عندما لا ينصف الواقع المفروض ويفرق دول تتقاسم كل شيء قبل أن تفرقها خارطة الجغرافيا ليصبح الواقع يتحدث بلون التفرقة والحدود والمصالح التي باتت تبدوا متباعدة في بعض الأشكال، وحده التاريخ يحكي تلقائية الشعوب ووحدتها بعربون التلاحم الموقع بحبر الدم في وثيقة الصلة التي لن تزول، ولعل أحداث ساقية "سيدي يوسف" الأليمة في نتائجها والعظيمة في برهانها واحدة من حلقات الزمان القريب والبعيد التي تقول كلما تجددت ذكراها وفي أي حال تعود فيه بأن الحواجز والحدود لم تفصل يوما بين الشعبين المتجاورين العربيين المسلمين تونس والجزائر.

 كان الثورة الجزائرية تعد سنتها الرابعة وهي التي أصبحت أكثر تنظيما في مرحلة يصفها المؤرخون بالمهمة في تاريخ نضال الشعب الجزائري بعد أوت 1956 و بالتحديد حين سطر مؤتمر "الصومام" تاريخ البلاد المقبل. و وقتها كانت تونس الخضراء تعد أيضا سنتين من هواء الحرية، وفيهما لم ينسى التونسيون أن هناك أخ جار يضيق عليه ذات المستعمر نفس الإنعتاق ولا غريب أن يمد الأخ يد العون للأخ في أوج الحاجة.

 تقع مدينة "ساقية سيدي يوسف" على الحدود الجزائرية التونسية على الطريق المؤدّي من مدينة سوق أهراس بالجزائر إلى مدينة الكاف بتونس وهي قريبة جدًا من مدينة "لحدادة" الجزائرية التابعة إداريا لمحافظة سوق أهراس، وبذلك شكلت منطقة إستراتيجية لوحدات جيش التحرير الوطني المتواجد على الحدود الشرقية في استخدامها كقاعدة خلفية للعلاج واستقبال المعطوبين والإمداد بالسلاح.ما جعل فرنسا تلجأ إلى أسلوب العقاب الجماعي وذلك بضرب القرية الحدودية الصغيرة

سبق القصف قامت فرنسا الاستعمارية بعدّة تحرشات على قرية "سيدي يوسف" وهي تتبع خطى مجاهدي ثورة التحرير الجزائرية، وكان أوّل تحرّش سنة 1957 بعدما أصدرت فرنسا قرارا يقضي بملاحقة الثوار الجزائريين داخل التراب التونسي بتاريخ أول سبتمبر 1957 وهو ما جعلها تدخل تراب تونس المستقلة في سياق ذلك في أكتوبر 1957 على مرتين متتاليتين، ثم تعرضت الساقية إلى اعتداء ثاني في 30 جانفي 1958 بعد تعرّض طائرة فرنسية لنيران جيش التحرير الجزائري ليختم التحرشات بالغارة الوحشية في 8 فبراير 1958 بعد يوم واحد من زيارة "روبر لاكوست" (الوزير الفرنسي المقيم والحاكم العام للجزائر منذ 1956) للشرق الجزائري. واختارت الآلة الحربية الاستعمارية الوقت بعناية خبيثة يوم السوق الأسبوعية بالقرية الآمنة.

وكانت السلطات الاستعمارية تعلم تمام العلم بتزايد عدد اللاجئين الجزائريين الذين جاؤوا لتسلم بعض المساعدات من الهلال الأحمر التونسي والصليب الأحمر الدول في ذات اليوم وذات الساعة (الحادية عشرة صباحا) لتنفذ في حقهم مجزرة جماعية أختلط فيها الدم الجزائري بالدم التونسي وترسل أسراب الطائرات الحربية أنواع ذخيرتها كلها في قصف تواصل لنحو ساعتين وحول القرية إلى خراب ما بعده خراب.

ضحايا الفاجعة

 استهدف القصف الفرنسي لقرية "سيدي يوسف" على التحديد في البداية دار المندوبية (المعتمدية) والمدرسة الابتدائية وغيرها من المباني الحكومية ومئات المنازل فيما كانت المطاردات تلاحق المدنيين العزل الفارين بأرواحهم بعيدا عن القرية. و قد بلغ عدد شهداء الحادثة 68 بينهم 12 طفلا أغلبهم من تلامذة المدرسة الابتدائية و 9 نساء وعون من الجمارك فيما بلغ عدد الجرحى 87 جريحا.أما الخسائر المادية فصور الأرشيف الدولي الفيلمي والفوتوغرافي تحتفظ به في مكتبات تاريخ الجرائم ضد الإنسانية ، ويتجلى بوضوح تحطيم السيارات بالمدنية ومنها شاحنات تابعة للصليب الأحمر الدولي والهلال الأحمر التونسي الذين وقعا شهادتهما للتاريخ. وتحطمت ومساكن السكان البسطاء الأمنيين.

وقد كان مندوب الصليب الأحمر "هوفمان" متواجدا بساقية سيدي يوسف أثناء القصف وقتما وصل ومساعدوه حوالي الساعة العاشرة قصد توزيع الإعانات الغذائية وغيرها على اللاجئين الجزائريين. وصرح في شهادته أن القاذفات الفرنسية التي هاجمت الساقية ودمرتها حطمت أيضا عربات الشحن التابعة للصليب الأحمر كانت مشحونة بالملابس المعدة لتوزيعه على المحتاجين بعد جمعها من سويسرا وتونس بشكل خاص.وتعد أحداث ساقية سيدي يوسف من بين أبرز محطات العار التي تلطخ دفتر التاريخ الفرنسي الذي يدعي التحضر و الولوج بمستعمراته إلى عالمها لكنها تبقى أيضا ملفا أخر يجرم فرنسا النار والاستعمار التي استعمال فيها كافة الأسلحة بما فيها المحظورة ك"النابلم" علاوة على إ نشاء مناطق محرمة في الأرياف الجزائرية وعزها و إتباع سياسة القمع والإيقاف والعقاب الجماعيين.