تبقى الكهرباء مصدر من مصادر الطاقة وأداة من أدوات التنمية بل ومقياس ومعيار تقدم الأمم، وفي ليبيا عرفت الكهرباء وتطورت في آخر خمسة عقود، شهدت فيها مراحل تطور وتوسع كبير نظرا للمساحة المترامية الأطراف، وشهدت أيضاً مراحل تخبط وتذبذب، بل وانهيار لعل هذه الفترة أكثرها تدهور بعد دخول عدد من المناطق في حالات إظلام تام. في هذا الحوار المطول نستضيف المهندس عمران أبوكراعن أمين اللجنة الشعبية العامة للكهرباء "وزير الكهرباء" السابق، ومدير عام الشركة العامة للكهرباء، والذي بقي المسؤول الأول في قطاع الكهرباء لما يقرب من خمس وعشرين سنة.
س: متى دخلت الكهرباء إلى ليبيا بشكل فعلي؟ وما مراحل التطور التي مرت بها؟
-لم تكن الكهرباء في ليبيا قبل عام 1969 إلا عدد محدود من المحطات في مدينتي طرابلس وبنغازي، وبعض المدن الأخرى ولم تتعدى في مجملها 150 ميغا وات، وتنتج من محطات صغير وبعض مولدات الديزل، ولم تكن مربوطة بشبكة وطنية.
*الكهرباء وعاء التنمية
وبالنظر للظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة، والتي كانت سبب في قيام ثورة الفاتح، وضعت قيادة الثورة مخطط كامل تمثل في ثلاث خطط رئيسية، وهي الثلاثية والخماسية الأولى والثانية، والتي تواصلت من سنة 1970إلى عام 1983، ولم تكن هذه الخطط خاصة بالكهرباء بل شملت محتلف مناحي الحياة، ولكن الكهرباء كانت لابد أن تسبق غيرها من القطاعات لتلبية الطلب على الطاقة لأنها وعاء التنمية.
وشهد قطاع الكهرباء في ليبيا قفزات بوتيرة متصاعدة، حيث وصلت الطاقة الإنتاجية إلى 300 ميغا وات في أول خطة ثلاثية، وتضاعفت بعد ذلك، وكانت النقلة المهمة هي إنشاء أول شبكة للجهد الفائق 220 ك فولت بدأ من عام 1976 والتي ربطت بين المحطات التي أنشئت على طول الساحل وكانت في البداية مجموعة شبكات منفصلة، وفي عام 1983 كانت نقطة فاصلة أخرى ولكنها تأثرت بأزمة أسعار النفط، والتي ألقت بظلالها على اقتصادات كل الدول المنتجة للنفط.
س/ كيف تعاطت الدولة مع المستجدات التي ترتبت على انهيار أسعار النفط؟
*الإرادة السياسية القوية تتحدى الاستحقاقات
-في ليبيا لوجود إرادة سياسية قوية في حينها استطاعت الدولة استكمال المشروعات على الرغم من الصعوبات والمخاطر، والظروف الدولية، فكانت معظم الدول تعاني ضيق اقتصادي، وضغط اجتماعي، وترتبت عليه مشاكل عدة. بل أنه في منتصف الثمانينات تم الاتجاه إلى تأسيس شركة عامة متخصصة في الكهرباء وهو ما تم بالعفل في أواخر عام 1984 وباشرت أعمالها منذ بداية عام 1985، وكانت البداية صعبة ولكن بتحدي الظروف وتكاتف الجهود تمكننا من إنطلاق الشركة وأضبحت شركة وطنية بامتياز.
وبفضل استقلال الشركة تحققت العديد من الأهداف من بينها زيادة الطاقة الإنتاجية والعمل على توحيد الشبكة الوطنية بربط الشبكات المحلية التي كانت تربط المناطق المتقاربة، وصاحب هذه النقلة عملية تنمية شاملة بتطوير وتدريب الأطقم الفنية المحلية والاتجاه إلى تلييب القطاع بالكامل وهو ما تحقق في بداية التسعينيات.
س/ بعد خروج البلاد من الحصار وانفراج مصادر التمويل ماذا ترتب على ذلك في قطاع الكهرباء؟
-ترتب على ذلك تحسن الملاءة المالية للشركة، ولذا كان لازاماٍ وضع خطط جديدة، وبالفعل وضعت خطة طويلة الأجل من 2000-2025، وبدأنا في تنفيذها كمرحلة أولى من 2000-2007، ولكنه تم تطويرها، عام 2005 بعد تحسن الوضع الاقتصادي، وبالتالي دخول مشروعات التنمية الواسعة في البلاد، فتمت إضافة مخطط لتوطين 5000 ميغا وات إضافية في الفترة من 2005- 2025 ، وفي الفترة حتى 2010 تم التعاقد على 7000 ميغا وات إضافية، وذلك بتنفيذ محطات غازية ضخمة، ممتدة في كل مناطق البلاد، ومنها ما بدأ الدخول في الخدمة فعلياً قبل أحداث سنة 2011.
ونتيجة لتنامي الأحمال وكبر مساحة البلد وانتشار مراكز الأحمال تم استحداث شبكة 400 ك فولت لتلبية الطلب، والإيفاء بالألتزامات المستحدثة، وكانت أول خطوة في مشروع النهر الصناعي في جبل الحساونة وربطه مع سبها، ثم تم التعاقد على ربط الساحل الشمالي بالكامل من شرق إلى غرب البلاد.
س/ في سنة 2011 مرت البلاد بأحداث استثنائية، ماذا عن الأضرار التي تعرض لها قطاع الكهرباء في تلك الفترة؟
أكد بوكراع، أن منظومة الكهرباء تتكون من سلسلة من المكونات، وتتأثر بشكل كبير بالجانب الأمني، وحتى خلال فترة الانضباط واستتباب الأمن في البلاد، كانت تحدث بعض الخروقات، ما دعانا لتأسيس الشرطة الكهربائية، أما بعد اندلاع الأحداث تغيرت المعطيات، في ظل حرب ودمار، بل وانتشار فتاوى دينية تجيز الاستيلاء على الممتلكات العامة بوصفها "غنائم حرب"، وهذا ما جعل قطاع الكهرباء اكثر القطاعات المتضررة، خلال حرب الناتو تعرضت الشبكات لأضرار ولكنها لاتقاس بما جرى في الحروب التي اندلعت بعد عام 2011 وهي التي تم فيها استهداف بعض المحطات عنوة.
إضافة إلى ذلك تعرضت منشآت وشبكات الكهرباء لعمليات السرقة والسطو من قبل المنحرفين، فمن بين ما تم سرقته على سبيل المثال إحدى محطات الجهد الفائق 400 ك فولت في خط سبها جبل الحساونة، تم العبث ب 260 برج وتم تحوليها إلى خردة، وبيعت بالوزن، وهي ما يعني القضاء على خط حيوي أعطي أولوية قصوى ونفذ كأول خط في شبكة 400، وتم العبث بالمحطة وتحطيم المحول الرئيسي بها، والذي يقدر ثمنه بحوالي 4 مليون يورو، وتم استخلاص ما به من معدن النحاس، وأنا استغرب بأي عقل يفكر هؤلاء، علاوة على الشبكات المحلية تعرضت في المجمل للتدمير والسرقة، وهذا بسبب غياب الدولة، وللأسف كثيرين لا يقدرون معنى الدولة إلا في غياب دورها.
ويبقى خطر سيطرة المؤدلجين على القطاع أكبر وأشد حيث يتم استهداف القطاع ومصادر تمويله لتوظيفها لتمويل نشاطات جماعاتهم، وعلاوة على تفريغ القطاع من الخبرات الوطنية لأسباب سياسية، أو اختلافات فكرية، وتم بالفعل طرد وإقصاء مجموعة من أفضل المهندسين وإبعادهم عن دورهم.
ومن خلال البوابة أود أن أوجه رسالة تتمثل في تجنيب وتحييد القطاعات السيادية التي تهم المواطن، من الصراعات السياسية، لأن هذه القطاعات ذات نفع عام للمواطن، مثل الكهرباء والنفط والنهر الصناعي، ومصرف ليبيا المركزي، وغيرها من القطاعات.
واليوم للأسف أصبحت الشركة تدار بإدارتين متواجدتين في نفس المقر، وتتنافسان على المهام وهو ما يتسبب في تضارب وتعثر تنفيذ الخطط، وأي حكومة يمكنها إدعاء المسؤولية في ظل هذا التخبط وبالتالي على كل المسؤولين الابتعاد عن هذه القطاعات وتركها في أيدي أصحاب الخبرة والاختصاص.
*لا حل لمشكلة الكهرباء في غياب الأمن
س/ في ظل هذه الظروف هل من الممكن الوصول إلى آفاق للحل؟
قال المهندس عمران أبوكراع، إن الدولة طيلة العقود الأربعة الماضية أولت الكهرباء اهتمام خاص، على الرغم من كثير من المعوقات ولكن القيادة أصرت على تنفيذ الخطط والصرف عليها وبكامل المسؤولية، واليوم إذا ما وجدت إرادة حقيقية للمعالجة والإصلاح فأن أولى الخطوات لذلك يجب أن تكون بتحييد القطاع وتجنيبه للمماحكات السياسية، وتكليف الكوادر الوطنية الكفؤة لتولي إدارته.
كثير من المتواجدين اليوم يرون في القطاع سبيل لتحقيق مآربهم، لأن به إمكانيات كبيرة ويحتاج إلى موارد مالية ضخمة، ولهذا يعتبرون هذه الموارد منفذ للاستيلاء على موارد تمويل نشاطاتهم.
وأنا أراهن على الكثير من الوطنيين وذي الخبرة في القطاع إذا ما ترك لهم المجال فأنهم قادرون على حل معظم المشاكل، وهنا أتحدث عن الشباب الذين نشطوا وتعلموا وتدربوا في دوائر الشركة، والرهان أيضا على المنشآت الجبارة االمتمثلة في محطات التوليد وشبكات النقل، لأنه يمكنها العودة بقوة من جديد إذا ما أوليت أهتمام وصدق من كوادر قادرة، فأنها من الممكن في غضون من سنة إلى سنة ونصف أن تعود إلى نشاطها من جديد.
وحتى يتحقق الحل عمليا لابد أولا من فرض الأمن وضبط الأمور، لأن قطاع الكهرباء يعتمد على منشآت ومنظومات منتشرة في مساحات واسعة حمايتها في غاية الصعوبة، لاسيما في ظل تفشي الفوضى، ولذلك فأن الحل يبدأ بفرض الأمن، ويبقى الحل مستحيلا في الأماكن غير المؤمنة، أما الأماكن التي تخضع لسيطرة القوات المسلحة مثل المنطقة الشرقية وجزء كبير من الجنوب فأنه من الممكن وضع حلول ناجحة لها، وكذلك الأمر في المناطق التي تتميز بالوئام الاجتماعي، أما مناطق الفوضى والمليشيات كما في معظم المناطق الغربية فأن الأمر ليس بالسهولة السيطرة عليه وبالتالي فأن الحل يتعذر.
وفي ختام حواره حذر بوكراع، من أن تصبح الكهرباء في ليبيا "أثر بعد عين"، فإذا ما استمرت هذه الظروف وهذا الفساد وسيطرة المؤدلجين فأنه قد يأتي يوم ولا نجد في ليبيا كهرباء، وهذا ما لا نتمناه، ومن هنا أتوجه بالدعوة لمن لاتزال لديهم روح وطنية أن يقفوا بصدق ويراجعوا مشاكل القطاع وتسخير الروح الوطنية وإعلاء المصلحة العامة عن المصالح الخاصة.