المتابع للسلسلة الكوميدية "شط الحرية" في جزئها الثالث، سيكتشف شكلا غير متعوّد على الشاشات الليبية وربما حتى العربية. المسلسل الذي يحصد نجاح غير مسبوق ليس في ليبيا فقط بل أيضا في دول الجوار تونس والجزائر ومصر، كان عبارة عن حلقات غير مترابطة، كل حلقة منه بفكرة جديدة، يطغى عليها الجانب الكوميدي، لكنها كوميديا سوداء تحمل في مضمونها رسائل سياسية واجتماعية حول ما يعيشه الليبيون في السنوات الأخيرة من خلافات وانقسامات وتضاعف للمشاكل، وكلها طرحها المسلسل في فضاء ضيق هو ريف اجدابيا، أين تكون للخيام والأغنام والإبل وللخيل قيمة رمزية كبيرة وعبرها تُبنى أغلب أحداث السلسلة.

المسلسل الذي يبث في موسميْه الأخيريْن على قناة "ليبيا 218"، وقلبهما في موسم على قناة "المستقبل"، من تأليف وإخراج فتحي القابسي، يحقق نجاحات غير مسبوقة، وتتابعه كل العائلات الليبية على كامل خارطة البلاد الممتدة. لكن الأهم في كل هذا أن المسلسل حقق أيضا مع عجزت عنه السياسة، فهو اليوم تقريبا يكاد يكون الوحيد الذي يوّحدهم وينسيهم الأزمات والتعقيدات التي تعيشها ليبيا منذ التحولات التي عرفتها في العام 2011، أين طغت لغة التوتر والسلاح والأنانية.

يعود "شط الحرية" إلى سبعينات وثمانينات القرن الماضي، ليتحدّث لنا عن صراع نفوذ مكشوف أحيانا وخفي أحيانا أخرى في منطقة "مقلب الشراب" الريفية، بين قبيلتين أو عائلتين، واحدة تسكن الخيام يمثلها الشيخ "بورقبة" والشخصية ذات الكاريزما الأكبر والرأي الأصوب والأخرى تسكن "البراريك" ويمثلها الشيخ "الهمندعي" وهو شخصية مندفعة باحثة دائما عن المشاكل وتحاول أن تنافس القبيلة الأخرى في كل التفاصيل وترى أن العنف دائما سبيل لحسم "المعارك"، تضاف إليهما عائلة "قوبعة" ذات النفوذ الأقل وتلعب على التناقضات وأحيانا حتى تفتعل المشاكل لكي يكون له دور في الأحداث، لكن دائما ينتهي كل صراع بجلسة سلم وتوافق في خيمة "بورقبة" في رسالة وحدة لكي تبقى "مقلب الشراب" لكل أهلها مهما تطورت خلافاتهم.

وخلال أغلب الحلقات توجد إشارات على "المؤامرة" التي تحاول التدخل بين العائلات لبث الفتنة، وغالبا ما يتم التفطن إليها من "الفقيه زيدان" رجل الدين والعلم الذي يكون حكما في حسم المشاكل بين العائلات بالنظر إلى رمزيته الدينية الغالبة على كل رمزية أخرى. والمؤامرة هنا إشارة غير مباشرة إلى التدخل الخارجي الذي أثر على ليبيا خلال سنوات وبث الفتنة بين الإخوة والمناطق.

شخصية الفقيه زيدان كانت طريفة في مستويين؛ الأول هو دورها في التهدئة والمشورة الدينيّة والتي تكون بسيطة دائما وبعربية فصحى تحتاج في الغلب إلى ترجمة فورية حسب بساطة عيش المنطقة، والثاني هو صورة كل فقيه في زلاته المضحكة في علاقة ببعض أحاديث الشباب أو بسماع الأغاني الذي له فيها أيضا ثقافة يطرحها على من معه.

ووسط صراع النفوذ بين عائلات بورقبة والهمندعي وقوبعة، تدخل شخصيات مؤثرة من "مراجع" الذي يعتبر اليوم الشخصية الأقرب إلى الليبيين، إلى "أبو سلمين" والمشري" و"مويلح" ومجموعة أخرى من الممثلين الموهوبين، لتجعل كل أحداث المسلسل مضحكة، وأحيانا إلى درجة الكوميديا في أقصاها، يمثلون كلهم حياة البادية ويصبح الرعي والرغبة في الزواج والصيد أهم المشاغل ومنها يمكن أن تنشأ حكاية أو اجتماعات عاجلة، ومن النادر جدا أن يكون هناك حديث عن حياة المدينة ولا تحس أن هناك فهما لها، بل حتى الحديث عنها يكون مزيجا بين الغرابة والسخرية.

بهذه التفاصيل وغيرها نجح المسلسل في كسب جماهرية كبيرة داخل ليبيا وخارجها، ربما تجاوزت حتى ما كان يقدّم سابقا في أعمال الفنان حاتم الكور، وكان ذلك عبر أفكار وإمكانيات بسيطة نجحت في تأثيثها مجموعة من اتحاد فناني اجدابيا، بما يعطي فكرة أن النجاحات لا تستحق بالضرورة أموالا كثيرة بل تحتاج فهما لما يريد أن يراه ويسمعه الناس. 

والحديث عن نجاح لـ"شط الحرية" حتى خارج ليبيا، تبينه أيضا بعض ردود الأفعال على مواقع التواصل الاجتماعي، فيكفي الدخول إلى الصفحة الرسمية للمسلسل على "فيسبوك" ليعرف الجميع الجماهرية الكبيرة التي يحققها، في مناطق تونس والجزائر ومصر التي تعتبر اللهجة الليبية سهله الفهم عند سكانها، بل إنه كان محل إعجاب حتى لدى بعض الكتاب والمثقفين، حيث نشر الباحث التونسي الشريف بن محمد، تدوينة حول قيمة "شط الحرية" بشكل مفصل وفاهم لكل التفاصيل فيه، بل ومتأثر به كأنه جزء منه، يتابع الأحداث، ويشارك الأبطال أدوارهم، وحريص على تتبع حتى أغنية البداية مقدما أصل الحكاية وما فيها من شعور حزين تبعثه الأم لولدها الوحيد "المفارق"، فذلك يعني أننا أمام إنتاج فريد شهرته "طبّقت الآفاق في لييا وخارجها" وأصبح أقرب إلى الظاهرة الفنية التي لا تتكرر كثيرا.

الكاتب التونسي تحدّث بإعجاب الأكاديمي لا بإعجاب المشاهد العادي، حيث أشار حتى إلى قيمة الشعر بالقول "إنّ من النّقاط المضيئة في المسلسل أنّ الشخصيات لا تكرّر بعضَها، ولكلّ شخصيّة مجال تفرّد خاصّ بها، ولنضربْ على ذلك مثال الشّاعر ( بوسالمين / الشاعر عبد الباسط الفالح) الذي يعقّب على كلّ حادثةٍ بقطعة شعريّة يسمّيها تَوَاضُعًا (هَتْرُوشَه) يلخّص بها الحادثة أو المقام النثريّ فيورد ما أنتجت قريحتُه (التي هي قريحة المؤلّف في الحقيقة)، أو ما أنتجت قرائحُ الشّعراء المنجّذين من القدماء فيكون الشّعر في بابه موجزا خفيفا مروّحا عن النّفس ملخّصا الموقف ببراعة".

يخرج إذن مسلسل "شط الحرية" من مجرّد عمل كوميدي ليبي وبلهجة "شرقاوية" محلية، إلى رسالة جامعة ليس إلى الليبيين فقط الذين رأوا فيه أنفسهم وما يحلمون به فقط، بل إلى موعد يومي حتى في عدد من المناطق العربية الأخرى، التي لم تنجح الأعمال الدرامية والكوميدية في بلدانها أن تمثلها بسبب التجاوزات الكثيرة التي تحتويها.