لقد ظل المغرب العربي في القلوب والضمائر مثلا أعلى و قيمة سامية تدفع الجماهير إلى الكفاح والتحرير ثم في مرحلة الاستقلال إلى التعاون والوحدة، و لكن مع الأسف ضاع ذلك الرمز في مهب الاختلافات الجذرية بين الأنظمة السياسية والأمزجة الشخصية منذ أول عهد الاستقلال، بل وصلت المغرب والجزائر إلى حد حرب الرمال، وابتعد حلم التعاون الضروري والحيوي المخطط بين البلدان الشقيقة... واليوم العلاقات بين المغرب والجزائر أصبحت في خبر كان، أما سفينة المغرب العربي فتوشك على الغرق، بعد إعلان وزير خارجية الجزائر رمطان لعمامرة الثلاثاء 24/08/2021، أن بلاده قطعت العلاقات الدبلوماسية مع المغرب. وكان المغرب عبّر، بعد إعلان قطع العلاقات، على لسان رئيس الحكومة سعد الدين العثماني، عن أسفه للقرار الجزائري، وأوضح العثماني، في حوار صحفي، أن استقرار وأمن المغرب والجزائر مرتبطان، وأن المغرب لديه هاجس بناء الاتحاد المغاربي على أسس سليمة. وشدد العثماني على أن المغرب سيبقى دائما وفيا لمبادئه والعمل على بناء اتحاد مغاربي منسجم وقوي وقادر على أن يخوض تحديات القرن الواحد والعشرين، معربا عن أمله في "تجاوز هذه المرحلة الصعبة بين بلدينا، وأن تعود العلاقات إلى طبيعتها وأحسن، وأن تكون هناك إرادة مشتركة لبناء الاتحاد المغاربي وتجاوز الوضعية الحالية".
للأسف الشديد، فالقطيعة الدبلوماسية بين الجزائر والمغرب، أحالت سريعاً اتحاد المغرب العربي، إلى جسد مشلول، وفي هذا السياق قال وزير الخارجية الموريتاني إسماعيل ولد الشيخ أحمد، في مؤتمر صحفي بالعاصمة نواكشوط، إن "اتحاد المغرب العربي كمنظمة إقليمية مشلول حاليا بسبب الأزمة بين المغرب والجزائر". وأضاف الشيخ أحمد: "نحن منشغلون بالوضع الحالي ولا نريد أن يتأزم أكثر، كل ما يمس شعوب المغرب العربي يمس موريتانيا". وتابع: "طموحنا، بناء المغرب العربي وتجاوز الأزمة التي حصلت، ومتأكدون أنه مهما كانت الأزمات ومهما وصلت سيوجد حل لها". أما الباحث السياسي نبيل بلفقيه، فقد وصف الوضع الحالي للاتحاد المغاربي بأنه "أشبه بالموت السريري الذي ينتظر قرار إعلان نهايته. والتفاؤل الذي عاشته شعوب المنطقة بعد إعلان الاتحاد سرعان ما تبخّر بسبب أزمات وقضايا عجز قادة دول المنطقة عن حلها ومنها قضية لوكربي والحصار الذي فُرض على ليبيا مطلع تسعينيات القرن الماضي، والفشل في تقريب وجهات النظر بين الجزائر والمغرب لحل أزمة الصحراء على الرغم من الجهود الإقليمية والدولية التي بُذلت لتحقيق ذلك". وأضاف بلفقيه أن "أبناء دول الاتحاد لم يلمسوا حقيقة وجوده وتأثيره في حياتهم. وباستثناء حرية التنقل من دون الحاجة للحصول على تأشيرة مسبقة، ظلّت بقية القضايا التي تهمّ مصير ومستقبل شعوب المنطقة المغاربية في خبر كان. وقلة يعرفون بوجود الاتحاد وأن له مقراً وأميناً عاماً، لأن كل أنشطته مجمدة منذ عشرات السنين".
إن التوتر الدائم بين الجزائر والمغرب، أدى إلى إعاقة قيام إتحاد مغرب عربي، ونتيجة لهذا الوضع أغلقت الحدود بين البلدين "الشقيقين اللدودين"، وتعطّل انسياب البشر والسلع براً، وتدهورت المبادلات، واستحكم العداء. ويقول مصطفى الفيلالي، رجل الدولة التونسي، والذي أشرف على أحد الأجهزة الوحدوية المغاربية في وقت من الأوقات، إن هذه الحالة أدّت إلى نقصٍ دائم في مستوى الناتج الداخلي الخام، في كل بلد من بلدان المغرب العربي بـ2 في المائة سنويا نتيجة تعطل المبادلات البينية إنسانياً وسلعياً. أماّ الباحث في الشؤون المغاربية إدريس أحميد فيرى أن "الخلاف بين الجزائر والمغرب عطّل عمل الاتحاد ولقاءات قادته، والأزمة الأخيرة امتداد لأزمات مستدامة بينهما، تُضاف إليها الأوضاع الداخلية في الدولتين، حيث اتهمت الجزائر المغرب رسمياً بالمسؤولية عن الحرائق الكبيرة التي شهدتها، إضافة إلى ما جاء على لسان الدبلوماسي عمر هلال، عضو اللجنة الدائمة التي تمثل الرباط في الأمم المتحدة، الذي صرح بأن الشعب القبائلي يجب أن يُسمَع وأن تُحقَق مطالبه وعلى الأسرة الدولية أن تساعده في ذلك وتدعم مشروعه السياسي الذي يجب أن يفضي إلى الحكم الذاتي والاستقلال. واعتُبر هذا التصريح بمثابة اعتداء خطير على الجزائر".
إنّ المغرب العربي بسبب منزلته الاستراتيجية الحاسمة وثرواته الباطنة والظاهرة أصبح محور الصراعات المعلنة والخفية بين العمالقة والمتعملقين لأنه البوابة الرئيسية لمناطق الأزمات والثروات معا إلى جانب حدوده البحرية مع الغرب وحدوده الصحراوية مع القارة الأفريقية التي تشكل حسب اتفاق الخبراء مستقبل الإنسانية في الطاقة والمعادن والغذاء والمياه، أما اتحاد المغرب العربي، فهي منظمة إقليمية تأسست عام 1989، بمدينة مراكش بالمغرب، ويتألف من 5 دول تقع بالجزء الغربي من العالم العربي وهي: الجزائر والمغرب وتونس وليبيا وموريتانيا، ومنذ تأسيسه واجه اتحاد المغرب العربي عراقيل لتفعيل هياكله وتحقيق الوحدة المغاربية ! حيث لم تُعقد أي قمّة على مستوى قادة الاتحاد منذ قمة 1994 التي استضافتها تونس. وبالرغم من أن محاولة توحيد شعوب المغرب العربي الخمس (ليبيا تونس الجزائر المغرب موريتانيا) فشلت سنة 1989 منذ ولادة اتحاد المغرب العربي على أيدي زعماء ذلك الزمن وبالرغم من أن العواصف الهوجاء زلزلت شعوبه وأضعفت دوله أو أربكتها منذ ما سمي بالربيع العربي منذ 2011 فإن هذا الإقليم يقع جغرافيا وتاريخيا في قلب ثلاث قارات جاورتها الأيام والمحن وهي أوروبا وأفريقيا وآسيا مما يضع دول المغرب العربي أيضاً في قلب التحولات الكبرى على مستوى السياسة والحضارة ومما يجعلها كذلك هدفا لكل المطامع الأجنبية والتدخلات الاستعمارية والمخاطر الإقليمية في لعبة الأمم الجديدة.
وبعيداً عن كتب التاريخ، واستحضاراً للحاضر، فقد أطل من شرفة القصر البلدي بمدينة مراكش المغربية بتاريخ 17 فبراير1989، قادة كل من المغرب وموريتانيا والجزائر وتونس وليبيا ليعلنوا قيام اتحاد دول المغرب العربي، لقطة الأرجح أنها الأولى والأخيرة التي جمعت الراحلين الحسن الثاني والشاذلي بن جديد ومعمر القذافي مع زين العابدين بن علي ومعاوية ولد الطايع. وللأسف فالأزمة الكبرى الطويلة التي عطلت التنمية والتعاون والسلام في دول المغرب العربي تتجلى في أزمة الجزائر والمغرب ! فعند قيام هذا الاتحاد كان هناك اتفاق ضمني على ألا تشكل قضية الصحراء المزمنة بين الجزائر والمغرب والقائمة منذ 1975 حجر عثرة أمام عمل الاتحاد وتقوية العلاقات بين أعضائه. وضعت هذه القضية على الرف عساها تجد المسار الملائم للحل دوليا دون أن يجري إقحامها ضمن جدول عمل الاتحاد فتصيبه بالشلل. كان ذلك تفاهما جيدا لكنه لم يستطع الوقوف على رجليه فهذه القضية التي تسمم العلاقة بين الجزائر والرباط ما كان يمكن تجاوزها بهذه السهولة ولهذا أدى الفتور بين البلدين وأحيانا التوتر إلى إصابة الاتحاد المغاربي بالشلل فما استطاع أن ينهض. وهذا الملف المعيق لكل وحدة مغاربية نشأ مع جلاء الاستعمار الأسباني عن المنطقة سنة 1975 وبلغ الأمر بين الجارتين الشقيقتين (المغرب و الجزائر) درجة الحرب في مرحلة ما بين 1975 و 1976 و تمسك كل طرف بموقف حاد وتعاقبت الوساطات أمريكية وفرنسية وعربية وأممية دون جدوى. وفي أي حال، بات واضحا أن هذا النزاع، حال دون قيام علاقات طبيعية بين الجزائر والمغرب، وأنه (أي النزاع) لعب الدور الأساسي في تجميد مؤسسات اتحاد المغرب العربي، الذي يجمع منذ 1989، إلى جانب البلدين، كلا من ليبيا وتونس وموريتانيا.
وأصول الأزمة في العلاقات المغربية الجزائرية ميداناً يحتاج إلى شجاعة كبيرة وموضوعية عالية، لكثرة الألغام والقنابل الموقوتة فيه. فالعلاقات المغربية الجزائرية ساءت كثيرا مع مجيء الاستعمار، وازدادت سوءا مع رحيله، ولم يستطع السياسيون في البلدين التحرر من بقايا الاستعمار ومشاكله، ولا تجاوز الأزمة، والعودة إلى أصول الأزمة هو عين الصواب لفهم أي مشكلة، فكيف إذا كانت المشكلة عويصة تولدت عنها مشاكل أخرى مثل العلاقات بين المغرب والجزائر. ويمكن اعتبار الأزمة المغربية الجزائرية النموذج الأمثل في هذا الباب، إذ تتفاعل العوامل الجغرافية والتاريخية والسياسية وتتداخل وتتشابك وتتقاطع كلها خلال مسافات زمنية تتباعد وتتقارب، اندلعت خلالها أزمة تلو أخرى من حرب إيسلي إلى حرب الرمال (1844 ـ 1963) وما زالت تداعياتها حاضرة وبكل قوة في مسيرة العلاقات بين الشعبين الشقيقين. وإذا كانت العلاقات الدولية تطبعها صراعات خاصة بين بلدان الجوار التي تتطاحن على مشاكل الحدود، فالمغرب والجزائر لم تخرجا عن هذه القاعدة. فالعلاقات بين المغرب والجزائر مرتبطة بقضايا تاريخية وأخرى تتعلق بتدبير الجوار أو في إطار المنافسة واختلاف التصور حول بعض القضايا الهامة التي تعرفها المنطقة كالإرهاب والهجرة غير الشرعية وغير ذلك.
صحيح أن البلدين الشقيقين بينهما تاريخ طويل من الجفاء والعداء، لكن توتير العلاقات إعلامياً، في ظل الظروف الإقليمية والدولية الحالية التي تفرض التنسيق والتعاون في جميع المجالات، يأتي لأسباب غير إعلامية تروم صب الزيت على نيران العلاقات الثنائية بين البلدين الشقيقين. وتظهر تجليات التأثير السالب للإعلام في السياسات الخارجية، التي بات من الواضح أنها تدور في أفلاك المنابر الإعلامية للبلدين الجارين، التي لم تستطع الخروج من ذهنية العداء والعداء المضاد، وتتعامل من منطلق فرضية ثابتة تكاد تكون صنماً إعلامياً، تفيد أن المغرب والجزائر لا يمكن أن يكونا إلا في وضع العداء والصدام. وأصبح مؤكدا أن المغرب والجزائر الذين يجمعهما الكثير ويؤهلهما إلى علاقات أكثر عمقاً وثماراً على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وان التعاون بينهما ممكن، إذا تركتهما لوبيات الإعلام ولم توتر علاقاتهما الثنائية، بشكل يكاد يصبح خطا تحريرياً ثابتاً. وهنا لا تجد من يقول أن على المغرب والجزائر الاستفادة من تاريخ الدول الغربية التي تتحد وتتكاثف اقتصادياً وأمنياً دون اكتراث لملفات التاريخ التي تلم العديد من الحروب الكونية والأحقاد التاريخية بين القوى الغربية.
ويرى المراقبون أن نفخ الروح في جسد دول المغرب والجزائر الشقيقين، لم يعد اختياراً، بل ضرورة حتمية تقتضيها تحولات السياق الإقليمي والدولي. فالصمود في زمن الأزمة البنيوية للاقتصاد العالمي ومواجهة تداعيات الأوضاع الأمنية والسياسية الانتقالية في مرحلة ما بعد الربيع العربي، ولاسيما أخطار الانهيار الأمني في منطقة الساحل والصحراء بات رهناً بإرساء إطار تفاوضي وتكاملي وتضامني بين المغرب والجزائر... لكن قبل كل شيء، لا بد من قراءة تحليلية ونقدية متحررة من رواسب الماضي ونزعة التعالي، للأحداث التاريخية التي أدت إلى حدوث هذه الأزمات لتستفيد منها أجيال الحاضر الموكل إليها بناء مستقبل الشعبين.
فالبلدين تواجههما مشاكل وقضايا موحدة ومشتركة، أليس تاريخهما ضاربا في أعماق الزمن؟ ولا يمكن حل هذه القضايا والمشاكل بدون التعاون والتآزر، وأي تأجيل لا يمكن إلا أن يجعلها تتفاقم مع الزمان، على رأس هذه القضايا: قضية التنمية البشرية التي تعطلت، وقضايا التطرف الديني والهجرة السرية، باعتبارهما مشكلتين طارئتين، والأمازيغية بصفتها قضية ثقافية واجتماعية. إنها قضايا جوهرية، ولا تستأهل أي تأخير، وليس بخوض الحروب الإعلامية... يمكن مواجهتها.وكل ما يتمناه كل مغربي وجزائري شريف وعاقل ومحب لوطنه ولشعبه، أن تطوى الصفحات الماضية السوداء وتفتح صفحات جديدة بيضاء. لكن متى سيتحقق ذلك؟ سيتحقق عندما يتحمل المفكرون والمؤرخون والمثقفون النزهاء، من مغاربة وجزائريين قبل غيرهم من السياسيين والعسكريين، ورجال المال والأعمال مسؤوليتهم التاريخية والوطنية، لردم الهوة التي تصطنعها السياسة عندما لا توظف لخدمة الأجيال القادمة، لابد من عقد حوارات فكرية وتاريخية مشتركة لاستخلاص الدروس والعبر من هذه الأزمات التي عطلت مسيرة البلدين الإنمائية، وأضرت بالمصالح الحيوية للشعبين.
اليوم تتعرض الشعوب المغاربية إلى عملية مدبرة من الاختراق الاستعماري التوسعي أداتها بذر الفتنة وزرع التفرقة بين شعوبنا المغاربية، والتمهيد إلى الاستيلاء الناعم على خيرات دولنا تحت شعارات زائفة تجدد الفكر الأيديولوجي الصهيوني الذي يخطط له ''خبراء اليمين العنصري المتطرف'' والسياسيون المحترفون لدى الغرب والخدم الأوفياء للوبيات حاقدة وذات مطامع ونهم... والتغيرات الكبرى الحالية تضع الدول المغاربية أمام تحد وجودي. الوضع الحالي لا يخدم أي بلد، والمراهنة على الزمن من شأنه تأبيد الوضع الحالي وتفاقمه. اتحاد المغرب العربي، كما انتظم في معاهدة مراكش، فشل وينبغي التفكير في كيان جديد، والمتأمل في واقع هذا الاتحاد، يلاحظ أنه لم يعد له من الماضي شيء، وأن التوجه الجديد هو قيام كيان مغاربي جديد، في زمن التكتّلات الكبرى، لأنّ حلم اتحاد المغرب العربي، هو حلم مجتمعات وشعوب، وبالتالي لا يمكن لقرار نظام معين أن يقضي على حلم يراود شعوب المنطقة، ولن يستطيع التاريخ ولا الأحداث ولا التقلبات التأثير عليها.