بدأتْ لي ازقة المخيم الضيقة المرصوفة بالإسمنت مزدحمة بالأطفال في ذلك الصباح شديد الحرارة والرطوبة، متلاصقين ببعضهم تعلوا أصواتهم بين الحين والآخر إما اعتراضا أو فرحا وهم يلعبون "البوبجي"، وازداد الجو اختناقا بسبب الدخان المتصاعد من " التنور أو قدور الرب"، أخبروني بأن الزم الحذر، وألا أخبر أحدا أنني صحافية.
اختفت النسوة من أمامي، وظل الأطفال بأمكنتهم لا يلقون بالا لي، بينما وقف الشباب ينتظرون إجابة حول من الزائرة، كانت الجولة في المخيم كفيلة بأن ترسخ في عقلي أن لو أصيبت حالة واحدة بكورونا فإن الجميع لن ينجو.
تقطن في هذه المساحة التي لم تتجاوز بضعة كيلو مترات، 240 عائلة، ولازال العدد في ازدياد بحسب المشرف، تراصفت الغرف بانتظام، ولكل غرفة تم بناء حمام صغير، خلفه ينمو نبات القصبة الذي يدل على أن مياه الصرف الصحي لا يوجد تصريف صحيح لها.
بجانب هذه الحمامات وضعت كمية من قناني" بانقات" المياه احتياطا من انقطاع المياه فجأة! بسبب التخريبات التي تطال أنابيب التوصيل التابعة للنهر الصناعي، بالاقتراب منها أتضح أن هذه المياه ملوثة، ولن تكون صالحة للشرب.
في أحد الغرف التي يحيط بها سياج كنوع من الترف رأيت امرأة تصنع الرب " رب تمر" أردتُ الحديث معها لكنها توارت خلف السياج، ومنعني مرافقي من الحديث معها فالتزمت.
ما بين شح المياه في فصل الصيف، وخروج مياه الصرف الصحي في فصل الشتاء يعيش النازحون حياتهم في زمن كورونا، يقول امعيقل محمد بلعيد مشرف مخيم المدينة الرياضية الواقع في نطاق مدينة بنغازي مفتتحا الحوار حول مشكلة المياه:
وصلنا ذات يوم بأن النساء أصبحن لا يأكلن من أجل ألا يدخلن الحمام، كن يشعرن بالإحراج والإهانة لأن مياه الصرف الصحي الخاصة بالمخيم قد خرجت إلى الشارع والطريق العام بسبب عطل في مضخة الصرف، مما اضطرني إلى استجداء جهاز تطوير المدن بمدينة بنغازي من أجل إعطائي المضخة التي تبلغ قيمتها 10 الاف دينارا فالإمكانيات لا تسمح لنا بشرائها، وبعد جهد جهيد وإخباري إياه عن نسائنا، اقتنع وأعطاني المضخة وقمت بتركيبها.
هنا تساءلت ما دور شركة المياه والصرف الصحي أجاب امعيقل قائلا: الشركة لاحول لها ولا قوة، ولكنها تقدم لنا المساعدة رغم قلة الإمكانيات، فالمنطقة مرصوفة رصف ويوجد تحتها سبخة، والآبار السوداء تغطي المخيم بالكامل، نبات القصبة المنتشر حولنا هو الدليل على ذلك، حتى مياه الشرب غير صالحة، فقد قمنا بتحليلها ووجدنا أن نسبة التلوث 85% ولم تستطع الدولة أن تقدم لنا شيئا بالخصوص.
ويوضح امعيقل عن أزمة المياه التي طالتهم زمن كورونا قائلا: كانت الحمامات جماعية 24 حماما، مخصصة لعدد 240 أسرة، ولم يكن استهلاك المياه كبير، ولكن الآن يوجد 240 حماما، هذا أثر سلبا على الصرف الصحي، وأن المياه يتم استهلاكها بسرعة، ويصبح الخزان فارغا، زد على ذلك الفترات الطويلة لانقطاع الكهرباء الذي يوقف عمل المضخة الرئيسة التي تقوم بتعبئة الخزان الكبير، فنصبح بلا ماء ونضطر للانتظار 9 ساعات كاملة من أجل عودة ضخ المياه من جديد.
رئيس قسم العقود بالشركة العامة للمياه والصرف الصحي المهندس محمد المشيطي يوضح دورهم في هذا الجانب قائلا: إن بناء الحمامات بمخيم المدينة الرياضية هو عمل عشوائي لم يتم التخطيط له ولم يتم استشارتنا، الوضع أصبح خطر عليهم لأن المخيم يقع على منطقة سبخية وهو جزء من البحيرة الصغرى التي يصب فيها الصرف الصحي، ومياه الأمطار، التي بدروها تصب في بحيرة 23 يوليو من الناي السطحي الذي يقع بالقرب من مطعم البطريق، بالإضافة إلى أن المياه الجوفية قريبة منهم، وهو غير مهيأ لسكن العائلات من ناحية الاستهلاك الكبير للمياه، فما بالك الآن حيث توجد به أكثر من 200 عائلة.
ويضيف المشيطي بأن: المخيم يقع خارج اختصاصهم، لأنه غير مربوط على شبكة الصرف الصحي التي تتولى الشركة تصليحها وتجديدها، ورغم قلة إمكانيات الشركة وانهم خارج صلاحيات عملهم تقوم الشركة بمساعدات إنسانية بين الحين والآخر لهم من حيث شفط مياه الصرف الصحي، أو توفير المياه في حالة انقطاعها.
ويؤكد بأنهم: خاطبوا جهات الاختصاص حول هذه المشاكل، ولكن لا ردود يتلقونها بالخصوص، وينفي انهم خاطبوا منظمات خيرية محلية ودولية حول المشكلة لأنه ليس من اختصاصهم.
فيما تقول: المادة 25 من القانون رقم 59 لسنة 2012 م بشأن اختصاص البلدية الذي يقضي بتنفيذ وإنشاء وإدارة المرافق المتعلقة بشؤون التخطيط العمراني، والمباني والشؤون الصحية، والمياه والإنارة، والاهتمام بالملاجئ.
يقول مدير المشروعات ببلدية بنغازي المهندس أسامة الكزة: لا علاقة لنا كبلدية، وكإدارة مشروعات بتنفيذ مخططات مياه للمخيم والاهتمام به، إنما من تخصص الشؤون الاجتماعية، ونحن نعتبر هذه المخيمات أمر مؤقت حتى وإن طالت السنوات، فهي لا تؤثر على المخطط العام للمدينة، لأنها كانت قائمة من قبل فهي عبارة عن" كامبوات" لشركات أجنبية تركتها أبان ثورة فبراير.
بشيء من السخرية بعد انقطاع المياه يقول امعيقل: "هنا كورونا رسمي "، لأنه لو ظهرت حالة كورونا واحدة سوف تنتشر، ونحن ليس لدينا تباعد اجتماعي، مثلا أنا عندي 11 روح في المخيم، لو قلنا تباعد اجتماعي سوف أضع كل ثلاثة في حجرة وانا عندي حجرتين فقط فأضع هنا خمسة وستة هناك، وبالتالي هذا لا يسمى تباعدا، إلى الآن لا يوجد لدينا حالات وقمنا بعملية الرش في بداية ظهور الوباء، وأنا شخصيا احضرت 12 آلة رش عن طريق الناس الخيرة، وقمنا بعمل تعقيم كامل للمخيمات، لكن هذا لا يكفي فهو مجهود فردي ويحتاج للاستمرارية.
في منتصف شهر ديسمبر وصل عدد الإصابات بليبيا إلى 93 ألف إصابة، كان عدد المصابين من المخيمات بحسب المكتب الإعلامي للجنة الاستشارية لمكافحة كورونا "صفرا".
في السور الخلفي للمخيم كان القصب مرتفعا للحد الذي يحجب الرؤية، أشار لي امعيقل أن انظر لأسفل فوجدت مياه سوداء تمتد لمساحات كبيرة، وأخبرني إنه في الشتاء ترتفع المياه وتخرج إلى الطريق العام مما يضطرني للوقوف خارجا، وانتظار الشاحنات التي تحمل مخلفات البناء وايقافها من أجل وضع هذه البقايا على السور حتى نمنع خروج المياه، الأمطار تجعل الحركة معدومة في المخيم لا يمكن الدخول إليه أو الخروج منه.
ماذا عن دور الصليب الأحمر ومفوضية شئون اللاجئين سألت امعيقل، فأجاب؟
الصليب الأحمر لم يدخل المخيم منذ عام 2018 ولم نرى منهم أي مساعدات تذكر، كذلك مفوضية شئون اللاجئين، وأضاف بشيء من الاستهزاء وأشار بيده إلى سيارات للهلال الأحمر الليبي واقفة بالقرب منه حتى هؤلاء الذين يعتبرون جيرانا لنا لم يقدموا لنا يد العون أبدا.
هنا خطر ببالي المعلومة التي حدثتني عنها محامية وناشطة في مجال حقوق الإنسان بأن المنظمات الدولية، قد رفعت الدعم عن مخيمات نازحي تاورغاء بحكم الاتفاق السياسي الذي حدث عام 2018 الذي يقضي بعودتهم لمدينتهم.
بناء على ما قاله امعيقل وما أسرت لي به المحامية توجهت إلى مقر الصليب الأحمر بمدينة بنغازي، التقيت بمسئول المكتب الإعلامي السيد فارس اعبيد الذي نفى هذه المعلومة، وأكد على أن الصليب الأحمر لا علاقة له بالجانب السياسي، فمادام هناك احتياج من قبل اشخاص في مناطق حدثت بها نزاعات مسلحة، أو كوارث طبيعية فهو يقدم المساعدة.
وحين سألته عما قدمته المنظمة من مساعدات في مشكلة المياه لنازحي تاورغاء في زمن كورونا اعطاني كتيبات صغيرة معنوّنة بحقائق وأرقام لعام 2019 تحت بند توفير المياه النظيفة وتحسين مرافق الصرف الصحي حظي 400 ألف شخص على مستوى ليبيا بمساعدة منه، كان نصيب مخيمات تاورغاء بمدينة بنغازي 0 صفر.
وحين أعدت عليه السؤال أين تاورغاء؟ قال لا أعلم لماذا لم يتم تقديم المساعدة للمخيمات في بنغازي بخصوص قصة المياه؟، واستطرد قائلا: إن حجم الاحتياجات في ليبيا وبنغازي كبيرة جدا والصليب الأحمر يعمل بإمكانيات محدودة، لا نستطيع تغطية كل الاحتياجات نحاول قدر الإمكان التركيز على المساعدات الغذائية وتوفير الرعاية الصحية والطبية للنازحين الجدد.
وفي محاولة للاتصال بمفوضية بشئون اللاجئين لم أستطع التواصل معهم بحكم إنهم لا يملكون فرعا في مدينة بنغازي.
بينما قال مدير مكتب الإعلام المكلف بالهلال الأحمر إبراهيم التواتي: إنهم قاموا بصيانة منظومة الكهرباء، والمياه للمخيم عدة مرات، وقاموا بعمل دروات مياه للأسر هناك، بشرط أن يقوموا بالبناء العشوائي، أو العبث بمنظومة الصرف الصحي، ولكن للأسف قاموا بمخالفة هذه الشروط مما سبب في مشكلة للمياه لديهم.
وأكد التواتي على إنهم جهة مساعدة للدولة، ولا يستطيعون القيام بأي عمل عن طريق الدعم الذي يأتي من الجهات المناحة، والتي تحدد نوع هذا الدعم مثلا دعم مخيمات تاورغاء في جانب المياه، وعلى مرة تلك السنوات لم تطلب منا جهة مانحة دعم المخيمات في قصة المياه حتى في زمن كورونا.
وعمن يمثل الحكومة بتقديم المساعدات للمخيمات أخبرني المدير التنفيذي لمفوضية المجتمع المدني السيد إبراهيم المقصبي بأنهما: الهياة الليبية للإغاثة ومراقبة الشئون الاجتماعية، واللتين أشار امعيقل بأنهما لم يضعا أهمية المياه في حسبانهما، فعندما يأتون للمخيم يحضرون معهما " لامبات شحن او بطاطين" فقط، وهذا ما أكدته في اتصال هاتفي مسئول المكتب الإعلامي للهيأة السيدة جليلة الدرسي فقالت: الهيأة تقدم مساعدات طبية وغذائية وتغطي بعض الاحتياجات الأخرى، لكن المياه ليس من اختصاصها.
ولكن مراقب الشؤون الاجتماعية بمدينة بنغازي السيد أكرم الفسي يقول بأن: وزارة الشئون الاجتماعية قامت بتشكيل لجنة بعضوية مراقبة الشؤون الاجتماعية بنغازي، وتم من خلالها تم رفع المعوقات، والمتطلبات والمعالجة في هذا الجانب، وتمت مخاطبة شركة المياه والصرف الصحي بالخصوص، وحقيقة عندما نتحدث عن ملف الأسر النازحة فلا يوجد حل جذري لهذه المشكلة، بما إن إمكانية الدولة لا تسمح بتمكينهم من سكن بديل يليق بهم وتتوفر به الشروط الصحية.
ومع كل ما يحدث للنازحين على مدى تسع سنوات متتالية لا يرغبون في العودة، ويقول اميعقل مع الشروط المطروحة في الاتفاقية يبدو أن لا عودة قريبة لنا.