الحديث عن إعادة الأعمار في ليبيا يعيدنا إلى سنوات من التدمير الذي عاشته مدن البلاد. وإذا كانت ذاكرة الشعوب قصيرة فالتاريخ يبقى يسجل اللحظات المؤلمة في تاريخ أي شعب. اليوم تمر أكثر من عشر سنوات على مشهد طائرات الناتو وهي تقصف المدن الليبية. كانت هناك وقتها لحظة غفلة من البعض ولحظة تواطؤ من آخرين، لكن الذي حصل في الأخير أن بلدا تم تخريب مدنه كما تم تخريب عقول البعض من أبنائهالشهادات الكثيرة التي أُدليَ بها بعدها تؤكد أن جريمة حصلت. المسألة لم تكن مجرد إسقاط نظام فحسب، الحقيقة هي أن بلدا كان مستهدفا ضمن مخطط كبير سطر للمنطقة بأكملها بسبب مواقف غير مرضي عنها من قبل قوى عالمية لا يهمها أبدا أن يحرم شعب من أمنه أو تدمر مدته. المهم أن يتحقق ما تم إعداده.

اليوم ليس من الوضح أن حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا، ستكون قادرة على الإيفاء بالتزاماتها التي تعهدت بتنفيذها. الكم الكبير من الملفات الموجودة على مكاتبها يفترض أن تكون موكولة لحكومة دائمة وليس لحكومة مؤقتة بالنظر إلى صعوبة المرحلة والمهام. فبالإضافة إلى الجانب السياسي الذي يبقى حاسما في نجاح الدبيبة في علاقة أساسا بالوصول بالبلاد إلى الانتخابات المزمع إجراؤها نهاية العام الجاري، هناك أيضا ملفات اقتصادية معقدة إلى درجة كبيرة سواء في علاقة بقطاع النفط الذي عاش ويعيش بعض الاضطرابات التي تبقى رهينة الاتفاقات السياسية، أو أيضا ملف الإعمار الذي يحتاج تعجيلا بتنفيذه أو على الأقل التخطيط له لتغيير مشهد الدمار الذي مازال شاهدا على سنوات الدمار والحرب.

الحكومة الليبية الموحدة وفي إطار مهامها المستعجلة، أعلنت عبر رئيسها عبد الحميد الدبيبه أنها أقرت إنشاء صناديق لإعادة إعمار المدن المتضررة من الحروب، مثل طرابلس وبنغازي وسرت ودرنة وذلك لمحو ما يذكر الشعب بالماضي الأليم، ومنها مظاهر الدمار والتخريب. وعلى الرغم من أن الدبيبة لم يقدّم أي تفاصيل عن اعتمادات إعادة الإعمار إلا أن محللين أشاروا إلى أنها ستكون في حدود 50 مليار دولار على مدى ثلاث سنوات، بالنظر إلى حجم التدمير الذي أصاب المدن الكبرى.

وفي سياقات إعادة الإعمار دخلت أطراف عديدة عربية وغير عربية من أجل المنافسة على قطاعات أخرى، حيث تستعد مجموعة من الشركات لتوقيع عقود في البناء والاتصالات والكهرباء والطرقات وكل قطاعات التعمير، باعتبار أن ليبيا اليوم هي سوق مفتوحة ومغرية. فدول الجوار مصر وتونس بدأتا العمل على الدخول بقوة في تلك القطاعات باعتبارهما من الدول التي لها استثمارات كبيرة في مشاريع البنية التحتية حتى قبل تحولات العام 2011، وهي تحاول اليوم العودة بعد غياب سنوات.

القاهرة دخلت بقوة على هذا الملف، ومع انتخاب الحكومة الموحدة، عادت لربط اتصالاتها مع الجهات الليبية لبحث عدد من الملفات وعلى رأسها إعادة الإعمار، بل إن الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء مصطفى مدبولي إلى طرابلس منتصف أبريل، كانت دليلا على الدور الاقتصادي الذي ستلعبه بلاده خاصة أنه كان مرفوقا بـ11 وزيرا جلهم يمسكون وزارات حيوية.

وفي تصريحات لصحيفة "الدستور" المصرية قال أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية ورئيس مركز القاهرة للدراسات الاقتصادية عبد المنعم السيد "إن مصر تتجه حاليا نحو المشاركة الفعالة في إعادة إعمار ليبيا والتي تحتاج إلى تكاليف مقدرة بـ100 مليار دولار كمرحلة أولى لخطة الإعمار للمدن والقرى الليبية من إجمالي 450 مليار دولار، لافتاً إلى أن ليبيا تحتاج إلى بناء 3 ملايين وحدة سكنية وإعادة رصف وتأهيل كثير من الطرق، بالإضافة إلي مشروعات ربط كهربائي وإنشاء مدن بأكملها تم قصفها بالكامل خلال السنوات الماضية".

وأضاف السيّد أن مصر وليبيا وقعتا خلال زيارة مصطفى مدبولي الأخيرة، "11 اتفاقاً للتعاون في مجالات البنية التحتية والصحة والكهرباء والعمالة المصرية والنقل والمواصلات والاتصالات ولا شك أن عودة اللجنة العليا المشتركة بين البلدين سيكون له أثر فعال لتعزيز التعاون كما أن عودة العمالة المصرية إلى ليبيا تعد خطوة مهمة جدا".

تونس  أيضا تتحرّك على أكثر من مستوى لكي تكون ضمن المساهمين في إعادة إعمار ليبيا، بل ربما تكون من أبرز المنتفعين في هذا الإطار حتى في مستوى اليد العاملة، وهي تجري اتصالات مستمرة مع المسؤولين الليبيين من أجل أن تحصل على عقود استثمارية ويبدو أن هناك تجاوب ليبي بالنظر إلى التجارب التونسية السابقة في مختلف القطاعات. وقد احتضنت مدينتا جرجيس القريبة من ليبيا وصفاقس وسط البلاد الشهرين الماضيين اجتماعات لمسؤولين من البلدين بينهم رجال أعمال ووزراء، من أجل التباحث حول الفرص التونسية في ليبيا في علاقة بإعادة الإعمار. 

التصريحات الرسمية الليبية حول الدور التونسي المرتقب صدرت عن وزير الزراعة والثروة الحيوانية والبحرية الليبي عبد الباسط محمد الغنيمي، الذي قال في تصريحات صحفية في مارس الماضي على هامش الاجتماع المذكور، إن تونس ستكون شريكا أساسيا في برنامج إعادة الإعمار في بلاده، لكن هناك انتقادات داخلية تونسية بالتقصير في لعب دور هام على المستوى الرسمي وغياب أي خطة دبلوماسية لضمان حصص استثمارية ليس في إعادة الإعمار فقط بل في مختلف القطاعات.

تركيا أيضا تنتظر بطمع كبير إلى ليبيا، بل ربما تعتقد أنها صاحبة الحظوة في إعادة الإعمار سواء في مشاريعها الموجودة في أكثر من مكان، أو من خلال خاصة الاتفاقية التي وقعتها مع حكومة الوفاق في نوفمبر 2019، والتي منحت بفضلها امتيازات كبيرة تجعلها الدولة الأكثر استثمارا في مجالات البناء وهذا جزء من الخلافات التي مازالت عالقة مع دول الجوار ومع الاتحاد الأوروبي.

وبالحديث عن الاتحاد الأوروبي تعود إلى الذاكرة الاتفاقيات التي وقعت في 2008 بين العقيد معمر القذافي ورئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني، وهي من أكبر الصفقات التي وقعتها ليبيا في تاريخها والتي من ضمنها تهيئة المدن الليبية والقطاعات الخدمية وتسعى إيطاليا اليوم بكل ما تملكه من نفوذ أن تواصل العمل بها باعتبار أن أحداث 2011، عطلت أغلبها وجعل أطرافا أخرى تدخل على خط المنافسة وأساسا فرنسا اللاعب الجديد على الساحة الليبية بـ"شرعية" مشاركته في إسقاط نظام القذافي وهي شرعية تحت القصف منحت عبرها أيضا أدوارا لم تكن تحلم بها، ولا نعتقد اليوم أنها ستكون خارج دائرة المنافسة في إعادة الإعمار.

كما أن روسيا ودول الخليج العربي والولايات تبحث عن فرص استثمارية في إعادة الإعمار بالنظر إلى الإمكانيات المتوفرة لها والتي تفتح لها الطريق في ظل الحاجة الأكيدة لكل إمكانيات التعاون في ليبيا. وتتسابق هذه القوى حتى عبر الضغط الدبلوماسي من أجل نيل حصة مغرية في بلد أمامه فترة طويلة لبناء مختلف قطاعاته.

ووسط هذا التنافس هناك حكومة ليبية مازالت تبحث عن استقرار دائم يمنحها فرصة لتهيئة الظروف لإنهاء الانقسام والتوجه نحو الانتخابات التي ستكون مرحلة فاصلة في المستقبل السياسي الليبي الذي عبره ستنجح كل الاستحقاقات التي تنتظرها البلاد ومن بينها إعادة الإعمار.