في شتاء العام 2015، قامت مجموعة مسلحة باختطاف ثلاثة أطفال من أمام مدرستهم في منطقة صرمان غرب طرابلس، في حادثة ما أصبح معروفا عند الليبيين بجريمة "أطفال الشرشاري". هي حادثة لا تقل قسوتها عن الحرب نفسها. فإذا كانت للحرب حسابات في الداخل والخارج أطراف كثيرة مسؤولة عنها وأدت إلى ما وصلت إليه البلاد من فوضى وتقاتل، فإن أطفال الشرشاري كشفوا بشكل مفضوح وحشية الإنسان وغياب كل القيم المعروفة حول استثناء الطفولة من كل صراع.

ما وقع في جريمة اختطاف أطفال الشرشاري قد لا نجد له مثيلا إلا فيما يرتكبه الاحتلال الاسرائيلي بحق أطفال فلسطين. تلك الجريمة التي اكتشفت خفاياها بعد سنتين، قدّمت صورة حول واقع الطفولة في ليبيا بعد الحرب في حياتها وتعليمها وصحتها وكل ما يجب أن يتوفرّ لها في الحدود الدنيا. هي الواجهة المفضوحة التي أصبح فيها الطفل الليبي، أداة لتصفية الحساب والابتزاز والتعبير عن اللاإنسانية.

ليس خاف على أحد أن وضع الطفل الليبي قبل 2011، كان من بين الأفضل على الأقل في المنطقة العربية. مهما كانت الانتقادات في تلك الفترة، لكن تعليم الطفل الليبي وصحته وأمنه، كانت مضمونة، كل التحولات التي حصلت والمخاض السياسي الذي خيض لأربعين عاما كانت الطفولة فيه محيدة. كأنه كان هناك ميثاق أخلاقي ضمني بأن الأطفال يجب أن تتوفر لهم ظروف الحياة الكريمة، وهو ما لم يعد موجودا بعد الحرب، بل بالعكس، أصبح الطفل الليبي هو الضحية الأولى في الصراع. وخلال السنوات التي أعقبت 2011، كانت الأطفال جزءا من كل حادثة تقع بشكل مباشر أو غير مباشر. فالمئات كانوا ضحايا بين قتلى وجرحى، في معارك لا مسؤولية لهم فيها ولا فهم لهم لها أصلا. منازل كثيرة قصفت بمن فيها من لحظة هجوم الناتو إلى اليوم، وذهب أطفال ضحيتها. اختطافات ومقايضة واغتصاب وابتزاز، كلها حوادث ارتبطت بالأطفال على كامل الخارطة الليبية خلال سنوات الحرب. وهي ظروف أجبرت عائلات كثيرة على الهروب خوفا على أبنائها مع كل ما يتسبب عليها ذلك من ألم نفسي وتكاليف مالية.

في تقرير للأمم المتحدة العام 2017، تمت الإشارة إلى أن "أكثر من 550.000 طفل في ليبيا يحتاجون للمساعدة بسبب عدم الاستقرار السياسي واستمرار النزاع والنزوح والتراجع الاقتصادي". كما أضاف أن "هناك أكثر من 80.000 طفل نازح، ويتعرض الأطفال االنازحون على وجه الخصوص للإيذاء والاستغلال، بما في ذلك في مراكز الاحتجاز". فالحرب التي تدور رحاها هجرت ألاف العائلات من مناطقها، وتسببت في تركيز مراكز لجوء لا تتوفر فيها شروط التعليم والصحة للأطفال، حيث ذكر التقرير السابق "أن حوالي 200.000 طفل في ليبيا يحتاجون إلى مياه صالحة للشّرب، بينما يحتاج 315.000 طفل إلى الدّعم في مجال التعليم". والأرقام المذكورة، بالقدر الذي يعبّر عن المأساة الليبيّة بالقدر الذي يحمّل كل الأطراف الليبية المسؤوليّة عمّا آلت إليه الأوضاع.

يكفي أن يعرف المتابع أن أكثر من 500 مدرسة أغلقت في ليبيا خلال سنوات الحرب، وأن يعرف أن ألاف الأطفال تجاوزوا السن القانونية للدخول إلى المدارس وفق التقارير الدولية نفسها، ليكتشف أن أسس الدولة بمفهومها العام، أصبحت مفقودة، فالتدخلات الخارجية في مرحلة أولى، وانتشار الإرهاب في مراحل لاحقة، وانفلات الحالة الأمنية ووصول الانقسام السياسي إلى طريق مسدود، كلها عوامل مساهمة في تدهور أوضاع الطفولة في البلاد. فالمشاركة من بعيد أو من قريب فيما وصلت إليه الحالة منذ لحظة فبراير وتقديمه للأوهام، من الطبيعي ألا يكون مهتما بأطفال بلاده.

الحالة الصحية في ليبيا بدورها لا تقل مأساة عن بقيّة القطاعات. فوفقًا لمنظمة الصحة العالمية، العديد من المركز الصحية تأثرت من الصراعات المسلحة، وهناك 43 مستشفى من بين 98 معطلة إما جزئيًا أو لا تعمل إطلاقًا بسبب عدم توفر الأدوية والإمدادات الطبية والكادر البشري". وعلى ضوء تلك العوامل يجد أطفال ليبيا المصابون خلال المعارك بلا مركز تأويهم أو توفر لهم إمكانيات العلاج، وهذا الأمر يسري حتى على الأطفال الذين يعانون صدمات نفسيّة بسبب الحرب، حيث تشير "الصحة العالميّة" إلى أنه في العام 2017، لا يوجد في البلاد أكثر من 12 طبيبا نفسيا ومتركزون بالأساس في طرابلس وبنغازي، رغم أن عدد الأطفال المصابين بأزمات نفسية هو بالألاف.

التقرير الأممي المنشور في 2017، ألحق بتقرير مماثل "لليونيسيف" العام 2018، يتحدّث عن "وجود 000 378 طفل في حاجة إلى المساعدة الإنسانية العاجلة والحماية خلال عام 2018". بما يعني أن تقدّم السنوات، ما هو إلا مزيدا من تعميق المشاكل دون أي أفق للإصلاح أو إحساس بالمسؤوليّة بالنسبة إلى الفرقاء.

عمالة الأطفال في البلاد أيضا جزء من المشكل. فالقانون في ليبيا يحضر تشغيل الأطفال منذ العام 1970، لكن الانهيار الاقتصادي وضعف التشغيلية، وغياب الدولة، فرضت على أطفال ليبيا العمل في أعمال هشة. المتجول في المدن الكبرى في البلاد منذ 2011، سيشاهد في مفترقات الطرق، والأسواق، أطفال ليبيون لا يتجاوزون 15 عاما وهو يبيعون المناديل الورقية، أو بعض السلع الاستهلاكية، أو يشتغلون حتى في بعض المحلات من أجل توفير ما يحتاجه أهلهم. الحالة هنا لا تخص الأطفال الليبيين لوحدهم، فربما يوجد أيضا أطفال أجانب عائلاتهم مستقرّة في ليبيا. لكن الكارثة الكبرى التي حصلت خلال سنوات الحرب، أن الأطفال أصبحوا جزءا من مليشيات السلاح، حيث تشير بعض الإحصائيات أن كثر من 10 آلاف طفل ترواح أعمارهم ما بين 12 و17 عاماً يحملون السلاح"، ويشتغلون تحت أمر مليشيات مسلحة توفّر لهم المال وتوهمهم بأنهم يقومون ببطولات في عملهم.

حرب طرابلس الأخيرة لم تكن بعيدة عن استغلال الأطفال. فطرفا النزاع يتبادلان الاتهامات باستغلال الأطفال وإرغامهم أو إغرائهم للمشاركة في المعارك. أطفال دون 17 عاما، يُزيّن لهم مشهد الحرب، فيجدون أنفسهم بحماس المراهقة، في الواجهة دروعا لمصالح متداخلة وضحايا لحرب لا يعرفون حتى أسبابها ولا أهدافها.

بقي الأطفال الليبيون خلال سنوات جزءا من الحرب. في الوقت الذي يتواجد فيه أطفال العالم في مدرسهم ونواديهم، كان أطفال ليبيا تحت رحمة مليشيات السلاح، مرة مهددون في حياتهم، مرّة مهددون في ذويهم، ولم حول ولهم ولا قوّة إلا تحمل الألم المادي والنفسي الذي قد يخلق جيلا مشوها عصبيّا ستعاني منه البلاد حتى في حال الاستفقرار.