الطغيان (tyrannie) لا صلة له بالسياسة وفق أفلاطون، وهو وفق الفلسفة السياسية، يبدأ حالما يتوقف القانون. وبالنسبة للعلوم السياسية، فإن الطغيان هو شكل متطرف من أشكال الإكراه، يوضع في يد طاغية إما متجسدًا (حكم مونارشي مطلقً، على سبيل المثال) أو غير متجسد (الدولة أو يوتوبيا أنارشية).بينما يختلف الأمر بخصوص الاستبداد (despotisme) والديكتاتوريا (dictature)، فكلا المفهومين ينطوي على شكل من أشكال الممارسة السياسية ذات الحكم المطلق. إن الطاغية كما يصوره أفلاطون يكاد يوجد في كل المجالات وكل المجتمعات حتى تلك التي قطعت أشواطا في الحضارة والممارسة الديمقراطية والحقوقية، غير أن الفرق بين تلك المجتمعات ومجتمعاتنا المتخلفة هو صرامة حكوماتها وقضائها وإعلامها في محاربة ظاهرة الطغيان. فمن هو الطاغية؟

يصور كتاب الجمهورية كيف يظهر الطاغية كإنسان عادي أولاً، لا سلطة له، ثم يندفع، تدفعه رغباته المتأججة، رغبات متطرفة، يندفع نحو المجهول، بحثا عن شيء يروي عطشه، تستفحل فيه هذه الرغبات شيئا فشيئا، حتى تموت فيه كل رغبة سوية، ويموت فيه الاعتدال والعقل. رغبة التدمير والتسلط وحدها تمسك بناصيته.

يتحدث أفلاطون عن حياة الطاغية على أنها سلسلة من أعياد اللذة والمآدب، من الانحرافات التي لا تعرف المبادئ والقيم، وتتصف بالانقياد إلى الرغبات والأهواء، كل يوم يحتاج إلى مال وإنفاق وسرعان ما تنضب موارده، فيبدأ بالاقتراض فيبدد ميراثه فيجري هنا وهناك كالمجنون باحثاً عن صديق أو جار يملك شيئاً يأخذه منه بالخديعة أو بالإكراه.
يستولي الطاغية على السلطة عنوة، ولأنه كان يظهر عكس ما يضمر، يسعى إلى التخلص من خصومه وأعدائه بعد استيلائه على السلطة، ثم يشرع في تصفية أتباعه الذين يشك أنهم يشكلون خطرا عليه، ويستبقي فقط جماعة مستعبدة تتقاضى أجورا عالية لكي تحميه وتمدحه. ولهذا وضع كتاب الجمهورية عدة أوصاف للطاغية (حيواني، نقيض الروح الخالدة، أتعس الناس).
مثل هذا الشخص البهيمي أو الحيوان الأكبر كما يسميه كتاب الجمهورية لن يصادق إلا رفاق السوء، ولهذا لا نندهش إذا وجدنا أعوان الطاغية يمارسون مجموعة من الجرائم (النهب والسلب واغتصاب أموال غيرهم، الوشاية وشهادة الزور والابتزاز)، فتغرق البلاد في بؤس وبلاء ودمار.
هذه الشرذمة من الأعوان الفاسدين هم من يخلقون الطاغية، فمن خلق الشرذمة؟ المجتمعات التي تتصف بالسذاجة والطيبوبة عادة ما تتعرض للاحتيال والاستغلال. غباء الشعب هو من يخلق هذه الشرذمة ويرعاها بطيبوبته ولطفه. وهذه الشرذمة لا تستحي، لا تتمتع بأي حس حضاري، فتعمل على معاقبة شعبها كلما طالب بحقوقه، ولا تتردد في استعباده أو بيعه للغير.
إن هذا الطاغية اعتاد قبل أن يستولي على‌ الحكم أن يختلط بالمنافقين الوصوليين الذين هم على استعداد لخدمته في كل شيء،فإذا كان هو في حاجة إلى خدمة يؤديها له شخص آخر فإنه يقف أمامه في مذلة الكلب الخاضع متظاهراً بالإخلاص حتى إذا قضى حاجته أدار له ظهره، وهكذا نرى الطغاة طوال حياتهم حسب تعبير أفلاطون لا يجدون لهم صديقاً فهم إما متسلطون وإما عبيد خاضعون. أما الحرية والصداقة الحقيقية فتلك نعمة لا يذوقها الطغاة أبداً. ترى كيف يكون حال المسؤولية التي يمسك بزمامها هذا الشخص الذي هو نوع من الحيوان؟ سواء كان رئيس دولة، أو رئيس بلدية، أو ضابطا عسكريا، أو واليا. كيف يكون حال المجتمع الذي ينجب مثل هؤلاء؟ لكن ما هو مصدر شرعيتهم؟ النخبة طبعا: المفكرون ورجال الدين، وعلى حد قول الشاعر يوريبايدس: "الاستبداديون حكماء، بالعيش مع الحكماء". وأن هذه الفصيلة من النخبة بدورها تدعي الحكمة كونها رفيقة الطغاة.
وكلما طالت مدة ممارسته للطغيان ازداد تغولا: ازداد توغلا في الفساد، وتعطشا للظلم، ونهبا وتكديسا للثروة.ومن هنا كانت النفس التي يسيطر عليها الطغيان لا تفعل ما تريد هي،وإنما هي مدفوعة دائماً إلى الوضاعة والخسة، فالنفس الطاغية لابد أن تكون فقيرة هزيلة يستبد بها الرعب وتعاني الآلام والتذمر والشكوى «فقيرة هي النفس التي تنظر إلى باطنها، تجد خواء فتمتد إلى خارجها لتقتني ما يسد لها هذا الخواء».

إن المكتفي بنفسه لا يطغى، إنما يشعر في نفسه بثقة واطمئنان ليس في حاجة إلى دعم من سواه، وهكذا تكون النفس الطاغية فقيرة هزيلة ويكون الرجل الطاغية أفقر وأتعس الناس جميعاً، يظل الطاغية حبيس حشد هائل من الأهواء والوساوس والمخاوف.