يزخر الأدب الإفريقي بما كتبه شعراء أفارقة من غير العرب، في السنغال ونيجيريا وغيرهما من الدول التي حفظ التاريخ فيها للشعوب المسلمة ارتباطاً معنوياً قوياً بأرض الحرمين الشريفين. ظلت الأشواق تفيض بهؤلاء نحو الشرق دائماً ... نحو مكة ...في نيجيريا يسمون الشرق (قبس) وفي بعض أقاليم السودان الغربية مثل دارفور، وفي شرق تشاد يسمون الشرق (دار صباح).على طول هذه الأرض الشاسعة من شاطئ الأطلسي وتخومه في الغرب حتى شاطئ البحر الأحمر في الشرق، تظل قصة طريق الحج ، هي قصة الإيمان المضيء تقدح ناره في قلوب الملايين.

حدّثني الشيخ محمد الناصر آدم من مدينة كانو وقد سألته إن كان لديه محفوظات من الشعر المكتوب باللغة العربية عن الحج، فقال لي: أنا لا أحفظ شيئاً باللغة العربية ولكن في لغات الشعوب الإسلامية شعر كثير في الشوق إلى البلد الحرام. وأسمعني بلغة الهوسا قول شاعرهم قربا صوفا:

يا إلهي أسألك أن تمنحني مالاً أحج به، وإن لم تعطني شيئاً بعد ذلك حتى قدر ما أعتمر به.

يفرق أهل نيجيريا في ثقافتهم الشعبية بين السفر للحج والسفر للعمرة، والحج هو المهم بطبيعة الحال، وهو فرض على الجميع فقراء وأغنياء. أما سفر العمرة فهو خاص عندهم بالأغنياء. وهم يعتبرون الشخص الذي أدى فريضة الحج كمن قدم كبشاً في الأضحية، أما المعتمر فهو بمثابة من قدم تيساً.أما أن الحج فرض على الجميع فتفسيره عند الشيخ الناصر أن النيجيريين فهموا الاستطاعة فهماً مختلفاً ربما لاتباعهم المذهب المالكي، وحسب فهمهم فإن الزاد والراحلة مقدور عليهما، ما دامت الرجلان قويتان تحملان الحاج سيراً فهو مستطيع، أما الزاد فهو سيعمل في الطريق ويؤمّن أكله وشربه، ويتقدم مرحلة أخرى من الطريق ليتوقف للعمل واكتساب الزاد. وفي الأقاليم التي يمر بها الحاج يقدم الأهالي الضيافة والمبيت دون مقابل لعابري السبيل، بل يرون ذلك من واجب إكرام الضيف.وظنّ الكثير من أهل الداخل الإفريقي أن سودان وادي النيل من صميم أرض الحجاز، فتعاملوا مع أهله على هذا الظن، وأحب بعضهم الإقامة فيه، فتجدهم قد سكنوا مناطق السودان كلها، خاصة قبائل الفولاني والتكارير والهوسا ، ولا توجد مدينة في طريق الحج السوداني ولا معابر نهر النيل ، إلا وفيها بقية من أولئك الحجاج.ولا نستطيع هنا أن نستقصي أثر طريق الحج السوداني الاجتماعي والثقافي على سودان وادي النيل، وهذا الطريق بحاجة لمزيد دراسة من البحّاثة وأهل العلم والمؤرخين ليقفوا على ما أحدثه من أثر لقرون طويلة على مجتمعات السودان وتشاد والنيجر وليبيا ودول الممر إلى أرض الحجاز.

ولسنا بصدد الحديث عن هذا، فهذا حديث يطول ، لكنما نريد عرض بعض النماذج من الشعر الذي كتبه شعراء أفارقة باللغة العربية.يقول الحاج عبد الله بن إبراهيم بن محمود جوب، من غامبيا، ولاحظ عزيزي المستمع وجود لقب الحاج قبل اسم الشاعر، وهو لقب يفتخرون به جداً في إفريقيا، حتى إن الحاج ليغضب إن لم ينادى بهذا اللقب :

هـاج قلبي باهتزاز

نحو حب في الحجازِ

نور عيني أنس قلبي

روح جسمي وانتهازي

ومن السنغال الحاج محمد انياس في قوله:

ما شاق قلبي صوت الشادن الغرد

ولا ابتسام الثنايا الغـر عن بـرد

ولا تثني ملاح بالحمي بــرزت

تختال في حلل من عيشها الرغـد

ولا وصال لدعد بعد ما مطلــت

وحبذا الوصل بعد المطل من دعـد

لكن إلى زورة يحيا الفؤاد بهــا

بعد الكرى من مفيض السر والمدد

هذا شعر عربي صميم في أسلوبه ولغته. ولا عجب أن أحد الباحثين هو الدكتور خليل النحوي في بحث نشرته له المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (إيسيسكو) عن الشعر العربي في إفريقيا، عدّ هذا الشعر قطعة من الشعر العربي وقال إن خريطة العروبة الثقافية هي أوسع مما يتصور الكثيرون، فحريّ بالغيارى على الثقافة العربية الإسلامية، وعلى الأدب العربي بالذات، أن يكتشفوا أدبهم في تلك الديار النائية ويحتضنوه.قد تسمع شاعراً من بلاد السنغال مثلاً يكتب شعراً في الشوق إلى مكة، فينسج على منوال الشعراء العرب الأقدمين ، يأخذ الصور والتعبير من البيئة الطبيعية العربية ، فتجده يحدو الأظعان مع أن  بيئته لا تألفها، ويشد الرحل، ويصف الناقة. هذا الشيخ الهادي توري، في قصيدة له طويلة، يقول :

يا راكباً وجناء مرقالاً متــى

أرخى الزِمام لها سواها تسبقِ

بسراتها مثل الرماح وعينِـها

مثل الزجاج ورأسِها كالمطرق

تختال في رمل التلاع وتوقـ

د النيران في حزن أمام الأينق

أرخ الزمام لها وأوّب دائمـا

 وذر البطالة فهي شر معـوق

وربما لمثل هذه السليقة العربية الخالصة قال الشيخ سعد بوه بن الشيخ محمد فاضل من موريتانيا في الشاعر السنغالي ذي النون لي، وقد راقه شعره:

" إنك لعربيٌّ ضلَّ عن قومه" ، كما قال الشيخ محمد فال بن متالي في الشاعر الشنقيطي الكبير محمد بن الطلبه: " هذا عربي أخَّره الله".

 ويستطرد الدكتور خليل النحوي في عرض وتحليل الشعر العربي في إفريقيا فيقول:ولعل الرصيد الضخم من الإنتاج الشعري لأدباء السنغال يُفصح أكثر من غيره عن علوِّ منزلة الآداب العربية في تلك البلاد، فقد تاق كل متعلم بالعربية في تلك البلاد إلى أن يكون شاعراً، وكان منهم ـ بالفعل ـ شعراء كُثر، أغلبهم مُكثرون.وليس في هيكل القصيدة السنغالية كبير شيء يستوقف، فهي مبنية بناء القصيدة العربية التقليدية، إلا أنه أقل احتفاء بالمقدمات الغزلية والطللية، ومنه طائفة (الشعراء الدعاة خاصة) يدخلون إلى غرضهم مباشرة من أول بيت، وربما مهَّدوا بأَبياتٍ ينقضون فيها المقدمة الغزلية، بالتنصُّل رأسا من ذكر المحبوبة.

القصيدة المنسوبة إلى عبد الرحيم البرعي اليماني "يا راحلين إلى منى بقيادي هيجتم يوم الرحيل فؤادي"، وقلنا في حلقة سابقة أن القصيدة ربما لا تكون لعبد الرحيم. وما يشد انتباهنا بقوة إلى أن الأفارقة مكثرون من إنشادها، وكم سمعنا هذه الأبيات التي تثير الأشجان على ألسنة قادمين من الداخل الإفريقي البعيد في سوكوتو أو غينيا كوناكري أو فولتا العليا أو قامبيا أو مالي أو ساحل العاج.إن الرحلة الطويلة من غرب إفريقيا نحو مكة المكرمة التي قد تستغرق أشهراً وأحياناً سنوات وربما العمر كله، لم تكن لتتيسر من غير حداء طويل ومغالبة وعثاء الطريق بالإنشاد والشعر. كيف لا ومرتاد هذا الطريق تحركه الأشواق وتحرقه لواعج الهيام بأرض الحرمين وتختلط في نفسه الصور التي بقيت في خياله من قصص السيرة وتلاوات القرآن التي حفلت بها ذخيرته وضاءت بها نفسه وانبجست منها إشراقات رغباته وتطلعاته.

هتف المنادي فانطلق يا حادي ** و ارفق بنا إن القلوب صــوادي

تتجاذب الأشواق وجد نفوسنا ** ما بين خاف في الضلوع و باد

و تسافر الأحلام في أرواحنا ** سفراً يجوب مفاوز الآماد

و نطوف آفاق البلاد فأين في ** تطوافنا تبقى حروف بلاد

هتف المنادي فاستجب لندائه ** و امنحه وجدان المحب و ناد

لبيك  فاح الكون من نفحاتها ** و تعطَّرت منها ربوع الوادي

لبيك فاض الوجد في قسماتها ** و تناثرت فيها طيوف وداد

لبيك فاتحة الرحيل و صحبه ** هلا سمعت هناك شدو الشادي

هذا الرحيل إلى ربوع لم تزل ** تهدي إلى الدنيا براعة هاد

هذا المسير إلى مشاعر لم تزل ** تذكي المشاعر روعة الإنشاد

وهكذا فإن ولاء الشاعر الإفريقي للإسلام ولاءٌ قديم ، وامتزاجه بهذه الثقافة العربية أمر صميم. وهو ولاء إنساني وحضاري في المقام الأول، عبّر عنه بأبيات ظريفة الشاعر التشادي عيسى عبد الله حين قال:

فإن يعلُ شاري بقلبي مكاناً

ففي القلب أيضاً فرات ونيل

وشاري هو النهر المعروف الذي في قلب إفريقيا يمر بالكاميرون وتقع عليه عاصمة تشاد ويصب في بحيرة تشاد.

وإنا على العهد حباً وصدقاً

مع الأهل هوتو وتوتسي وزولو

ويزكو التآخي مع الشرق فينا

ذوو الضاد هم قومنا والقبيل

إذا عُدّ من يصطفيهم عميلا

فإني إذن دون شك عميل

وإيثارهم ليس أمراً محالاً

ودادي فرنسا هو المستحيل

وقفة أخيرة مع قصيدة كتبها العلامة الموريتاني محمد محمود ولد التلاميذ وعبر فيها عن حنينه إلى مكة والمدينة ··· وقد نبهني إليها أحد الأخوة هو الأستاذ محمد يسلم بم محمد الأمين مستشار الحكومة في غينيا بيساو حين سألته عن شعر الشوق إلى مكة في الأدب الإفريقي.والعلامة ولد التلاميذ عالم موريتاني عاش في مكة ورحل إلى الأندلس فكتب عما  عاناه فيها من الغربة والوحشة وما شاهد بأم عينه من الخراب والدمار الذي ألحق بالجزيرة الأندلسية على يد الغزاة، وما آلت إليه كتبها ومكتباتها فرثاها أصدق رثاء وبكاها أحسن بكاء في قصيدة مطلعها:

يا ريح طيبة هبي لي صباح مسا

واستصحبي من أريج المصطفى نفسا

واستصحبي من أريج الصاحِبَيـْن شذى

يفوق مشمومه المشمومَ والهبسا

وكان السلطان عبد الحميد قد بعث هذا العالم الموريتاني في رحلة علمية، يستقصي بها خزانات الكتب والمخطوطات النادرة في بلاد الأندلس، وهي  رحلة حافلة بالأخذ والعطاء وجد فيها ابن التلاميذ ضالته وتمتع ورتع في رياض الكتب والمكتبات، وعاد يحمل معه لائحة بأسماء الكتب المطلوبة من أسبانيا.ويقول معبراً عن شوقه إلى مكة التي كان مقامه فيها عقب تركه بلده موريتانيا إذ يقول عن طولُ ليلِ باريسَ والأندلسِ:

مـا لـيلُ صُولٍ ولا لـيلُ الـتَّمــــــامِ معًا

كلَيْلِ بـاريسَ أو لَيْلـــــــــــــي بأندلسِ

لـم أدْرِ أيّهـمـا أقـوى مُحـافــــــــــظةً

عـلى الظلام وحَجْبِ الصُّبْحِ بـالـــــــــحَرَس

أهل سمعتـمُ بـلـيلٍ لا صـبــــــــــاحَ له

أمْ بـالنهـارِ الـبـهـيـمِ الـدائمِ الـدَّنَس؟

يـا لـيلُ صرْتَ ظلامًا لا نجـومَ بـــــــــه

ولا بُدورَ ولا فقـــــــــــــــدانَ للغبس

إلى أن يقول وهو يحنّ إلى ليلٍ في تهامة بلا حر ولا قر ولا سآمة، فيقول:

يـا لـيلَ طيْبةَ مـا أشهـاكَ عــــــــند جَوٍ

يعتـادُ مـنكَ الصـبــــــــاحَ الطَّيبَ النفس

يـا لـيلَنـا بتِهـامـاتِ الـحجـازِ ويـــــا

طِيبَ الهـواءِ بــــــــــــلا رَطْبٍ ولا يَبَس

يـا لـيلَ مكَّةَ يـا ذا العـدلِ حَدَّ لنــــــا

لـيلُ النصـارى تعـدَّى الـحدَّ فـي الــــدَّلَس

يـا لـيلُ أصـبحْ وأسجحْ قـد مــــــلكتَ وَذَرْ

مـا أنـت فـيـه مـن الطُّغـيـــــان والهَوَس

والْطُفْ بشـيـخِ قـريشٍ فــــــــــــي تفرُّده

يُنِلْكَ مـا شِئتَ مـن عـنسٍ ومــــــــــن فرس

والطُفْ بشـيـخِ قـريشٍ فــــــــــــي تَغرُّبِه

عـن الأبـــــــــــاطحِ دارِ الأُنْس والأَنَس

وأخيراً، فما سقناه في هذا المقال من شعر الحنين إلى مكة في الأدب الإفريقي، لا يعدو أن يكون شذرات قليلة من فيض كبير، نرجو أن يتوفر له قلم باحث يتمكن من استيعاب المزيد، وحسبي هنا أنني أشرت إلى الموضوع إشارة عابرة.

(*)نقلا عن مجلة "قراءات افريقية"