبودية والتصحر، ومن المؤكد أنه لا يذكر ذلك اللقاء ... وربما تكون لذلك إيجابية أن الحديث عن روايته من قارئ مبتدئ مثلي يخلو من المجاملة.

متعة الترابط السلس

الرواية المطبوعة في مائتين وست صفحات، والصادرة عن دار الساقي اللبانية التي تعد من أفضل دور النشر النخبوية في العالم العربي، تبدأ بالحديث عن طائرة فرنسية سقطت في جبال الأندلس، في تصوير بديع للحظة الموت المفاجئ المأساوي لركابها، ولكن ذلك لم يكن سوى مدخل لما هو أهم.. راكب واحد من بين أولئك سيكون محور الرواية وينتقل به الرواي جزيف بلانشيه ليغوض في أعماق أسئلة فلسفية عن تراتبية الموت، فيتساءل لو لم تمت أمه منينة في ذلك الزمان والمكان هل كان سيحصل على كل تلك التفاصيل عن رحلتها إلى الأبدية؟

ومن الوصف الخلاب ليوم أندلسي ينتقل الرواي بقفزة زمنية إلى بروكسل للقاء طبيبه المتفلسف والغامض الذي تثار شكوك كثيرة حول "علمية" العلاج بالصوم التي يقوم بها منطلقا من نظرية أن الابن لا يرث من أمه الخصائص البيولوجية فقط بل أيضا ذكرياتها، وفي مرحلة ما يستطيع الانسان أن يعيد ذاكرته إلى مرحلة النشأة الأولى بل ما قبل ولادته لتشاركه الماضي مع ذاته، ماض لم يكن هو شئيا مذكورا لحظة حدوثه.

وفي تلك المجازفة غير المؤكدة في "علميتها" يستطيع الشاب المترف استحضار تاريخ عريق من زمن السيبة الموريتاني ويأخذ القارئ من شوارع بلحيكا الأنيقة إلى اقبية القش وقلاع تامشكط وزرائبها، وأحقاد القبائل الموتورة  ومكائد ساستها، ثم إلى الاختراق الاجتماعي للمستعمر الفرنسي الموظف لكل ما يستطيع، ليعش مع القارئ متعة اللبنة الأولى للعاصمة الموريتانية، وشقاء الحب غير المتكافئ، فالزواج وإشكالية الولادة التي تعمق شرخ الهوية لطفل موريتاني فرنسي أو فرنسي موريتاني.

"الخلوة" الغربية

من أجل أن يضفي الكاتب إلى روايته بعدا "علميا" فلسفيا لا غنى عنه في أحداثها لجأ إلى استشارة الطبيب النفسي برينارد، ليجرب استعادة الأحداث بالصوم، وليمتع القارئ بالمزج الزماني والمكاني وهو تصرف مقبول أدبيا، إلا أنه في ذلك كان يقدم جزء من التراث الصوفي المورتياني العريق الذي يشكل جزء من البنية النفسية للإنسان المورتياني المولع بالتدرج الغيبي، ففي التراث الصوفي يعرف لدى أهل الطرق ما يسمى بـ"خلوة الأربعين" وهي مرحلة من الانقطاع التام عن الأغيار، يقضيها المتدرج في معارج السالكين إلى العلياء لا يكلم فيها أحدا، ويستغرق فيها أربعين يوما في التعبد والتبتل، ويحضر فيها مشاهد من العالم العلوي شبيهة بما وصل إليه الشاب المترف جزيف بلانشيه من قدرته على لقاء الأموات.

ولكن الكاتب استطاع أن يضفي على ذلك الموروث الصوفي مسحة علمية أكسبته روح العصر الذي يعيشه شاب في القرن الحادي والعشرين.

تعرية المجتمع المحافظ

لم تخلو الرواية من كثير من مظاهر الفساد الاجتماعي والسياسي وحالة التناقض الفكري والفلسفي التي يعيشها الموريتاني المنتقل من قاع البداوة إلى تجليات الحداثة، فتختصر مشاهد "مينة بلانشيه" وشيخها الذي ترافقه السبحة وفنانها الذي لا تفارقه "تيديننه" ومجالس الأنس والطرب، واستعراض المفاتن، والتمايز الطبقي تعرية جزء من ذلك الواقع المسكوت عنه.

كما أن حالة الشاب "جوزيف" الذي ورث من المال ما يكفيه مؤونة الدراسة أو البحث عن عمل تكشف طبيعة محدثي النعمة من الجيل المورتياني الجديد، وإن كان ذلك المال الوافر لم يكسب صاحبه السعادة التي يتمناه فنجده وهو في أجمل البقاع الأوروبية يتمنى لو كان عنده عمل يلزمه بالاستيقاظ صباحا والكدح طوال النهار، والعودة مجهدا في المساء ليجد لذة الاستحقاق لسعادته.

ولعل الجانب الأبزر من الفساد هو الجانب السياسي والقانوني الذي كان مسك الختام للرواية حيث تصدر محكمة حكما قضائيا ويوقعه وزير من دون استبيان حقيقته، وترفض جهات تنفيذية العمل بمقتضى حكم قضائي، في تناقض صارخ مع روح الديمقراطية، ولكنه وصف دقيق لواقع الحال.

وتتجلى الفكرة الأبزر للرواية بكاملها عن حالة ضياع الهوية التي تعيشها موريتانيا، وهي الدولة التي وجدت نفسها معترفا بها في العالم بوصفها دولة عربية ولكنها في واقع الحال تابعة ثقافيا لموروث فرنسي رحل أهله وسادته من زمن وبقى من يؤمن لهم الحماية.

حسرة القارئ الموريتاني

وخارج نص الرواية يجد القارئ في نفسه جملة أسئلة:

 لماذا  لم تصل هذه الرواية الجميلة إلى القارئ الموريتاني في عقر داره؟

لماذا يشاد بالادب الموريتاني من كتاب عرب قرأوه فاستمتعوا به، ولم يكن في نفسهم حرج من الإشادة به، ولا يسوق الموريتانيون أدبهم في بلادهم؟

لماذا على الكاتب الموريتاني أن يذرع الأرض بحثا عن ناشر لإنتاجه وتخلو أرض "المليون شاعر" من دار نشر على قدر من المهنية والانتشار؟

لماذا يضطر الراغب في اقتناء الأدب الموريتاني إلى البحث عبر الانترنت ولا يستطيع اقتناءه من مكتبات نواكشوط؟

لماذا تتسابق شركات التوزيع العربية لتوزيع الكتب الموريتانية المنشورة في المشرق العربي ولا تتكفل مكتبة موريتانية واحدة بذلك في أرضها؟

إلى أن تجد تلك الأسئلة إجابة... علينا دائما انتظار مولود موريتاني جديد في عالم الأدب يحتفى به من الغرباء وينبذ من الأهل تماما مثل "جزيف بلانشيه"

 

 

*صحافي ومدون موريتاني

[email protected]