مرزق هي إحدى المنارات الثقافية في ليببا موقعها الجغرافي جعلها مركزا ثقافيا جامعا بين ما هو ليبي مرتبط بالوطن والانتماء الأصلي وبين ما هو  إفريقي بكل ما تمثله الروح الإفريقية من قيمة. الأزمة التي تعانيها المدينة منذ 2011، لا تخفي أن أشياء جميلة ارتبطت بها، من تقاليد الملبس والمأكل إلى تقاليد الأغنية وأنماط الفنون، التي جلعت لأهلها طابعهم الخاص الذي نجحوا في تصديره إلى مناطق أخرى من ليبيا، كلها أشياء جعلت منها فضاء ثقافيا مهما، لم يأخذ حظه كما يلزم.

إذا اعتبرنا الرحلات، بما هي أحد أهم الأداب، نوعا من الثقافة، فمدينة مرزق كانت خلال تاريخها، فضاء للرحالة والمستكشفين. الموقع الجغرافي الرابط بين الصحراء الكبرى ومنطقة المتوسط، جعلها طريقا للتجار والحجيج وربما حتى الباحثين عن الكلأ. في دراسة تحت عنوان "الإسلام والثقافة العربية في الصحراء الكبرى" للباحث الموريتاني "حماه الله ولد السالم"، ذُكرت مدينة مرزق بما هي ممر الرحلات والكشّافة. يقول الكاتب الموريتاني إنه خلال القرن العاشر، كانت الصحراء الليبية، طريقا للمغاربة وأهل شنقيط، القاصدين إلى الحج، وكان كثيرون منهم يوثقون رحلاتهم عبر تلك الطريق التي كانت مرزق مركزا رئيسيا فيها.

هذه الرحلات وإن كانت بداية نوعا من الحكي العفوي أو التوثيق العفوي،  لكنها بمرور الزمن تصبح فنّا يلج إليه الباحثون في تدعيم دراساتهم، ومن تلك المرويات نشأ ما يعرف اليوم بأدب الرحلة، الذي كان في مرحلة من المراحل نوعا من الموضة الأدبيّة أو الثقافية.

الموسيقى في مرزق لها أيضا طابعها الخاص. أن تتحدّث عن الغناء في المدينة يعني آليا تتحدّث عن "المرسكاوي". هو نوع من الموسيقى جمع ما هو عربي بما هو إفريقي وبما هو تبّاوي، نسبة إلى سكان تلك المدينة. يقول البعض إن التسمية في حد ذاتها مرتبطة بالمدينة. فالمرسكاوي مصطلح تطور تدريجيا لكن أصله كان "المرزقاوي" نسبة إلى المدينة. وعلى الرغم من أن منشأه في مرزق، إلا أنه اشتهر في بنغازي والبيضاء عبر عدد من الفنانين.

جمع "المرسكاوي" في كلماته بين الغزل والأغنية الوطنيّة. وكان بطابعه الخاص ملهما للعديد من الفنانين الذي غنوه مثل فوزي المزداوي وخالد عبد الله وعبد الجليل عبد القادر وغيرهم كثيرون. كما تميّزت به فرقة مرزق للفنون الشعبيّة التي حافظت على طابع الأغنية حتى في مستوى مسرحي، حيث يخرج فنانوها وراقصوها بلباسهم الجنوبي الخاص، الجامع بين ما هو إفريقي وما ليبي، مع طغيان واضع للون الأحمر بالنسبة إلى اللباس النسائي مقابل اللون الأبيض بالنسبة إلى اللباس الرجالي.

في ليبيا عموما للثقافة مكانتها الخاصة. البلد كان طوال تاريخه على الأقل المعاصر منه مكانا للمواهب في الأدب والشعر والغناء. ومرزق عاصمة الجنوب ليست استثناء في ذلك. المدينة التي تفتح قلبها نحو إفريقيا ثريّة في مستوى معمارها، وفي مستوى لباسها وفي مستوى موسيقاها من خلال نمط "المرسكاوي" أشهر الأنماط الشعبية غناء في ليبيا، بل ليس في ليبيا فقط، حيث ينتشر هذا الفن حتى في دول مجاورة مثل تونس والجزائر.

وباعتبار الفنون هي ابنة بيئتها، فقد كان للبنى الاجتماعية دورها في ظهور ثقافة خاصّة في كل منطقة. ومرزق بما هي مدينة على تخوم الصحراء الكبرى وإفريقيا تتميّز بثراء إثني خاص، حيث تجتمع فيها عدّة أعراق، من عرب وتبو عاشوا لعقود في انسجام تام أنتج جزءا من هذه الثقافة، بل إن التنوّع هو إثراء للثقافة وإغناء لها، رغم ما وقع في السنوات الأخيرة من هزات أثرت بشكل كبير على ذلك الانسجام والتواصل.

ورغم ما تعانيه المدينة من مشاكل اجتماعية منذ التحولات التي عاشتها البلاد في 2011، وغياب كل مظاهر الدولة فيها ما فتح الباب على مصراعيه أمام شبكات الجريمة، إلا ارتباط المدينة بالثقافة بقي وثيقا، حيث لم تغب عن أغلب المهرجانات المحلية والخارجية، من خلال مشاركة فاعليتها في تأثيث مهرجانات الصناعات التقليدية والموروثات الاجتماعية، التي بدأت العام 2012 ببرمجة سنوية، لولا ظروف الأمن التي أوقفتها سنة 2014، بالإضافة إلى تأسيس مركزين ثقافيين العام 2013، كانت لهما مساهمة في لقاء العديد من المواهب منى الراغبين في إظهار مواهبهم وتطويرها. كما لم تغب مرزق خارجيا من خلال مشاركة فرقتها الموسيقية في تظاهرات دولية في أكثر من مهرجان في تونس.

لا تعيش مرزق اليوم أفضل أيامها. الحرب الدائرة فيها تسببت في تدمير العديد من الأشياء، من بينها نفسيّة النّاس. من سوء حظها أن التنوع الإثني الذي كان إلى سنوات قريبة مصدر ثراء، صار اليوم نقمة. ارتباط العديد من المكونات بأطراف خارجية وتضارب المصالح، ودخول شبكات الإجرام على الخط، زعزع الوحدة الاجتماعية والوطنيّة فيها. وعلى الرغم من أن أطراف النفوذ في البلاد تحاول فرض الأمن فيها لكن الواقع على الأرض يؤكّد أن مجهودات كبيرة مازالت ستبذل من أجل إعادة عاصمة الجنوب الليبي إلى حالته التي كانت قبل تحولات "فبراير". ومادام الحال كما ذكر فإن الثقافة كغيرها من المجالات ستعيش نكسة إلى حين تغير الظروف التي قد تحييها من جديد.