تعيش ليبيا منذ أكثر من ثلاث سنوات على إيقاع الفوضى و الإنفلات الأمني الذي أعقب إنتصار "ثورة 17 فبراير" و سقوط نظام العقيد معمّر القدّافي في خريف العام 2011 ،هذه الحالة من الفوضى و عدم الإستقرار و التي يراها البعض طبيعيّة في أعقاب "ثورة" مسلّحة دامية راح ضحيتها العشرات من الآلاف بين قتيل و جريح  ،يرى البعض الآخر أنّها طالت أكثر من اللازم و أنّ الوظيفة "المِعوليّة الهدّامة" للثّورة يجب أن تتوقّف لتأخذ هذه الأخيرة وظيفتها في البناء و إعادة الإعمار و دمقرطة البلاد و إصلاح المؤسسات و إعادة تنشيط الإقتصاد .

و بين هذا الكلام النّظري و ذاك ،تبقى الحقيقة الماثلة بمأساويّة سوداء على أرض الواقع هي الحالة الغير مسبوقة التي تغرق فيها البلاد من الفوضى و الإنقسام و الإنفلات الأمني و غياب تام للدّولة و ضعف لأجهزة الأمن و الشّرطة و إنتشار غير مسبوق للتطرف و الجريمة و الفساد .

هذه الفوضى التي شملت  كل مناحي الحياة السياسية و الإجتماعية و الإقتصاديّة  في البلاد أثّرت في جميع القطاعات و المؤسّسات فالموانئ النّفطيّة أصبحت تحت سيطرة ميليشيات خارجة عن سيطرة الحكومة المركزيّة الضّعيفة بطبعها ،و الجيش الليبي يقود معركة ضدّ التّطرّف و الإرهاب بمبادرة لم يرضى عنها المؤتمر الوطني السّلطة العليا في البلاد و المنتهية ولايته أصلا و الذي صار في نظر الكثيرين غرفة سياسيّة و أمنيّة لخدمة مصالح الإسلاميين في البلاد دون غيرهم .

 

المستشفيات و الطواقم الطبيّة ضحايا مشهد العنف و الفوضى :

 

لم تترك الفوضى في ليبيا –و الحالة هذه- مشهدًا إلاّ و شوّهته ،فحتّى المستشفيات و المراكز الطبيّة التي يصير حولها عادة ما يشبه التعاقد الأخلاقي –حتّى في حالات الحرب- بأن تبقى بعيدة عن كلّ صراعات و معارك و تجاذبات سياسيّة ،لم تبقى بمنأى عن مشهد الإنفلات الأمني و السياسي في البلاد من خلال عمليات الإقتحام  و من خلال إستهداف الأطباء و تهديدهم و إغتيالهم ،حتى صارت المستشفيات و المراكز الطبية تعمل في ظروف صعبة جدّا ما إنعكس بدوره على جودة الخدمات و على صحّة المرضى و نفسيّة الطواقم الطبيّة  العاملين فيها.

ففي وقت سابق قالت اللجنة الدولية للصليب الاحمر انها سحبت عمّال الاغاثة من بنغازي ثاني أكبر المدن الليبية وان الكثير من أجهزة الاغاثة الدولية غير قادرة على دخول ليبيا على الاطلاق على حدّ قولها .

 

و في مقال على موقع "ليبيا المستقبل" بعنوان "الأطباء الليبيين في دائرة المعاناة" يقول الكاتب :" يعيش الأطباء الليبيين داخل الوطن في دائرة مستمرة ومتواصلة من المعاناة بين الواجب المهني والإنساني والأخلاقي وبين التهديدات المتكررة على حياتهم وأحيانا حياة اسرهم وعلى أماكن عملهم في المستشفيات والمراكز الطبية العامة، و لا يخفى على الرأي العام أنه بعد عام 2011 الذي تميز بالأمن والاستقرار بعكس عام 2012 حيث برزت العديد من السلوكيات الشاذة والخطيرة في ظروف الفوضى العارمة وهشاشة السلطات الرسمية، بسبب غياب الحماية من قبل السلطات الأمنية المناسبة وغياب الردع القوي وعدم وجود الإجراءات القانونية التي تحمي هؤلاء الاطباء والعاملين في المجال الطبي، ومن أبرز هذه السلوكيات عمليات الاقتحام المسلح من قبل بعض الاشخاص أو المجموعات من اقارب وذوي الجرحى والمرضى أو معارفهم أو اصدقائهم وقتل بعض الاشخاص داخل المستشفيات وغرف العناية الفائقة لأسباب شخصية أو ثأرية أوتصفية حسابات، وكذلك تحطيم بعض الاقسام أو إشعال الحرائق فيها ونهب المعدات والأدوات الطبية وإطلاق النار العشوائي في الردهات والممرات."

و في الرابع من شهر يوليو الجاري تم إقتحام مستشفى الجلاء من قبل غرفة العمليات الأمنية المشتركة في بنغازي تسيطر عليه "أنصار الشريعة" منذ 29 من يونيو الماضي علماً بأن مستشفى الجلاء للجراحة و الحوادث هو المستشفى الوحيد الذي يقوم بتقديم الخدمات الطبية في تخصص جراحات الحوادث وهو مستشفى عام قد شهد أحداثاً مروعةً منذ ثورة 17 شباط / فبراير،بسبب الاعتداءات المسلحة المستمرة على الطاقم الطبي ، والانفلات الأمني الذي تشهده المدينة. وقد قامت العناصر الطبية بالمستشفى بأكثر من اعتصام اعتراضاً منهم ورفضاً لما يتعرضون له من ضرب وصل إلى إطلاق النار و الطعن بآلات حادة و قيام عدد من الخارجين على القانون بالاعتداء على عناصر التمريض النسائي و تناول المواد المخدرة في غرف المرضى و اقتحام غرف العناية والعمليات أكثر من مرة.

 

و تشهد العديد من المشتسفيات حالات إقتحام من قبل ميليشيات مسلّحة من أجل عمليات ثأريّة كما حدث مثلا في يوليو من العام الماضي حيث إقتحت كتيبة مسلّحة مستشفي الامراض النفسية ببنغازي و قامت بقتل احد النزلاء بالمستشفى  وذلك بطلق النار عليه بعد العبث بمحتوبات المستشفى ما إنجرّ عنه فرار 16 مريضا .

و في مارس الماضي تم إغلاق اسعاف مستشفى الزاوية التعليمى إثر اعتداء بالضرب على أطباء الإسعاف و تهديدهم بالسلاح وأحداث تلتها استقالة مدير عام المستشفى احتجاجا على الحدث. 

و في 12 من نفس الشهر في مدينة صرمان تم إغتيال الدكتور أيوب قويدر الطبيب بقسم الجراحة العامة بمركز طرابلس الطبى امام منزله حيث اصيب بعيار نارى نقل على إثره الى المستشفى ووافته المنية بعدها بعدة ساعات.

و نتيجة لتعدد مثل هذه الأحداث التي تشتهدف المراكز الطبية و العاملين فيها يقول كاتب مقال "الأطباء الليبيين في دائرة المعاناة"  بأنّه "قد حرمت هذه الاعتداءات الكثير وربما العشرات من الحالات الحرجة من تلقي العلاج السريع والمناسب بعد اغلاق بعض الاقسام وصالات الاستقبال والطوارئ أو حتى اغلاق المستشفى بالكامل كما حدث لمستشفى الجلاء اكثر من مرة، ورفض الأطباء استقبال أي حالة أو حالات خوفا من تكرار اعمال الاعتداء مكتفين بتحويل الحالات إلى المستشفيات الأخرى".

و إضافة إلى هذه المشاكل الأمنية الخطيرة و تأثيراتها على جودة الخدمات و نفسيّة الطواقم الطبيّة و ظروف العمل و صحة المرضى ،توجد مشكلة المعدّات و الأدوية و هي مشكلة تتجلّى في العديد من المستشفيات الليبية حيث لا يخفى على أحد نقص المعدّات الطبيّة و الأدوية مما إنعكس سلبا على الخدمات و جودة العلاج .

كما ساهم الإنفلات الأمني و الفوضى في خروج الكثير من الأطباء الأجانب من البلاد و ترك أماكنهم شاغرة خاصة من مصر و السّودان و تونس و هي بلدان تعتمد عليها ليبيا في سد شغرات الوظائف الطبيّة بصفة كبيرة .