سلط الدكتور عبد الله مليطان، الضوء على أحد الذكريات التي جمعته مع الأديب الراحل علي مصطفى المصراتي.

وتوفي أمس الأربعاء، الأديب الكبير علي المصراتي، عن عمر يناهز 95 عاماً، وهو حالة ليبية وعربية استثنائية في تجربته وعطائه، وفي جمعه بين النضال السياسي والإنتاج الفكري والأدبي.

وقال مليطان في تدوينة نشرها عبر حسابه بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، "ذات مرة، وأنا أشاهد الإذاعة المرئية الليبية، شاهدت المصراتي، وهو يتحدث في سهرة مع أستاذي الجليل الدكتور علي فهمي خشيم، أبهرني حديثه، وشدني أسلوبه، لدرجة أنني ظللت لسنوات أقلده، حتى في حركاته، وهو يتحدث، ومن يومها وأنا أمني نفسي بأن التقيه، وأتعرف عليه. كان اللقاء الشخصي الأول أمام المصرف التجاري بمصراته، حيث يقف المصراتي متأملاً المبنى المقابل للمصرف، وهو الفندق القديم، وتحديداً، إلى الشرفة، التي كان يطل من خلالها على آلاف المواطنين، الذين يحتشدون أمام المبنى، هاتفين بالوطن، ومطالبين بإجلاء القواعد الاستعمارية. اندفعت نحوه مسرعاً، أهلا يا أستاذ علي. رحب بنا مبتسماً، وخاطبني، أهلاً يا أستاذ. لم أكن أتصور أن يقابلني المصراتي، بهذه الحفاوة والابتسامة، ويقول لي مع ذلك يا أستاذ، وكنت حينذاك في السنة النهائية من المرحلة الإعدادية. أستاذ كبير بمستوى المصراتي، يقف معي، ويتحدث إلي، وكأنني نده، وأنا الصغير في حضرته الآن وحينها، التلميذ في مدرسته على الدوام!! نظر إلي، وأشار إلى الفندق، وقال ليتكم تحافظون على هذا المبنى، كجزء من تاريخكم. ودعاني إلى تناول فنجان قهوة في الفندق، وهل لي أن أرفض دعوة المصراتي، الذي كان من أحلامي فقط، أن أراه شخصياً".

وتابع مليطان، "دخلت بصحبته إلى الفندق، وهي المرة الأولى، التي أدخل فيها الفندق في حياتي، وما أن دخلنا الفندق، حتى سمعت صوت أحد الجالسين في ردهته، أستاذ علي، نظرت باتجاه الصوت، فإذ به شيخ طويل القامة، نحيف الجسم، يرتدي طربوشاً، ويضع نظارة على عينيه. قدمني المصراتي إلى هذا العجوز، وقال لي، هذا الأستاذ أحمد زارم، وكأنني أعرفه ـ ولم أكن أسمع بهذا الاسم من قبل _أحمد زارم! من يكون؟ وجلست بجانب المصراتي مرتعشاً، مبهوراً، وسعيداً لدرجة لا توصف، لقد تحقق الحلم، فها أنا أجلس بجانب المصراتي، ولم أكن مكترثاً بالعجوز الجالس معنا، لأنني لا أعرفه، لم أكن أعرف أن هذا العجوز هو رمز، من رموز هذا الوطن، وفارس من فرسان نضاله، الذي عرفت قيمته، فيما بعد، وتوطدت صلتي به، لدرجة أنني كلما زرت طرابلس، ومررت للسلام عليه بصندوق الجهاد، أصر على أن يوصلني بسيارته المتواضعة، إلى محطة "تكسيات" مصراته بشارع الرشيد، رغم كبر سنه، وصعوبة قيادته للسيارة، وسط زحام المدينة. لم يستمر اللقاء طويلاً بالفندق، فقد انطلقنا سوياً مع المناضل أحمد زارم، وبقية الجالسين، إلى منطقة الزروق، حيث المهرجان الذي يقام إحياء للذكرى الخمسمائة، لرحيل الصوفي العالم أحمد زروق. وقد تواصل اللقاء مع الأستاذ المصراتي طيلة أيام المهرجان، وحتى عودته إلى طرابلس، مع نهاية أعمال ذاك المهرجان".

وأضاف، "وأكملت الدراسة الثانوية، وقدمت إلى طرابلس للدراسة الجامعية. وتكررت لقاءاتي بالمصراتي، من خلال الملتقيات والمهرجانات الأدبية، وأحياناً بالصدفة، في شوارع طرابلس، التي يقطعها سيراً على الأقدام، أو في بعض المقاهي التي يجلس إليها أحياناً، يلتقط من خلال مرتاديها، نماذج وشخوص أعماله القصصية. ومع إقامتي الدائمة بطرابلس، وعملي بالإذاعة، تكررت اللقاءات بالمصراتي، وتوطدت صلتي به، وصرت من جلسائه، ومن زواره الدائمين لبيته البسيط المتواضع بشارع الصريم، أتعلم منه، وأتحدث معه، عن هموم الثقافة، وقضايا الفكر، وبكل حميمية. كما سعدت بالسفر بمعيته، إلى "أبوظبي" لحضور دورة الشاعر العدواني، بدعوة كريمة، من مؤسسة عبدالعزيز سعود البابطين، للإبداع الشعري، وتعرفت من خلاله هناك، على الشاعر الرحل عبدالوهاب البياتي، والشاعر سعدي يوسف، والعالم التونسي الفاضل، أبوالقاسم كرو، وسعدت بصحبته إلى القاهرة، لحضور الدورة 28 لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، والتقيت بمعيته وبالصدفة بشاعر العراق الكبير بلند الحيدري، وبالروائي المصري إبراهيم عبدالمجيد، والشاعر رفعت سلام، والناقد عبدالرحمن أبوعوف، والناقد صلاح فضل، كما زرت برفقته الدكتور مصطفى محمود، في بيته بالمهندسين، والدكتورة نعمات أحمد فؤاد في منزلها أيضا. وأعترف… أعترف مع كل هذه الصلة الوثيقة، التي ربطتني بالمصراتي، بقلبه الكبير، الذي احتواني، وتقديره البالغ لي، أنني أحس في كل مرة ألاقيه، بذات الرهبة، ونفس الشعور، الذي تملكني ساعة اللقاء الأول به، فصورة العملاق، كلما اقتربت منها أكثر، وعرفت قدرها، وأدركت كينونتها، ارتسمت في نفسك أكبر، وازداد إحساسك بعظمتها. وأمام عملاق، كالمصراتي، بهذه الصورة، لا بد أن تشعر دائما بالرهبة. رحم الله استاذي الجليل علي مصطفى المصراتي".