من أبرز القضايا التنموية الحيوية، التي لازالت تواجه تحدياً كبيراً، في مجتمعنا بخاصة، والمغرب  بعامة، تبرز ظاهرة التسول، كأحد القضايا الهامة، التي تشغل حيزاً كبيراً وهاماً من قضايانا التنموية والحضارية، فالتسول ظاهرة قديمة في وجودها وجديدة في شكلها وحيثياتها، ولا يخفى على أحد أن هذه الظاهرة قد تفاقمت و اتسعت أبعادها في الآونة الأخيرة لتغزو شوارعنا بأجساد رثة أو ذات إعاقة جسدية متنوعة، لا تكل و لا تمل الاستجداء إما من باب الحاجة الفعلية لتلبية احتياجات أساسية، أو كمهنة تمارس لتدر دخلاً لعاطلين عن العمل أو لمن استرخوا للكسل و الاعتماد على الغير، لدرجة بات هؤلاء مشهداً مألوفاً في لوحة مشوهة لشوارعنا... و يبدو أن الأرصفة على اتساعها قد ضاقت بممارسي مهنة التسول، ليغزو هذا الاستعراض البائس حافلات النقل الداخلي ومحطات المسافرين بين المدن المغربية، حيث يتوالى هؤلاء صعوداً ونزولاً في المحطات في محاولة لابتزاز عاطفي بشتى الطرق و الأساليب.

وفي هذا السياق، فقد وجهت فرق برلمانية بمجلس النواب، انتقادات للحكومة على خلفية تفشي ظاهرة التسول، حيث أصبحت منتشرة ومتفشية بشكل مقلق في المغرب، حيث الشوارع والأسواق والطرقات باتت تعج بالمتسولين، ومن بينهم أطفال يتم استغلالهم في هذه الظاهرة، بما في ذلك الرضع وذوي الاحتياجات الخاصة، كوسيلة لاستجداء الشفقة وجني الأموال، والنقطة الأخطر في هذه الظاهرة، تكمن في وجود شبكات لاستئجار الأطفال، عن طريق والديهم، أو بواسطة الغير، لاستعمالهم في التسول وكذا الدعارة.

وعلى الرغم من أن الحكومة ممثلة بوزارة التضامن والتنمية الاجتماعية والمساواة والأسرة، تقوم بجهود حثيثة لمكافحة ظاهرة التسول، إلاّ أنّ الملف العام المطروح لمعالجة هذه القضية الظاهرة، مازال عائم وعالق، دون حل حاسم بين المؤسسات الخيرية، المنتشرة في أرجاء البلاد، وبين المؤسسة ذات العلاقة في قطاع الدولة، وأهمها وزارة التنمية الاجتماعية والأسرة والتضامن. فلا المؤسسات الخيرية ولا قطاع الدولة استطاعتا حل أو حسم معالجة القضية من جذورها وإنهاء مشاكلها بصورة جذرية وقطعية وحاسمة رغم كل المساعي والأعمال والمجهودات المبذولة حتى الآن. وقد بقيت مسؤولية هذه القضية قائمة ومعلقة دون حل، رغم مضي عشرات السنين، على بروزها وشيوعها، كظاهرة اجتماعية سلبية، يعاني منها المجتمع، ومشوهة لكل المجهودات الخيرية المبذولة في هذا الشأن، بل يمكن القول دون مبالغة، أنّ هناك تفاقماً في زيادة ومضاعفة حدة حالاتها ومشاكلها، وانتشارها بصورة واضحة وملحوظة، على مستوى ومختلف مناطق المغرب.

وبذلك مازالت الجهود المبذولة في مجال المساعدات والإعانات المقدمة للفقراء والمحتاجين، مازالت حتى الآن تراوح مكانها، وهي حلول مازالت قاصرة، رغم محاولة التغلب على أسبابها ومعوقاتها، ورغم كونها جهود مشكورة، ولكنها مازالت تعتبر حلولاً جزئية، لا تفي بالغرض لتحقيق أهدافها، بخاصة في ظل تزايد أعداد السكان، وتوسع الرقعة الإسكانية، وزيادة العاطلين، فضلاً عما تشهده الأوضاع الاقتصادية، المحلية والإقليمية والعالمية، من انتكاسات وتأثيرات حادة، انعكست بدورها سلبا على الأوضاع المعيشية والسكنية والوظيفية، وفى مختلف القطاعات والخدمات ووسائل الحياة بشكل عام، وهو مما ساعد على زيادة النسبة العالية، لمن يعيشون تحت خط الفقر، في مجتمعنا بصورة مخيفة ومريعة، رغم كل ما يبذل من تلك المجهودات، الهادفة   لتجاوز هذه الظروف العصيبة.

ولعل وجود وانتشار الجمعيات والمؤسسات الخيرية، في بلادنا يعد عاملاً هاماً من العوامل الإيجابية المساعدة، والتي ينظر إليها بأمل وتفاؤل، في قدرتها على تقديم بعض الحلول الجزئية الأخرى، والإسهام الفاعل في التخفيف من آثار وحدّة هذه القضية، وذلك عبر ما تقدمه من معونات ومساعدات، ومن أصحاب وذوي الاحتياجات المتعددة، من اليتامى والأرامل والمطلقات، اللاتي لا يوجد لديهن عائل، وغير ذلك من الحالات المستحقة الأخرى، غير أن جميع هذه المجهودات، التي تقدمها هذه الجمعيات فيما يبدو، ورغم ما تبذله أيضاً، من هذه المساعي الخيرة والمشكورة، أصبحت ونتيجة لهذه الأزمات الاقتصادية المتفاقمة، غير كافية لتغطية حاجة الفئات المستفيدة من خدماتها، فضلا عن الفئات المتزايدة، والمستحقة الأخرى لمثل هذه المساعدات، الأمر الذي أدى ويؤدي دائماً إلى زيادة ومضاعفة أعداد وحالات التسول والتشرد، التي نشهدها، عبر تلك الصور والمشاهد اليومية المؤلمة والبائسة، للنساء والأطفال والأفراد، الذين نراهم وهم يجوبون  الشوارع والأسواق، وقرب المساجد والإشارات المرورية، والتي أصبحت مؤخراً، فيما يبدو مادة دسمة لوسائل الإعلام.  

كما أن القضية لم تقتصر على مظاهر هذه الصور السلبية فحسب، بل نتج عن خلفياتها الأخرى، ونتيجة أيضاً لتزايد أعداد العاطلين من الشباب دون دراسة أو عمل، بعض الظواهر الخطيرة، التي أصبحت تندر بتهديد سلامة المجتمع، بارتكاب أفضع الجرائم والجنايات الخطيرة، والتي منها ظاهرة احتراف الأعمال الإجرامية، كالسرقات والتعديات، على المساكن والمحلات التجارية والسيارات والممتلكات العامة والأبناك ، ونهب وسرقة الحقائب والجوالات، من النساء في الشوارع نهاراً جهاراً، وتحت تهديد السلاح، والتي كثيراً ما تبرر مسوغاتها إلى عدم حصولهم على أعمال أوظائف يقتاتون منها ! من هذه المنطلقات أرى، بوجوب وضرورة النظر بعين الرعاية والاعتبار، لأولوية إيجاد الحلول الحاسمة والقاطعة، لهذه القضية من قبل الجهات المعنية بالدولة، للخروج من هذا المأزق المتأزم...

وأخيراً أرى، بأن المواطن الميسور، وخصوصاً رجال المال والأعمال، من المواطنين الكرام، معنيون بهذا الأمر أكثر من غيرهم، لدعم الجمعيات الخيرية، وأنشطتها المختلفة، التي تنفذها لصالح المستفيدين من خدماتها، وخصوصاً في مسألة مضاعفة جهودهم ومساعداتهم، لمجال وخدمات الأعمال التطوعية، والمتمثلة في تقديم الدعم المادي والعيني، بجانب التأكيد على ضرورة إسهامهم، في إنشاء الدور والمباني السكنية، والصحية والتعليمية لتلك المؤسسات، والتي مازالت أكثرها تعاني من قلة هذه الإسهامات والواردات، لكي تتمكن تلك المؤسسات، من تحسين معوناتها وخدماتها، وتقديم أفضل الخدمات، ليس للمستفيدين منها فقط، ولكن لجميع فئات المجتمع الذي تتواجد به هذه المؤسسات.

تصوير: مصطفى قطبي