غالبا ما نتهم نحن العرب أننا نعيش ضمن أفق ضيق شعاره المؤامرة. ونتهم بأننا نبرر فشلنا بالارتماء وراء هذه الفكرة "المزعجة"، دون أن نبني لأنفسنا أي مشروع بعيدا عن خيارات الدعم الخارجي. لكن عندما تكون المؤامرة حقيقة والكيل بمكيالين واضح، علينا أن نقولهما بلا حرج لأننا وقتها نتخلص من خوف المواجهة.
البداية بهذا الكلام في موضوع محوره اقتصادي قد يراه البعض مجانيا، لكن عندما يكون الاقتصاد هو "المؤامرة" الفعلية لهذا العالم. وعندما تتصرف قوى التحكم الدولية وفق منطق غير عادل، وقتها من حقنا أن نقول الكلام السابق بكل جرأة. ولسنا نحن المتابعين بعيدا وغير المختصين من علينا قوله فقط، بل دولنا التي تركن في زوايا الضعف وفي سبيل إرضاء تلك القوى ترضى الصمت الذي تكون مضاره دائما أكثر من كلمة الحق.
ما جرنا إلى الحديث في هذا الموضوع هو بلاغ لصندوق النقد الدولي عن منح مبلغ 15.6 مليار دولار كدعم لأوكرانيا، لإنقاذ اقتصادها المنهار بسبب الحرب التي تشنها عليها روسيا من أكثر من عام. 15.6 مليار دولار هو ميزانية كاملة وربما حتى أكثر لبعض بلداننا العربية، لكن "الصندوق السخي" منحها وبشكل سريع وبشروط مسهلة ودون حتى ضمانات واضحة، لكييف في شكل دعم جزئي، وهو ليس الدعم الوحيد منذ بداية الحرب، حيث يضاف إليه ما تم تقديمه أمريكيا وأوروبيا وآسيويا، من أجل إنقاذ الحليف المهَدّد في وجوده.
في الضفة الجغرافية الأخرى، هناك بُلدان ليست فيها حرب، وشعوبها في وضع اقتصادي صعب وقدّمت ضمانات بما تقدر، لكن الصندوق "المُذل" مازال يمارس عليها ضغطا للتنازل أكثر. هو تنازل في ظاهره إصلاحات اقتصادية، لكن في حقيقته شروط سياسية، من بينها اتخاذ مواقف ضد روسيا مثلا ومزيد التغول الرأسمالي ومنح راحة لأصحاب الأعمال وحتى التطبيع مع الاحتلال الاسرائيلي الذي يبقى وسيلة الابتزاز الأرخص تجاه الدول الفقيرة.
وما دمنا بدأنا الموضوع من الأول بالحديث عن الفضاء العربي، فأستحضر مثال تونس، البلد الذي أعيش فيه، وعلاقته بصندوق النقد الدولي. وبزعمي متابعا في الحد الأدنى لوضع البلاد اقتصاديا وأكثر نسبيا سياسيا، فإنه يمكنني نقل ما يحصل مع الصندوق. أكاد أجزم أنه ليس هناك بلد تعرّض للضغط والابتزاز والتدخل في شؤونه في السنوات الأخيرة مثلما حصل لتونس منذ 2011 إلى اليوم. ربما في السنوات الأولى كانت الأوضاع الاقتصادية أفضل قليلا، وربما الصندوق ساير التحولات السياسية و"أُجبر" على منح قروض ذهبت بطبيعتها في المجهول، وربما أيضا وهذا وارد، الأطراف الحاكمة في تلك السنوات كانت تعطي يد الطاعة في كل المطالب التي يشترطها هذا المانح دون نقاشات كبيرة. لكن في السنوات القريبة التعامل تغيّر والشروط تغيّرت.
ففي آخر محطات "الصراع" مع هذا "النقد الدولي" مازالت تونس ومنذ قرابة السنتين تفاوض على مبلغ مليار دولار لتغطية عجز الموازنة. وإلى اليوم ليست هناك أي مؤشرات عن تقدّم، بل ربما الأمور تعقدت أكثر بسبب الأزمة السياسية ومواقف الدول الغربية من مسار "25 يوليو" الذي قام به الرئيس قيس سعيّد سنة 2021، باعتبارها في أغلبها تشترط ما تسميه العودة إلى الديمقراطية لدفع صندوق النقد الدولي لتقديم دعم بطبيعته لن يكون كاف في اقتصاد مليء بالثغرات.
إشكال آخر يعقد إمكانية التقدّم في مساعدة تونس هو رفضها لشروط تجميد المرتبات وهي المشكلة التي تهدد البنية أو الأصح الطبقة الوسطى التي قد تجد نفسها في "حرب" مع السلطة قد لا تتوقف، بالإضافة إلى رفع الدعم عن المواد الاستهلاكية الذي يهدد الطبقة الفقيرة بالمزيد من التفقير، وهذا ما تدركه السلطة وعلى هذا تحاول أن تكثف مشاوراتها بشكل تقدم فيها تنازلات مقدور عليها ومن جهة لا تثقل التونسيين بقرارات موجهة.
خلاصة الموضوع. صندوق النقد الدولي، كما كان دائما هو "كيان" شبيه بدولة افتراضية قوية، تمارس كل أنواع الممارسة السياسية، لكن بشكل غير عادل بين الدول. التي تعطي "بيعتها" وتكون ضمن "معسكره" كحال أوكرانيا ودولة الاحتلال يكرمها بسخاء كبير، والدول "غير المضمونة" رغم صغرها ومحدودية إمكانياتها مثل تونس أو لبنان أو غيرهما، توضع أمامها كل العراقيل وبحجج في الكثير من الأحيان واهية وظالمة ومستفزة، مما يجعلها أمام امتحان السيادة، إما بالتهديد بتغيير تحالفاتها وهذا ناجع وممكن ويحتاج فقط الجرأة، أو بالبحث عن خيار داخلي عبر خلق موارد قادرة على ترقيع الخلل الكبير في الموازنات.