"التبراع " ظاهرة أدبية تمتاز بها المرأة الموريتانية عن غيرها من نظيراتها في العالم ، حيث تستطيع من خلالها أن تعبر بكل تجرد عن مشاعرها تجاه الرجل في كلمات جزلة بسيطة عميقة المدارك راقصة بالموسيقى ...

في موريتانيا يسمح المجتمع المحافظ للمرأة بنفثة المصدور التي تخفف عنها من لواعج شوقها غير انه يصادر حقها في تدوين الأدب باسمها وهو الحق الذي يمنحه كاملا لشقيقها الرجل ... فالتقاليد  الاجتماعية الصارمة في موريتانيا تحظر على المرأة البوح بمشاعرها العاطفية، أو التعبير بأي شكل من الأشكال علنا عن ما يختلج في صدرها من رغبات وأحاسيس تجاه الجنس الآخر، إلا  أنها  استطاعت أن تفتح لنفسها ثغرة في جدار العادات والتقاليد  السميك سمحت لها بإبداع فن «أدبي» أطلقت عليه «التبراع» تحكي فيه بأسلوب عاطفي مؤثر ما تعانيه من آلام ، وما تشعر به من أحاسيس اتجاه من تحب .

غزل على الطريقة الموريتانية

يرى الدكتور والشاعر الموريتاني الشيخ  ولد سيدي عبد الله أن  أصل كلمة (التبراع) تحريف لكلمة (الترباع) وهو ما يشي بعلاقة تاريخية بين اسم هذا الغرض الشعري في موريتانيا واسمه في باقي بلدان المنطقة(المغرب مثلا)، حيث يسمى (الرباعيات).

أما الاحتمال الآخر فهو أنه قد يكون تحريفا لهجيا لكلمة (التبرع) الفصيحة، ذلك أن المتبرع يتوخى فيه عدم ذكر اسمه فيكون عطاءه (تبرعا) لا يريد من أحد جزاء ولا شكورا عليه.

والحال نفسه مع «التبراع» الذي يتميز بأن صاحبته مجهولة وهي تتبرع على الحبيب (بكاف) وهو بيت شعري من الادب الشعبي يخلد حبها له، ولذا فإن تبرعها ليس حبا في عطاء أو شهرة،وإنما هو ترويح عن قلب مكلوم ونفس معذبة.

ويضيف  ولد سيدي عبد الله أن الموروث الاجتماعي هو الذي أعطى صورة دونية عن المرأة بوصفها كائنا يحتاج للرعاية والحماية والحراسة خوفا عليها حتى من نفسها، ولهذا نجد نوعا من القسرية والتزمت في كل ما يتعلق بالمرأة من تصرفات وأقوال فالرجل يمكنه أن يعبر عن عشقه وغرامه أمام الملا فيما يعتبر ذلك عيبا وحراما على المرأة!

رغم ثراء التبراع وتنوع مواضيعه التي تشمل  إيراد الخصائص والسمات الفيزيقية ووصف خصال الحبيب وأخلاقه والتأسّف على غيابه أو عدم اكتراثه بما تشعر به, كتلك التي قالت:

"يا بالي صبرًا، إن مع العسر يسرًا",

وأخرى: "مِنْ مِتْنْ إحْزيمُ نَفْتَحْ نِسْتَنْشَقْ نَسيمُ" .

إلا أن مبدعاته في موريتانيا يحرصن على أن يظل حبيس الأضلع ولا يبحن به إلا لأقرب صديقاتهن خاصة عندما يسدل الليل أستاره .

طقوس الإنشاد

المجتمع الموريتاني الذي يتداول المجتمع الموريتاني "التبراع " دون ذكر صاحبته ويفرض طقوسا كثيرة عليها لحظة إبداعه أو الاستمتاع به ، حيث تنزوي منشداته على كثيب رملي متدثرات بظلام الليل  ، وقد ينشدنه  في شعاب الأودية وفوق الربى وبجوار المضارب، ويمتاز بالحشمة وتطغى عليه الرمزية واللغز في كل تلك السياقات .

ولأن موضوعه الحب والعواطف لا يقال في حضور المغنين لكي لا ينتشر ويصبح في أفواه الناس، هذه السرية التي أحاطت بالشعر النسائي الحساني لم تمنع من وصول بعض روائعه التي تداولها العامة بشكل كبير فأرَّخت بالتالي لشخصيات وحقب وأحداث تمجد سيدات ورثن طقوس الشعر الفطري الخالص.

ويرتفع منسوب إبداع "التبراع" عند الموريتانيات حين يكن على موعد مع حبيب طارق بعد غياب ، أو في لحظة وداع لآخر يحرك في نفوسهن ذكريات ماضيه الجميل ، كقول احداهن :

            ليلة وداعو <> قلبي و الساني ما راعو

            تبليغ السلام <> للي سوحل كامل ذ العام

 

شبح الاندثار !!!

من بين مطرقة الشوق وسندان المحافظة تبدع المرأة الموريتانية تبراعا يقطر رقة وعاطفة ، غير أن دوافع وبواعث صونه لديها ربما انعدمت الآن ،  فلم تعد تجد في نفسها ذلك الحرمان من اللقاء بحبيبها الذي يولد لديها اللهفة والشوق الجارف ...

ولكن السؤال الكبير هو أليس من حق المرأة وهو تنتج أدبا أن تسجله باسمها كما الرجل ليروى عبر السنين ؟ ولماذا يحق للرجل أن يعبر عن مشاعره تجاه المرأة ولا يحق للمرأة أن تعبر عن مشاعرها اتجاهه؟