يقودنا كل ما ذكرنا في الأجزاء السابقة للنظر في التوجهات القادمة للدول الكبرى في مناطقنا العربية والإفريقية والإسلامية، ستكون المحطات في نقل الكثير من الحروب التجارية الي دولنا، وهو ما يلزم التفطن والعناية بكل قرار أو توجه أو تحالف وغيره، لقد قلبت الولايات المتحدة الأمريكية المعادلة الراسخة في تأييد أوروبا وعداوة روسيا، لنأتي اليوم الي توافقات روسية أمريكية، وتنافرات أمريكية أوروبية. العالم من حولنا يتغير بشكل سريع،
إن انهيار الأسواق التجارية نتيجة الحروب التي تقودها الإدارة الأمريكية الحالية سيذهب الي مسارين، فالمسار الأول، فرض مزيد من الإتاوات والجبايات لمحاولة انقاذ الأسواق والبعد من الكساد الاقتصادي العالمي، والمسار الثاني، إعادة ترتيب أوراق التحالفات الدولية،
في ظل تباطؤ دور منظمة الأمم المتحدة، الأمر يجرنا أيضا للنظر في عودة الشأن الفلسطيني بعد السابع من أكتوبر (طوفان الأقصى) مجددا كأولوية وقضية عربية اصيلة بعد ما كانت تمثل شأن داخلي للعديد من السنوات وبالأخص بعد مؤتمر السلام وما تبنته السلطة الفلسطينية من قرارات، لاتفاقية أوسلو عام 1993، وقمة كامب ديفيد عام 2000، كما يأتي الشأن الإيراني بعد اغتيال قادة حماس، ودخول صراعات دولية في لبنان، وتغير السلطة الحاكمة في سوريا، والتحول الأمريكي من الإعتماد الكلي علي قرارات لجان وكالة الطاقة الذرية الي كونه صراع امريكي مباشر، في الوقت الذي سنري الخليج العربي وتحديدا المملكة العربية السعودية لاعب أساس إقليمي وعربي ، كما يضع بوابات افريقيا (مصر - ليبيا) تحت مجهر التصعيد أو المراوحة.
لقد هددت الولايات المتحدة الأمريكية بشكل مباشر بالتصعيد واحتمالية الدخول في ضربات جوية عسكرية ضد ايران، إن لم تتخلي عن برنامجها النووي، بالطبع، هو دفاع يأتي لحماية الحليف الإستراتيجي وصانع السياسات الأمريكية (إسرائيل)، وهذا الأمر يضع المنطقة الخليجية برمتها في غليان، فالخليج العربي يتعرض اليوم للابتزاز المالي وهو ما اوضحته كافة وسائل الإعلام، والضغط علي دول خليجية كالإمارات العربية المتحدة، والمملكة السعودية وقطر، لوضع استثمارات كبيرة وإيداع مبالغ مالية ضخمة لدي حسابات ومصارف الولايات المتحدة الأمريكية،
لم نري حيادا أمريكيا طوال فترة القطبية الأحادية، بل نري بأن مجموعات الضغط (غير الرسمية) او ما يعرف بحكومات الظل هي من تقود السياسات الأمريكية الداخلية والخارجية، غير أن العالم يتغير ويتشكل مجددا للتصحيح، سواء بشكل إقتصادي أو جيوسياسي، كما أن المنظومات المصنوعة منذ ما يقرب المئة عام قد أتت اكلها وادت مهامها لصانعيها، وحان الإنتقال الي البرامج المرسومة والمعدة لسنوات قادمة، فالتغيرات القادمة لن تكون بشكل شيوعي - ليبرالي، ولن تكون صراعا رأسمالي - إشتراكي، فقد تفطن العالم للكثير من الحيل والمؤامرات التي حاقت بالعالم، والتصوير الإعلامي المزيف للكثير من الأحداث، فلقد بينت الإنتفاضة الفلسطينية الأقنعة كلها، وأوضحت للقاصي والداني التعسف والإجرام، وعدم الإكتراث الدولي بالمنظومة الحقوقية، ولا وجود للمنظومة الإنسانية ولن تكون لعالمنا الإسلامي والعربي، بل هي صياغات تأتي وفق مزاج الكبار والدول المتنفذة، ان الوضع الفلسطيني حدد معالم كثيرة للعالم ، فقد بين لـــ المجتمع الدولي الصورة الحقيقية لما يعرف بالدولة الإسرائيلية والظلم الذي تكبده شعبنا الفلسطيني منذ عام 1948، وهو ما ظهر جليا في تلك المظاهرات العارمة في كل دول العالم الأول تأييدا للقضية وتأييد حق الشعب الفلسطيني في ارضه ووجوده ويقائه،
كما وضعت القضية الفلسطينية الدول العربية والخليجية في موضع التحدي والتصدي في مواجهة المخططات القديمة - الحديثة - للشرق الأوسط، حيث تواجه دولنا العربية الضغط الاقتصادي والسياسي، فــ مصر تواجه قطع الدعم المادي من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، وإيقاف القروض الدولية، بل المطالبة بكافة مستحقاتها، كما أن ما قام به الوفد الإسرائيلي لــ اثيوبيا الشهر الماضي يمثل خطا آخر للضغط المباشر وذلك من خلال انقاص منسوبات المياه (النيل)، ومن ثم الوصول للعمق الشعبي تمهيدا لعدم استقرار الدولة والعبث بمقدراتها، وكل تلك الضغوط تنتهي بوضع سيناء تحت تصرفات دولية للتهجير الفلسطيني، وهو ما نعرف بأنه صعب المنال، ولن يكون مطلبا مستجابا لا عربيا ولا مصريا.
في الوقت الذي تطالب فيه الولايات المتحدة الأمريكية تنفيذ المخططات المرسومة لإسرائيل الكبرى، بأن يكون هناك قرار عربي تحت سقف منظومة عربية، كمجلس التعاون الخليجي أو جامعة الدول العربية، حيث تباع فيه القضية العربية الفلسطينية بشكل توافقي ، ويتم فتح سيناء كملاذ للشعب الفلسطيني ومن ثم يخضع لإشراف دولي، ومنطقة تؤخذ من جمهورية مصر العربية وتمنح الحكم الذاتي لتكون تحت تصرف المجتمع الدولي، وهو ما يكون مقابل السلام الداخلي في المنطقة العربية والخليجية، واستقرار النظم السياسية القائمة، من جانب آخر، فإن الولايات المتحدة الأمريكية تضغط علي الجانب الإيراني للتخلي عن البرنامج النووي وذلك تأمينا للحليف من تهديدات محتملة ايرانية، فامتلاك السلاح النووي لإيران هو المرتكز الأساسي وقد يكون له النفع في الحفاظ علي كل دول المنطقة إن ثم توافقات إيرانية - سعودية شاملة، وترتيبات اقتصادية وفق تحالفات دولية مع الصين و روسيا، والتي ستكون التوجه القادم لإعادة ثنائية القطبية الدولية. وهو ما يدفع كافة الدول العربية والخليجية والإيرانية لإعادة رسم المخططات والتحالفات والتوافقات.
وسنأتي في هذه السلسلة لكثير من التفاصيل، في لقاء آخر
د.محسن ونيس القذافي: كاتب ومحلل سياسي ليبي