تشهد العاصمة الليبية طرابلس، حالة من الصراع المتجدد بين المجاميع المسلحة "الرسمية" وغير الرسمية التي تقوم بتأمين المدينة والحكومة وبعض مؤسسات الدولة هناك. وهذا الصراع المتكرر منذ سنوات ناتج عن اختلاف في التوجهات والمصالح ومراكز القوى المتواجدة في العاصمة طرابلس.
وشهد الأسبوع الأخير من شهر آب/ أغسطس الماضي، جولة أخرى من الصراع بين الميليشيات المسلحة؛ حيث تحركت قوات عسكرية من مدينة ترهونة جنوب شرق العاصمة، تعرف باسم قوات "اللواء السابع مشاة"، وقد شقت تلك القوات طريقها باتجاه طرابلس، وسرعان ما تبين هدفها الحقيقي المتمثل في الاستيلاء على المدينة.
وقد نجحت قوات اللواء السابع الذي تنكرت حكومة السراج تبعيته لها، في بسط سيطرتها على مناطق حيوية من العاصمة، وأعلن اللواء عن تقدم قواته بخطى ثابتة نحو العاصمة، داعيا كل الأجهزة الأمنية إلى التواجد في مقار عملها وممارسة مهامها في المناطق المكلفة بها.وبعدما اعتبر أن هناك فرصة لتلك الأجهزة بعد دحر الميليشيات التي كانت تهيمن على المشهد وتبتز المواطن، دعا في بيان تلاه الناطق الرسمي باسمه، وزير الداخلية في حكومة الوفاق، عبد السلام عاشور لممارسة كل مسؤوليته والإيعاز للأجهزة الأمنية لممارسة المهام المناطة بها وفقا للقانون.
وقال"اللواء السابع" إنه "يطمئن أهلنا في مدينة طرابلس وجميع المؤسسات السيادية والبعثات الدبلوماسية إلى أن هذا العمل يستهدف حماية المؤسسات السيادية والخدمية، وتخليصها من كماشة الميليشيات ويهيئ المناخ المناسب للجهود الدولية في إنجاز عملها على الأرض"، موضحاً أن مشروعه هو تفعيل المؤسسات الرقابية والنيابية ومؤسستي الجيش والشرطة.
في المقابل سارع رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، فايز السراج إلى نفي تبعية اللواء إلى حكومته، وأكد في بيان له أن هذا التشكيل قد تم حله رسميًا منذ أبريل /نيسان الماضي، كما أعرب عن رفضه "أية قوة تحمل ترسانة مسلحة بغرض الإصلاح والتطهير"، وأضاف البيان:"فوجئنا بما حدث من اعتداء في جنوب طرابلس على مؤسسات الدولة، واقتحام بعض المعسكرات، وما سببه ذلك من سقوط لضحايا أبرياء وشباب من الوحدات الأمنية والعسكرية، وترويع لسكان المنطقة من مختلف مناطق ليبيا"، في إشارة إلى القوات القادمة من ترهونة.
وأعلنت حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج في بيان لها حالة الطوارئ في العاصمة، "بهدف حماية المدنيين والممتلكات العامة والخاصة" بحسب نص البيان، وذلك في ظل الإرتفاع المستمر لضحايا الإشتباكات والذين معظمهم من المدنيين بحسب تقديرات وزارة الصحة الليبية، ناهيك عن زيادة عدد النازحين نتيجة الاشتباكات، وعدم توفر أماكن لإيواء هؤلاء النازحين، بحسب جهاز الإسعاف والطوارئ في طرابلس، ما ينذر بأزمة إنسانية صعبة.
مشهد الصراع المسلح في العاصمة الليبية، ليس بجديد فمنذ إندلاع الأزمة في البلاد، تحولت طرابلس إلى ساحة للحروب المتجددة بهدف السيطرة عليها.فمع سقوط النظام في العام 2011، بدأت الميليشيات المسلحة من مصراتة ومن مدن مختلفة بالتنافس على النفوذ في العاصمة، سواء فيما بينها أو مع الميليشيات التي خرجت من أحياء طرابلس بعد ذلك. ولأنه لم تكن هناك مجموعة واحدة قادرة على السيطرة على رأس المال ، كان على الحكومات الانتقالية المتعاقبة أن تضم ممثلين لفصائل متعددة.
وقد استخدمت هذه الفصائل بدورها موارد الدولة لتعزيز مجموعاتها المسلحة وتعزيز شرعيتها بتحويلها إلى وحدات معتمدة رسمياً. ونتيجة لذلك ، كان صراع السلطة داخل المؤسسات الانتقالية مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالتنافس على المال في طرابلس ، ثم تصاعد في النهاية إلى صراع مفتوح ابتداءً من مايو 2014.
فى 13 يوليو من العام 2014، بدأ تحالف مجموعة ميليشيات إسلامية في ليبيا، أطلق عليه إسم "فجر ليبيا"، هجوماً بهدف الاستيلاء على مطار طرابلس العالمي وعدد من المعسكرات في المناطق المجاورة له.وتسبب الهجوم الذي قاده بعض القادة الميدانيين منهم صلاح بادي وهو عضو المؤتمر الوطني العام السابق عن مدينة مصراته في أضرار مادية كبيرة في الممتلكات العامة والخاصة بينها تضرر خزانات الوقود الرئيسية في طريق المطار بطرابلس والتابعة شركة البريقة لتسويق النفط ما أدى لتضرر عدد من الخزانات واحتراقها لعدة أيام في سماء المدينة.
كما تضررت عدة مباني واتلاف عدد من الطائرات المدنية الرابضة في مطار طرابلس والتابعة لشركات الليبية والأفريقية والبراق وأيضا حرق المبنى الرئيسي بمطار طرابلس الدولى بالكامل. كما تسبب القصف الذي استخدمت به صواريخ متوسطة وقصيرة المدى في أضرار بعدة مباني ومنشآت في المناطق المحيطة بالمطار كذلك وقع عدد كبير من القتلى الجرحى.
وبعد خروج الكتائب المنحدرة من منطقة الزنتان من مواقعها في طرابلس بعد اقتتال دام لشهرين مع ميليشيات فجر ليبيا، بسبب موالاتها لمجلس النواب، الذي إنتقل إلى شرق البلاد، أصبحت طرابلس تخضع لسلطة ميليشيات تابعة للمؤتمر الوطني المنتهية ولايته وحكومته التي تتكفل بدفع مرتبات مقاتليها مقابل حمايتها لها.
وشكل اجتماع الفرقاء الليبيين في مدينة الصخيرات المغربية في 17 ديسمبر 2015، بارقة أمل لبداية جديدة ومرحلة هامة لمعالجة الأزمات السياسية والأمنية، وتكوين إطار سياسي جامع بين الأطراف المتصارعة في ليبيا، إذ وقع الاتفاق على تشكيل مجلس رئاسي، واعتبار مجلس النواب الجسم التشريعي الوحيد، وتأسيس مجلس أعلى للدولة منحت له بعض الصلاحيات التشريعية.
وفي 12 مارس 2016 وبعد ثلاثة أشهر من توقيع اتفاق برعاية الأمم المتحدة، أعلن تشكيل حكومة وفاق وطني مدعومة من المجتمع الدولي.ووصل رئيس هذه الحكومة فايز السراج في نهاية مارس إلى طرابلس وتصاعد الأمل بإمكانية تحقيق السلام في البلاد.لكن ذلك في الحقيقة كان بداية لحقبة جديدة من الصراع المسلح للسيطرة على العاصمة الليبية، بين حكومة الإنقاذ برئاسة عبدالله الغويل وحكومة الوفاق برئاسة فايز السراج.
فرغم أن حكومة الإنقاذ التي يرأسها الغويل، تراجعت في البداية لتفسح المجال لحكومة الوفاق الوطني للعمل، إلا أن تراجعها لم يدم طويلا، فسرعان ما عاودت الظهور عندما سيطرت على مقر المجلس الأعلى للدولة بوسط العاصمة معلنة بذلك العودة إلى الحكم.وظهر الغويل، في 15 أكتوبر 2016، من مجمع القصور الرئاسية في العاصمة طرابلس، وهو يقرأ بيانا يدعو فيه وزراء حكومته وموظفيها إلى العودة لمزاولة أعمالهم وتقديم الخدمات للشعب الليبي.
وشهدت العاصمة طرابلس، عقب ذلك اشتباكات مسلحة تندلع بين الحين والآخر بين المليشيات المختلفة الانتماء سيما بعد أن أعلنت حكومة الإنقاذ المنبثقة عن المؤتمر الوطني السابق عن تكوينها لجسم عسكري جديد تحت مسمى "الحرس الوطني" يضم أغلب الميليشيات التي كونت عملية فجر ليبيا في السابق.
وبعدما كانت كفة ميزان القوى في صالح "الوفاق" التي أعلنت في مايو/أيار 2016 وبعد شهرين من دخولها العاصمة، عن تشكيل قوة من الجيش والشرطة باسم "جهاز الحرس الرئاسي".جاء اعلان حكومة الإنقاذ في ليبيا عن تأسيس قوة مسلحة تحمل اسم "الحرس الوطني" في اشارة إلى أن ميزان القوى في طرابلس أصبح شبه متوازن، وهو جعل العاصمة تحت رحمة قوتين عسكريتين متضادتين ما يهدد بتواصل مسلسل الاشتباكات.
وفي 26 من مايو 2017، شهدت العاصمة الليبية، إشتباكات خلفت نحو 64 قتيلا وأكثر من 100 جريح.وإنتهت ببسط الكتائب الموالية لحكومة الوفاق كامل سيطرتها على العاصمة طرابلس ما أدى إلى إنسحاب أغلب الميليشيات الموالية لحكومة الإنقاذ.وفي يونيو من نفس العام، تحدثت تقارير إعلامية، عن قيام ميليشيات تابعة لأمير الجماعة الليبية المقاتلة عبد الحكيم بلحاج، وذراعه الأيمن خالد الشريف، بالحشد في مناطق تقع على أطراف قابله استنفار لكتائب تابعة لحكومة الوفاق على عدة جبهات.
وفي 07 يوليو 2017، أصدر المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الليبية بيانا حذر فيه من وصفهم بـ"الخارجين عن القانون" من التحرك تجاه طرابلس، مؤكدا أن أي تحرك سيواجه بحسم وقوة دون تهاون.وقال "وضعنا المجتمع الدولي أمام مسؤولياته وتم الاتصال بالدول الصديقة بخصوص التحركات المشبوهة لضمان أمن العاصمة والمدنيين في حال أي تهور من قبل المجموعات المارقة".وأضاف "دعونا الجميع للالتزام بتعهداتهم بالمساعدة على مواجهة وملاحقة من يستخدمون العنف ويهددون المدنيين كما تنص قرارات مجلس الأمن".
وجاء هذا البيان، بعد ورود أنباء عن تحركات عسكرية لمواكب وأرتال مسلحة موالية لحكومة "الإنقاذ" التي يقودها خليفة الغويل، تجاه العاصمة طرابلس.وكانت كتيبة المرسى التابعة لحكومة الإنقاذ الوطني وكتائب أخرى تابعة للمجلس العسكري مصراتة قد أعلنت قبل ذلك، تحرك أكثر من 300 عربة مسلحة نحو العاصمة بدعوى تأمينها.
ورغم هزائمها، فإن الميليشيات المسلحة والتي أُخرجت من طرابلس، ظلت تتحيّن فرصة الرجوع إليها، وحاولت عدة مرات، ونتج عن هذه المحاولات سقوط العشرات من الضحايا والخسائر في البنى والمباني الخاصة والعامة.وفي المقابل عملت الميليشيات المسيطرة على ترسيخ وجودها وسط اتهامات بإستغلالها لحكومة الوفاق لشرعنة نشاطاتها المخالفة للقانون وإستنزافها لثروات البلاد.
ويرى مراقبون، أن القوى المتمركزة داخل العاصمة طرابلس والمناطق القريبة منها تسعى لتثبيت مواقعها في ظل تصاعد الخلافات بينها في محاولات التوسع، لفرض السيطرة على المناطق التي يمكن أن تشكل مصادر للدخل في ظل تصاعد أزمة السيولة النقدية التي تعاني منها ليبيا منذ أشهر، والتي حولت العديد من المجموعات المسلحة داخل المدينة إلى مجموعات متهمة بخطف أبناء العائلات الميسورة ومطالبتها بدفع الفدية وبأرقام خيالية وصار الخطف عنواناً يومياً في حياة المدينة.
وتتزامن التطورات العسكرية الميدانية في العاصمة مع واقع سياسي مضطرب تعيشه ليبيا استعدادا لانتخابات مزمع اجراؤها نهاية العام الجاري في ظل تحديات كبرى تواجهها القوى السياسية المحلية والاقليمية والدولية على حد سواء لإنجاح هذا الاستحقاق الذي طال انتظاره لطي صفحة الخلافات والبدء في صفحة جديدة لاعادة اعمار ليبيا بعد سنوات من الحرب.
لكن عودة الخلافات والانقسام وخاصة المواجهات الاخيرة ، كانت بمثابة الخطوة الى الوراء في مسار مساعي تجاوز ارهاصات الازمة الليبية والالتزام بتطبيق بنود اتفاق باريس الذي تمخض عنه مقترح اجراء الاستحقاق الانتخابي المقبل.ويخشى الكثيرون أن يدفع الصراع المتنامي في طرابلس، نحو حرب أهلية ستكون نتائجها كارثية خاصة في ظل مع تواصل إنتشار التنظيمات الإرهابية وإستغلالها للفوضى.