التاريخ لا يتدفق بطريقة يمكن التنبؤ بها. هو دائما نتيجة تيارات وحوادث تبدو عشوائية ، يتم تحديد أهميتها - أو، في كثير من الأحيان، الجدل بشأنها - فقط في وقت متأخر. ولكن حتى لو أخذنا بالحسبان الطبيعة المتقلبة للتاريخ، الحدث الذي يعود له "الفضل" في إطلاق شرارة "الربيع العربي" يكاد يكون غير مرجح .. لا يمكن ان يكون أكثر واردا: انتحار بائع فاكهة والخضروات التونسي حرقا احتجاجا على مضايقات حكومية.

ومع وفاة محمد البوعزيزي متأثرا بجراحه في 4 يناير 2011، كان المحتجون الذين خرجوا في البداية إلى شوارع تونس للمطالبة بالإصلاح الاقتصادي يطالبون باستقالة زين العابدين بن علي، الرئيس القوي في البلاد لمدة 23 عاما. وفي الأيام اللاحقة، نمت تلك المظاهرات حجما وكثافة - ثم تخطت الحدود التونسية.

 وبحلول نهاية يناير، اندلعت احتجاجات مناهضة للحكومات في الجزائر ومصر وعمان والأردن. وكانت هذه فقط البداية. بحلول نوفمبر، أي بعد 10 أشهر فقط من وفاة البوعزيزي، أطيح بأربعة انظمة في الشرق الأوسط ، وتعرضت نصف دزينة من الحكومات الأخرى فجأة لهزة أو وعدت بإجراء إصلاحات، أمام مظاهرات مناهضة - بعضها سلمي، والبعض الآخر عنيف - انتشرت على شكل قوس في العالم العربي من موريتانيا إلى البحرين.

"الربيع العربي" بدأ في العراق.. قبل البوعزيزي

 ككاتب لدي خبرة طويلة في شؤون الشرق الأوسط، رحبت في البداية بتشنجات الربيع العربي -في الواقع، كنت أعتقد أنه طال انتظارها. في وقت مبكر من السبعينيات (1970)، سافرت عبر المنطقة وأنا صبي صغير مع والدي، في رحلة أثارت إعجابي بالإسلام وحبي للصحراء. وكانت منطقة الشرق الأوسط أيضا موطن أول غزوة لي في الصحافة عندما قفزت في صيف عام 1983، على متن طائرة إلى بيروت المدينة المحاصرة أملا في الحصول على عمل بالقطعة.

 وعلى مدى السنوات اللاحقة، تابعت عمليات إسرائيلية لقوات خاصة في الضفة الغربية. وتناولت الغداء مع الجنجويد في دارفور. قابلت عائلات انتحاريين. وفي النهاية، توقفت لخمس سنوات عن صحافة المجلة لتأليف كتاب عن الأصول التاريخية للشرق الأوسط الحديث.

لماذا تحول الأمر بهذه الطريقة؟ ولماذا انحرفت حركة بدأت بآمال عريضة لتؤول إلى هذا المآل الرهيب؟

الطبيعة المتبعثرة للربيع العربي تجعل من الصعب تقديم إجابة واحدة. بعض الدول تحولت إلى التطرف، حتى مع عدم تأثر دول مجاورة. وكانت بعض الدول المأزومة تعيش ثراء نسبيا (ليبيا)، وأخرى تعرف فقرا مذقعا (اليمن). انفجرت بعض البلدان ذات "ديكتاتوريات" حميدة نسبيا (تونس) جنبا إلى جنب مع بعض المناطق الأكثر وحشية (سوريا). ويمكن ملاحظة نفس مقاييس التفاوت السياسي والاقتصادي في الدول التي ظلت مستقرة.

للحفاظ على سيطرتها على هذه الأراضي المنقسمة، اعتمدت الدول الأوروبية على نفس النهج الذي اتبعته جيدا في استعمار أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. نهج يقوم على تمكين أقلية عرقية أو دينية محلية لتكون بمثابة المسؤول المحلي، واثقة من أن هذه الأقلية لن تتمرد على المشرفين الأجانب خشية أن يتم اجتياحها من قبل غالبية المحرومين.

هذا فقط على المستوى الظاهري لاستراتيجية "فرّق تسد" الأوروبية، ولكن تحت الانقسامات الطائفية والإقليمية في هذه "الأمم" هناك طبقات معقدة للغاية من القبائل والقبائل الفرعية والعشائر، والأعراف الاجتماعية القديمة التي بقيت مصدر السكان الرئيسي لتحديد الهوية والولاء. وقد أثبت الإيطاليون والبريطانيون والفرنسيون مهارة في تأليب هذه الجماعات ضد بعضها البعض

وفي ضوء ذلك، يبدو انتحار محمد البوعزيزي 2011 أقل تحفيزا للربيع العربي من ذروة التوترات والتناقضات التي كانت تغلي تحت سطح المجتمع العربي لفترة طويلة

بينما لازالت صورة إسقاط تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس تثير الاستياء في العالم العربي - فإنها تنطوي على رمزية التدخل الغربي في المنطقة. للمرة الأولى في حياتهم، أحس السوريون والليبيون وغيرهم من العرب بقدر ما أحسه العراقيون أن أي شخصية كصدام مهما كانت راسخة، يمكن تنحيتها، وأن الشلل السياسي والاجتماعي الذي طالما ضرب أوطانهم يمكن في الواقع كسره.

 لم يكن واضحا تقريبا أن هؤلاء "الأقوياء" قد بذلوا في الواقع قدرا كبيرا من الطاقة لربط ما يصل أممهم، وفي غيابهم بدأت القوى القبلية والطائفية القديمة في ممارسة طقوسها. وليس واضحا إن كانت هذه القوى ستجذب وتصد في آن واحد الولايات المتحدة، وإلحاق الضرر بقوتها وهيبتها في المنطقة إلى حد قد لاتشفى منه أبدا.

6-أشخاص تغيرت مصائرهم في لحظات فارقة من "الربيع"

عازار هو واحد من ستة أشخاص تم تأريخ حياتهم في هذه الصفحات. والأشخاص الستة هم من مناطق مختلفة ومدن مختلفة، وقبائل مختلفة وأسر مختلفة، لكنهم يشتركون، جنبا إلى جنب مع الملايين من الناس الآخرين في شمال افريقيا والشرق الأوسط، تجربة انهيار عميق.

تغيرت حياتهم إلى الأبد بسبب الاضطرابات التي بدأت في عام 2003 مع الغزو الأمريكي للعراق، ثم تسارعت مع سلسلة من الثورات والانتفاضات أصبحت تعرف في الغرب باسم الربيع العربي. وتتواصل اليوم مع عمليات النهب التي ينفذها تنظيم داعش، ومع الهجمات الإرهابية الأخرى والدول الفاشلة.

في حالة كل واحد من هؤلاء الأشخاص الستة، تبلورت الاضطرابات بحدث خاص ومحدد. بالنسبة لعازار ميرخان، كان الحدث وجوده على طريق سنجار، عندما رأى أن أسوأ مخاوفه قد تحقق. أما ليلى سويف من مصر، فجاءها شاب وفصلها عن كتلة من المتظاهرين لاحتضانها ، وكانت تعتقد أن الثورة ستنجح. بالنسبة لمجدي المنقوش من ليبيا، تمثل الحدث في إحساسه بنشوة غامرة ومفاجئة بينما كان يسير عبر منطقة فاصلة بين المتصارعين ، وشعر خلالها أنه حر للمرة الأولى في حياته. بالنسبة لخلود الزيدي من العراق، كانت اللحظة الفارقة عندما فهمت بعد بضع كلمات تهديد من صديق سابق، أن كل شيء عملت من أجله قد ذهب أخيرا. في حالة مجد إبراهيم من سوريا، كانت نقطة التغيير عندما شاهد أحد المحققين يفحص هاتفه المحمول ، ليحس أن إعدامه بات أكثر قربا. أما لوكاز حسن من العراق، وهو شاب بلا اهتمام واضح لا بالسياسة ولا بالدين، فلا ينسى اليوم الذي ظهر فيه مسلحون من داعش في قريته ليضعوه بين خيارين.

على تباين تلك اللحظات الفارقة ، فإنها تمثل لكل هؤلاء الأشخاص نقطة عبور، وممرا إلى مكان لن تكون هناك عودة منه. هذه التغييرات، وبطبيعة الحال - تتكرر لدى الملايين من الأشخاص - تحول أيضا أوطانهم والشرق الأوسط الكبير، وبالتالي العالم بأسره.

الحالة الليبية... مجدي المنقوش: ظُلمنا من الجميع

على بعد ما يقرب من 120 كيلومترا شرقي العاصمة الليبية طرابلس، كانت مدينة مصراتة الساحلية المزدهرة سابقا محطة هامة طريق التجارة عبر الصحراء القديم، ونقطة توقف قوافل الذهب والعبيد من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى للتصدير عبر البحر الأبيض المتوسط. منذ ذلك الحين، فقد كانت واحدة من المراكز التجارية الرئيسية في ليبيا، يعتبر سكانها على أنهم صناعيون وبخاصة رأسماليو التفكير. ومن أبرز هؤلاء السكان عشيرة المنقوش، لدرجة أن واحدا من أقدم أحياء المدينة يحمل اسم هذه العائلة. وفي هذا الحي رحب عمر وفتحية المنقوش الموظفان في بلدية مصراتة في 4 يوليو 1986، بولادة أصغر أطفالهما الستة، صبي يدعى مجدي.

أثناء ولادة مجدي، كانت ليبيا تحت حكم معمر القذافي لمدة 17 عاما. كان الغرب يعتبره "الولد الشقي" عندما أطاح هو وزملاؤه العسكريون بملك ليبيا في عام 1969 - كان القذافي نفسه لا يتجاوز27 عاما – ويتمتع بشعبية كبيرة بين مواطنيه في السنوات التي تلت الانقلاب. وكان مفتاح هذه الشعبية تماهيه مع جمال عبد الناصر في مصر. مثل عبد الناصر، أوقد القذافي الفخر العربي من خلال تأميم المصالح التجارية الغربية، بما في ذلك أجزاء من صناعة النفط الحيوية في ليبيا، وأبدى المعارضة الشديدة لدولة إسرائيل. وعن طريق نشر الثروة حوله، مكن أيضا أسرا مثل عائلة المنقوش من العيش حياة مريحة للطبقة المتوسطة.

الدولة أيضا لديها ذاكرة طويلة ، كما اكتشف مجدي المنقوش خلال نشأته في مصراتة. في عام 1975، اثنان من أقارب والدته وهي أيضا تحمل اسم المنقوش، وكلاهما من ضباط الجيش من المستوى المتوسط، انضما إلى محاولة انقلاب فاشلة ضد القذافي. ورغم إعدامهما معا، فإن ذلك لا يزيل وصمة عار التي لحقت اسم العائلة.

بحلول يناير من عام 2011، كان مجدي يستكمل سنته الثالثة والأخيرة في كلية القوة الجوية الوطنية، وهي مجمع مترامي الأطراف في جنوب غرب مصراتة، على أمل الحصول على شهادة البكالوريوس في هندسة الاتصالات. كان طيب القلب، سمينا قليلا - ولكن كانت الأكاديمية خيارا سهلا لمجدي، تسمح له بقضاء الإجازات العادية في منزل عائلته، فقط على بعد بضعة أميال، ومع أصدقائه المدنيين. كان هو وزملاؤه الطلاب يتتبعون في دهشة أخبار الاضطرابات في تونس ومصر، ولكن لم يكن أي منهم يربط تلك الاضطرابات بليبيا، ناهيك أن يتصور انتشارها هناك.

وفي مساء يوم السبت 19 فبراير، سمع الطلاب سلسلة أصوات قادمة من داخل المدينة. في البداية، ظنوا أنه قد تكون مفرقعات نارية، ولكن الأصوات اشتدت وغدت أقرب، حتى أدرك الطلبة أنها لإطلاق النار. سريعا أُمِروا بالتجمع في مكان تحت الأرض ، حيث أبلغوا أن جميع الإجازات قد ألغيت. وسرعان ما اعتلت فرق من الجنود بالرشاشات الهيدروليكية أبراج المراقبة التي تحيط بالمجمع ، والتي كانت عادة فارغة أو يشغلها عنصر لا يخفى إحساسه بالملل.

يقول مجدي "عندها أحسسنا أن شيئا كبيرا يحدث"، مضيفا "لم يكن ذلك يشبه أي شيء رأيناه من قبل. ولكن مع ذلك، لا أحد كان يمكنه أن يقول لنا ما يجري".

تمنى مجدي لو أنه يحصل على تفسير عند استئناف الدراسة صباح اليوم التالي، لكن المدربين المدنين لم يظهروا. طوال ذلك اليوم، بقي مجدي في صحبة أعز أصدقائه في الأكاديمية، جلال الدريسي، طالب يبلغ من العمر 23 عاما ، من مدينة بنغازي. وعلى النقيض من مجدي الخجول، كان جلال دائما على استعداد لنكتة أو مقلب. ما كان يتقاسمه الاثنان هو الانبهار بالعلوم والمبتكرات - جلال كان يدرس أسلحة الطيران - وعلى مدار العامين ونصف العام الماضية، لم يكونا ينفصلان. جلال كان يقضي في كثير من الأحيان عطلة نهاية الأسبوع في منزل العائلة المنقوش في مصراتة ، وهو حسن ضيافة رده بالمثل عندما قضى مجدي جزءا من صيف عام 2009 مع عائلة الدريسي في بنغازي.

في بيئة غريبة خالية من الأخبار كانت تخيم على الأكاديمية، كان الشابان يحاولان فك لغز ما كان يحدث.

على مدى اليومين التاليين، كان صوت إطلاق النار خارج الجدران يدوي بشكل متقطع. كان الصوت يقترب في بعض الأحيان، إلا أنه سرعان ما ينحسر. وسيعقب التبادل المكثف بعد فترات طويلة من الهدوء.

شيء من الوضوح ، لاح أخيرا يوم 22 فبراير، عندما خاطب العقيد معمر القذافي، بردائه الزيتوني ، الأمة. في ما أصبح على الفور تقريبا يعرف باسم خطاب زنقة زنقة، وضع اللوم في الاضطرابات الاجتماعية المنتشرة في أنحاء ليبيا على المتآمرين الأجانب و "الجرذان"، وتعهد بتطهير ليبيا "من دار الى دار، بيت بيت ، زنقة زنقة".

ولم يكد ينتهي القذافي من خطابه حتى تصاعد إطلاق النار في مصراتة بشكل ملحوظ. "لقد بدا وكأن قوات الأمن كانت تنتظر أوامر لما يجب القيام به"، يقول مجدي. "بعد الخطاب، كانوا يطلقون النار في كل مكان."

بقي الطلاب تحت الحجر. كانوا محاصرين من قبل جنود خارج أسوار المجمع. مع مرور الأيام وازدياد المعارك بالأسلحة النارية غير المرئية، كان الطلاب يتسكعون حول ثكناتهم يتساءلون عن مصير كل واحد منهم. كان ذلك تقريبا ما يمكن لمجدي المنقوش وجلال الدريسي الحديث عنه. "كنا نجلس معا لساعات ، ونبحث كل التفاصيل الصغيرة"، يقول مجدي.، " ماذا كان يعني ذلك؟ هل كان يعني ذلك أي شيء؟ لكن في بعض الأحيان،  كان علينا أن نتوقف. كان علينا أن نتحدث عن كرة القدم أو الفتيات، أي شيء آخر لتسلية أنفسنا".

انتهى الجهل (النسيان) الغريب في ليلة 25 فبراير، عندما ظهر جنود النخبة من اللواء 32 فجأة في القاعدة ، معلنين أنهم جاءوا من طرابلس لـ "إنقاذ" للطلاب. أمرت القوات الخاصة الطلاب بجمع أغراضهم والذهاب إلى نقطة تجمع على حافة المجمّع حيث كانت الحافلات بانتظارهم.

إلا أن شخصا في اللواء 32 ارتكب خطأ لوجستيا. لنقل 580 طالبا، تم توفير حافلتين فقط . بعد أن غصت الحافلتان، اكتظت الطلاب الزائدون أينما تيسر لهم ، في سيارات جيب وسيارات مصفحة، لتبدأ القافلة تدحرجها ليلا في رحلة طويلة إلى طرابلس.

بعيدا عن قصة "إنقاذهم" من مصراتة، لايبدو حقا أن النظام في طربلس كان يعرف ما يجب القيام به بهؤلاء الشباب. بعد نقلهم في حافلات إلى مجمع مدرسة ثانوية عسكرية شاغرة في الضواحي الجنوبية للمدينة، وُضع الطلاب في قاعات الثكنة والفصول الدراسية الفارغة ولكنهم مُنعوا من مغادرة أو إجراء أي اتصال مع عائلاتهم. وقد تم فرض هذا المرسوم من قبل جنود مسلحين نُشِروا في البوابات.

لكن حدود المدرسة العليا لطرابلس كانت أكثر شفافية من حدود أكاديمية سلاح الجو، وعلم الطلاب من مرافقين لهم تدريجيا عن جانب من الصراع الذي أصاب بلادهم. وقيل لهم إن الاضطرابات الجارية تثيرها عصابات إجرامية ومرتزقة أجانب مأجورون من أعداء ليبيا، قيل لهم، إن شرائح مضلَّلة من السكان انضمت لنشر ذلك وتعميمه. في بداية مارس، كان هذا الإجرام الذي منبعه الخارج على أشده في مصراتة وبنغازي، وأصبحت كلتا المدينتين ساحة معارك ضارية.

مع هذه الرواية، لم يتفاجأ مجدي بتاتا عندما بدأت تظهر الطائرات الحربية للتحالف الغربي في منتصف شهر مارس فوق طرابلس لقصف المنشآت الحكومية. بدا ذلك يؤكد أن الأمة كانت تتعرض لهجوم من الخارج. وبطبيعة الحال، تسبب الوضع أيضا في قلق مجدي وجلال على مصير بلداتهم والتساؤل عن أي من أصدقائهم قد تم استدراجه إلى الانضمام صفوف الخونة ". واضاف مجدي: "هذا شيء تحدثنا عنه كثيرا.....أوه، خالد كان دائما مجنونا قليلا، أراهن انه ذهب معهم. "

بدا الطلاب تدريجيا في كسب ثقة النظام، وهو ما كان كافيا لتحويل مجموعة كبيرة إلى قاعدة عسكرية في منتصف ابريل لبدء التدريب على أنظمة صواريخ موجهة. ولم يتم اختيار لا مجدي ولا جلال لهذه المهمة، ليطول مقامهم في المدرسة الثانوية. وذات يوم في أوائل شهر مايو، ركض مجدي إلى أحد معارفه القدامى في الثكنات. محمد، الآن ضابط استخبارات عسكرية كان يريد التحدث إلى مجدي حول مصراتة. تجاذب الاثنان أطراف الحديث لبعض الوقت، ومحمد يسأل عن مواقع مختلفة في المدينة، وعما إذا كان الطالب الشاب يعرف من هم "قادة المجتمع المدني" في المدينة. نسي مجدي المحادثة، ولكن في وقت لاحق ، بعد أيام قليلة، تمت دعوته ظهرا إلى المقر.

هناك، أبلغ ضابط مجدي بأنه تم اختياره للانضمام إلى طلاب يتدربون على صواريخ موجهة. سيارة الجيب المغادرة إلى القاعدة انطلقت على الفور. لدرجة ان مجدي لم يكن لديه حتى الوقت الكافي ليقول وداعا لجلال.

ولكن سائق سيارة الجيب لم يأخذه إلى قاعدة للجيش. بدلا من ذلك، انتهج الطريق الدائري طرابلس باتجاه الطريق السريع الساحلي ثم التفت شرقا.

في وقت مبكر من المساء، وصلا إلى الدفينية ، آخر مدينة قبل مصراتة وأبعد حدود سيطرة الحكومة. هناك، اقتيد مجدي إلى مزرعة صغيرة، حيث قيل له إن شخصا يريد أن يتحدث معه على الهاتف. وكان محمد، ضابط الاستخبارات العسكرية.

محمد أوضح لطالب سلاح الجو الشاب أنه تم اختياره لـ"مهمة وطنية خاصة": كان عليه التسلل إلى مصراتة ومعرفة من هم قادة التمرد الذين كانوا يعيشون فيها ، وأن ينقل - بعذ ذلك - المعلومات إلى ضابط اتصال سري داخل مصراتة، شخص يدعى أيوب. ولإجراء اتصالات مع أيوب، أعطي لمجدي هاتف ثريا يعمل بالأقمار الصناعية الثريا ورقم للاتصال.

عند سماع كل هذا، راودت مجدي فكرتان. واحدة عن أصدقائه: منذ أن سمع عن نطاق القتال في مصراتة، كان يفترض أن بعض أصدقائه لا بد وأن يكونوا انضموا إلى الجانب الآخر. إذا نفذ هذه المهمة، فإنه قد يؤدي بشكل واضح إلى وفاتهم.

كانت الفكرة الأخرى حول المحادثة الأخيرة بينه وبين جلال. كان صديقه استيقظ على حالة من اليأس والقلق، موضحا أنه رأى حلما رهيبا، واستغرق مجدي بعض الوقت للاقتناع بالتفاصيل. "حلمت أنه تم إرسالنا أنا وأنت للقتال في مصراتة، وأنك قُتلت."

ولكن أي تردد انطفأ بسرعة. في وجوده في طرابلس، كان مجدي سمع فقط ما يريده النظام أن يسمعه، ولكن إذا كان لا يصدق كل ذلك، فإنه يصدق جانبا يكفي لدفعه للمساعدة في هزيمة الأجانب وأتباعهم الذين كانوا يدمرون ليبيا، حتى لو شمل هذا أناسا يعرفهم. ولعل الأهم من ذلك كله، أنه يريد فقط الخروج من هذا الوضع. منذ ما يقرب من ثلاثة أشهر، انقطع عن كل أفراد أسرته والعالم الخارجي، ويريد ببساطة شيئا - أي شيء - أن يحدث. لذلك وافق.

في وقت مبكر من صباح اليوم التالي، ودع مجدي أصحابه في المزرعة وتوجه وحده إلى المنطقة الفاصلة بين المتصارعين. مصراتة على بعد نحو 10 ميلا إلى الشرق. في الجيب الأمامي الأيمن من سرواله كان يحمل بطاقة هوية عسكرية. إذا أوقف من قبل المتمردين، كانت هذه البطاقة في حد ذاتها من غير المرجح أن تسبب له مشاكل. عدد لا يحصى من الجنود الحكوميين انشقوا، وحقيقة أن مجدي كان من مصراتة ستدعم مصداقية شرحه بأنه كان يحاول فقط العودة إلى دياره.

هاتف الثريا في جيبه الأيسر كان مسألة مختلفة جدا. مع حظر الانترنت واتصالات المحمول، أصبحت الثريا وسيلة تواصل عناصر النظام في الميدان، وإذا اكتشف المتمردون الجهاز مع مجدي ، سيخلصون حتما إلى أنه جاء إلى مصراتة كجاسوس. في ظل هذه الظروف، كان الإعدام ربما النتيجة الأكثر رحمة يمكنه أن يتمناها.

ومع تقدمه في السير ، كانت شدة صوت إطلاق النار تزداد، وكان هناك دوي بعيد لانفجارات عرضية من المدفعية. ولكن بين الرياح الخفيفة وتضاريس الجرف الساحلي لمصراتة، كان من المستحيل تماما لمجدي تحديد مدى قرب أي عملية لإطلاق النار أو حتى اتجاهه. حاول أن يضع في اعتباره شيئا تعلمه في التدريب الأساسي، أن الصوت الأكثر إثارة للقلق على ساحة المعركة ليس طلقات نارية بل صوت "فرقعة لينة"، مثل عض الأصابع. الصوت الذي يحدثه الهواء المصاحب لرصاصة، ولا تسمعه إلا عندما تمر رصاصة قريبة من رأسك.

ذاكرة مجدي من تلك الرحلة غامضة. لا يتذكر كم من الوقت استغرقت. ويقدر أنه سار لمدة ثلاث ساعات، ولكن يمكن أن تكون أقصر أو أطول مرتين. لحظة واحدة فقط علقت في ذهنه. في منتصف المسافة تقريبا في جميع أنحاء المنطقة الفاصلة بين المتصارعين ، غمر مجدي فجأة شعور من الفرح على عكس أي وقت مضى من قبل.

"لا أستطيع أن أصف ذلك حقا" ، يقول مجدي: "لم يراودني شعور مثله من قبل، كنت فقط سعيدا جدا، في سلام تام مع كل شيء." صمت لبعض الوقت، يتلمس طريقه للتفسير، وأضاف "أعتقد أنه لأنني كنت في مكان خارج من ظل الآخرين. لم أكن قد خنت أصدقائي بعد، لم أكن قد خنت بلدي حتى الآن - وهذا ما كان ينتظري - طالما بقيت هناك، كنت حرا".

كان أول شخص شهده مجدي المنقوش عند بلوغ المشارف الغربية لمصراتة صبي صغير، ربما يبلع 8 أو 9 أعوام ، يلعب في التراب. جميع المنازل في المنطقة كانت مهجورة وآثار القذائف عليها، ولكنه لاحظ وجود سيارة متوقفة في ظل جدار مزرعة.

"هل والدك هنا؟" سأل مجدي الصبي. "هل تأخذني إلى والدك؟"

في المزرعة، التقى مجدي والد الطفل، وهو رجل في الثلاثين، الذي اندهش على حد سواء مع شكوك عميقة لوجود هذا الغريب في المنطقة الفاصلة بين المتصارعين . كرر مجدي قصة غلاف: إنه انشق عن النظام وكان يحاول الوصول إلى عائلته. وقد ساعده لقبه، الجميع في مصراتة يعرف عشيرة المنقوش. تراجع حذر الرجل ، وعرض على مجدي نقله إلى المدينة.

وبقدر ما سمعه مجدي عن القتال في مسقط رأسه، لم يكن مستعدا للواقع. منذ أواخر فبراير 2011، كانت مصراتة تحت حصار القوات الحكومية بصورة متزايدة ، أصبح سكانها يعتمدون تقريبا كليا على أي نوع من الغذاء والإمدادات الطبية عن طريق البحر. وفي حين أمطرها الجيش بقذائف المدفعية، خاض الجنود معارك زنقة زنقة مع المتمردين، تماما كما وعد القذافي. الحصار خف إلى حد ما مع الضربات الجوية للتحالف الغربي في أواخر شهر مارس، إلا أن الأضرار التي لحقت المدينة كانت مذهلة. في كل مكان ، كان يمكن لمجدي أن يرى مباني قُصفت بقذائف دبابة أو محروقة بنيران ، دمار كبير حتى أنه في بعض الأماكن لم يكن يعرف هوية الشارع أو تقاطع المرور.

أوصل الرجل من المزرعة مجدي إلى منزل عائلته. ويتذكر "لقد عدت للتو من الباب الأمامي". "وكانت أخته أول شخص رآه. ثم كانت هناك زوجة أخيه وأطفال أخيه ". تراجعت دموع مجدي ،"قبل ثلاثة أشهر، ظننت أنني لن أراهم مرة أخرى".

أمضى مجدي بقية ذلك اليوم في كنف عائلته. علم أنه بعد أن أصبح والده في حالة الخطر بسبب مرضه، غادر والداه على متن سفينة إخلاء طبي إلى تونس. وقال إنه علم أيضا أن قائمة "الخونة" المحلية للنظام لم تكن تتشكل فقط من الأصدقاء القدامى، بل امتدت إلى عائلته. في الواقع، احتضن شقيقه محمد، منذ عدة أسابيع، اجتماعا في بيته لمجموعة من الطيارين المنشقين. الجميع، على ما يبدو، قد انضم للثورة وملتزم بها الآن.

خلال هذا التجمع العائلي، كان مجدي يعتذر للذهاب لفترة وجيزة إلى غرفة نومه القديمة. هناك، أخذ الثريا من جيبه وخبأها على رف وراء مجموعة من الأغطية. "لم أكن أعرف بعد ما كنت أنوي القيام به حتى الآن". "كنت أعرف فقط أنه كان علي إخفاء هذا الهاتف."

في الأسبوع التالي، تجول الابن العائد إلى مصراتة في مدينته المهدمة، يجتمع مع الأصدقاء ويعلم من أولئك الذين أصيبوا أو قتلوا في المعركة. في هذه العملية، اكتشف أن كل ما قيل له وما كان يعتقده عن الحرب كان كذبة. لم يكن هناك مجرمون، لم يكن هناك مرتزقة أجانب - على الأقل ليس بين المتمردين. هناك فقط أناس مثل عائلته، يتطلعون للتخلص من النظام.

ولكن هذا الإدراك وضع مجدي في بقعة حساسة جدا. أيوب، ضابط الاتصالات، يعرف بالتأكيد وصوله إلى مصراتة، وكان يتوقع منه أن يقدم تقريرا. راودت مجدي لفترة وجيزة فكرة التخلص ببساطة من الثريا والتصرف وكأن شيئا لم يحدث، ولكن كان يفكر في تداعيات ذلك على عائلته إذا فاز النظام في نهاية المطاف. أو ماذا لو كشف المتمردون خلية تجسس النظام في المدينة وظهر اسمه على السطح؟

وفي مواجهة هذه الاحتمالات، خرج طالب سلاح الجو الشاب بخطة أكثر ذكاء وأكثر خطورة. في منتصف شهر مايو، تقدم إلى المجلس العسكري المحلي للمتمردين وكشف كل شيء. كما كان مجدي يدرك جيدا، أنه ليس رهانا جيدا أن يرمي مقبل على التجسس نفسه تحت رحمة العدو في زمن الحرب - المسار الأنسب للمتمردين هنا أن يسجنوه أو ينفذوا فيه الإعدام- ولكن ضد هذه النتيجة، قدم عرضا جريئا.

في صباح اليوم التالي، اتصل مجدي أخيرا بضابط الاتصالات أيوب، واتفقا على الاجتماع بعد ذلك بيومين في شقة شاغرة في وسط المدينة. في ذلك الاجتماع، اقتحمت مجموعة من القوات الخاصة للمتمردين الشقة، وطرحت الرجلين على الأرض. تم نقل مجدي وأيوب في سيارتين مختلفتين إلى السجن. وعندما أعلن المجلس العسكري للمتمردين إنه استولى على "جاسوسين النظام" في مصراتة، كان مجدي بالفعل في منزل عائلته.

على الرغم من أن "اللدغة" قد أعطت ثمارها تماما، كان هناك خطر في أن تكون عناصر أخرى للنظام على بينة من مهمة مجدي لتصبح النتيجة محفوفة بالمخاطر بالنسبة له خلال أي تحرك في المدينة. استغل الفرصة للذهاب إلى تونس لزيارة والديه.

بالنسبة لمجدي، الذي كان يبلغ حينها 24 عاما، كانت تونس على النقيض - حديثة وسلمية - وبالتالي رحلة أخرى إلى الحيرة. "كانت هادئة جدا، ومستقرة"، يتذكر مجدي "الأمر استغرق مني بعض الوقت للاعتقاد أنه كان حقيقيا."

كان بإمكان مجدي البقاء بسهولة في تونس. ذلك بالتأكيد ما أراده والداه. ولكن بعد بضعة أسابيع، بدأ يقلق، بسبب شعور بأن  دوره في حرب بلاده لم يكتمل. "أعتقد أن جزءا من ذلك كان نوعا من الانتقام. لقد كنت مع الجيش، لكنهم كذبوا علي وتلاعبوا بي. وبطبيعة الحال، كانت الحرب لم تنته بعد؛ كان الناس لا يزالون يقاتلون ويموتون. قلت لوالدي لم يكن لدي أي خيار آخر. اضطررت إلى العودة إلى البلاد".

بعد عودته إلى مصراتة، أصبح مجدي على الفور نشطا مع ميليشيا محلية متمردة ، كتائب ذي قار، للزحف على معقل القذافي في طرابلس. قبل أن يتمكن من ذلك، انهارت القوات الحكومية في العاصمة ، وتراجع الموالون إلى طول ساحل سرت. هناك، بظهورهم إلى البحر، كانوا يشنون يائسين آخر معاركهم. لمدة شهر، سيطرت وحدة مجدي على شطر من الطريق السريع في سرت، وقصفت معاقل النظام وانخرطت في معارك بالأسلحة النارية بين الحين والآخر كلما حاول الجنود المحاصرون للخروج. كما في أماكن أخرى في الحرب الليبية - وكما هو الحال في معظم الحروب، حقيقة - كان القتال في سرت مسألة غير مترابطة على نحو غريب، لحظات من العمل المكثف تليها فترات طويلة من الملل، وبدا لمجدي أن هذا الإيقاع قد يستمر إلى ما لا نهاية.

بدلا من ذلك، انتهى الأمر فجأة في 20 أكتوبر 2011. في ذلك الصباح، اندلع اشتباك عنيف في الجزء الغربي من مدينة سرت، تخللته سلسلة من الغارات الجوية من طائرات التحالف الغربي. من موقعه على الطريق الالتفافية، رأى مجدي أعمدة هائلة من النار والغبار تتصاعد من القنابل المنفجرة في جميع أنحاء المدينة. حول الساعة الثانية بعد الظهر، جاءت موجة مركزة أخرى لإطلاق النار من أسلحة خفيفة من الضواحي الغربية، إحداها استمرت حوالي 20 دقيقة، قبل أن يهدأ الوضع. في البداية، ظن مجدي ورفاقه أن رجال القذافي استسلموا، وبعد ذلك جاءت أفضل الأخبار: القبض على القذافي نفسه وقتله. "كنا نهتف جميعا ونعانق بعضنا البعض"، يقول مجدي، "لأننا كنا نعلم أن ذلك يعني أن الحرب قد انتهت. بعد كل هذا القتل - وبعد 42 عاما من القذافي - يوم جديد قد حان أخيرا في ليبيا".

مع وصول القتال إلى نهايته، عاد مجدي إلى مصراتة وانتقل إلى وحدة ميليشيا أكثر ملاءمة لشخصيته اللطيفة: العمل ضمن طاقم سيارة إسعاف لنقل جرحى الحرب من ذوي الحالات الخطيرة من مستشفيات مصراتة إلى المطار لتلقي العلاج الطبي المتقدم في الخارج. كان يستمتع إلى حد كبير بهذا العمل، وكان يشعره بنوع من الانتعاش بعد كل هذا الموت والدمار، بل ويحصن تفاؤله بشأن المستقبل.

في أحد أيام ديسمبر في مطار مصراتة، استقبل مجدي زائرا. كان سامح الدريسي، الأخ الأكبر لصديقه جلال، وكان قد سافر 500 ميلا من بنغازي ليطلب معروفا. كانت الثورة الليبية انتهت قبل شهرين، ولكن آخر مرة سمع فيها أي شخص في عائلة الدريسي من جلال كانت في مايو الماضي. وكان هذا الاتصال مكالمة هاتفية قصيرة من مدرسة طرابلس الثانوية حيث تم عزل طلاب القوات الجوية، وأنها جاءت بعد أيام فقط من بدء مجدي مهمته التجسسية في مصراتة.

تغيير مسار مرة أخرى، انطلق مجدي للبحث عن صديقه المفقود بمثابرة تصل حد الهوس. في طرابلس، أمضى أسابيع يتعقب بعضا من زملاء الدراسة السابقين في الأكاديمية، ومنهم من كان قادرا على فك جزء من الغموض. في مايو 2011، كان جلال ضمن مجموعة من نحو 50 طالبا تم تجميعهم وقيل لهم إنهم يرسلون لمساعدة القوات في خط المواجهة أثناء تقدمهم نحو مصراتة، والتحقق من الألغام وحراسة خطوط الاتصالات والإمدادات.

بدلا من ذلك، تم استخدام الطلبة كطعم هناك، أُرسلوا عبر أرض مفتوحة لتطلق عليهم النار ويقصفون، في حين جلس جنود النظام المتمرسون يراقبون مرة أخرى مصادر نيران العدو. وبينما كان الطلاب يسقطون واحدا تلو الآخر في هذه المهمة الانتحارية، تمكن جلال واثنان من رفاقه من الوصول إلى مزرعة نائية، حيث توسلوا مزارعا نقلهم إلى الجنوب، بعيدا عن ساحة المعركة. بدلا من ذلك، خان المزارع الطلاب وسلمهم لقوات الأمن الداخلي.

بعد فترة وجيزة، قام رفيقا جلال بمحاولة هروب ثانية - هذه المرة بنجاح - ولكن ، جلال كان قد تم نقله إلى جزء آخر من الجبهة.

هذا الأمر جعل مجدي ينطلق في بحث جديد. وجد أخيرا زميلا سابقا آخر ليكمل له القصة. ذات يوم في شهر يونيو، كلف أحد الضباط مجموعة صغيرة من الطلبة بتقرير - على طول طريق زراعي في ضواحي جنوب مصراتة . في تلك اللحظة نفسها انطلق صاروخ من طائرة حربية للتحالف الغربي أو من طائرة بدون طيار ، لتنسف سيارة الضابط، مما أدى إلى مقتله على الفور ومعظم الطلاب الذين كانوا يقفون في مكان قريب. جلال الذي كان جالسا تحت شجرة حوالي 50 ياردة، طالته شظية مزقت الجزء العلوي من رأسه. من تبقى من الرفاق على قيد الحياة دفنوا الموتى في مقبرة مجهولة.

ويذكر مجدي: "بالطبع تذكرت الحلم الذي رآه.. نعم، كنا معا إلى مصراتة للقتال، ولكنه هو الذي مات."

بالنسبة لمعظم الناس، كان هذا يعني وضع حد للبحث، ولكن ليس بالنسبة لمجدي. وهو يتذكر اللحظات التي قضاها مع عائلة جلال في بنغازي، والحفاوة التي أبداها أفرادها، عقد العزم على إيجاد جثة صديقه لإعادتها إلى عائلته. بعد طرق أبواب عدد لا يعد ولا يحصى من الموظفين في الحكومة الثورية الجديدة، وجهوه في النهاية إلى مقبرة طرابلس حيث جُمع ودُفن "الخونة" - وهذا هو المصطلح الذي كان يستخدم لوصف، الموالين لنظام القذافي.

كانت منطقة قاتمة تملؤها القمامة وتتخللها مئات القبور. مجدي مر بشكل منهجي عبر كل صف، ولكنه لم يعثر على اسم جلال. وأخيرا، رأى في الزاوية البعيدة من المقبرة قبرا كتب عليه "مجهول" .. شعر مجدي ببعض الإثارة، لأنه اعتقد أن جرح جلال الغائر على مستوى الرأس ، ربما جعل من المستحيل التعرف عليه - ولكن لاحظ بعد ذلك أكثر من ثلاثة قبور مع نفس علامات "غير معروف". وبالرجوع إلى مكتب المقبرة، طلب الصور التي التقطت للجثث مجهولة الهوية قبل الدفن: وجوه أربعة تضررت بشكل فظيع يصعب التعرف عليها.

ومع ذلك، كان مجدي الآن مقتنعا بأن واحدة من الصور الأربع هي لجلال. أخبر عائلة الدريسي وبعد عدة أشهر ذهب إلى بنغازي لتقديم العزاء شخصيا. "كان لقاء عاطفيا جدا" قال مجدي ،"اعتذرت لهم عن عدم تمكني من الاعتناء بجلال"، انخرط في نوبة حزن عميقة  قبل أن يقول بشكل مفاجئ : "جلال كان في واحد من تلك القبور الأربعة، هذا أمر مؤكد ".

خلال سعيه لمعرفة مصير أفضل صديق له، توقف مجدي على مأساة أكبر بأبعاد كثيرة. كل جانب في الثورة الليبية، على ما يبدو، اتخذ منعطفات بقتل طلاب القوات الجوية الشباب. وكما هو الحال في حالة جلال، استخدمت قوات القذافي البعض كطعم ضد المتمردين، ولكنها أعدمت أيضا الآخرين لمجرد محاولتهم العودة إلى ديارهم. في المقابل، فإن المتمردين، بعد مقتل العديد من الطلاب في ساحة المعركة، أعدموا "في فورة النصر" عددا أكثر ولا يحصى بتهمة "الموالين للنظام".

في أوائل عام 2012، كان يحتجز عشرات من الطلبة الذين نجوا من إراقة الدماء الجماعية داخل السجون الثورية، فيما كان العديدون يعيشون في الخفاء. من أصل ما يقرب من 580 من زملائه في أكاديمية القوات الجوية في مصراتة، يقدر مجدي أن ما بين 150 و 200 قتلوا خلال الحرب وتداعياتها الفورية.

وأضاف مجدي "كنا طلابا فقط"، هذا كل ما كنا. استخدمنا كلا الجانبين. ذبحنا الجانبان".

على الرغم من كل هذا، كان مجدي في البداية متفائلا جدا بشأن المستقبل في مرحلة ما بعد الثورة في ليبيا. كان دولة نفطية، والناس أذكياء، بعد 42 عاما من حكم العقيد معمر القذافي، والإرادة من أجل حياة أفضل. في رأيه، كانت أول زلة كبيرة للحكومة المؤقتة في طرابلس والمجلس الوطني الانتقالي، إعلانها أنها ستدفع رواتب لجميع أولئك الذين قاتلوا ضد نظام القذافي. في غضون أسابيع، ارتفع عدد "الثوار" - مما يقرب من 20،000 على أبعد تقدير - إلى حوالي 250،000.

والأسوأ من ذلك، أن بنية التعويض، خلقت حافزا لدى الجماعات المسلحة الجديدة ليس فقط للتشكل ولكن لكي تبقى مستقلة عن أي قيادة مركزية، لأن ذلك يجعلها في موقف أفضل للمطالبة بنصيبها من كعكة التعويض . بالفعل وبحلول نهاية عام 2012، كانت الميليشيات الليبية - بعضها يتكون من قدامى محاربين حقيقيين، والبعض الآخر مجرد عصابات قبلية أو إجرامية - بدأت تحول البلاد إلى إقطاعيات متناحرة، وقدرتهم على القيام بذلك مُولت تحديدا من قبل الحكومة المركزية التي كانوا يعملون على تقويضها .

حالة عدم الاستقرار توضحت بشكل مؤلم لإدارة أوباما عندما هوجم المجمع الدبلوماسي الأميركي في بنغازي في سبتمبر 2012، مما أدى إلى مقتل السفير كريستفر ستيفنز وثلاثة آخرين. ولكن بالنسبة لمجدي، اتخذت خيبة الأمل الأخيرة شكلا أكثر شخصيا. في خريف عام 2012، حصل على "دبلوم" من أكاديمية سلاح الجو، يؤكد أنه أكمل بنجاح جميع المتطلبات للحصول على دبلوم في هندسة الاتصالات.

"أنا لم أكمل أي شيء"، يقول مجدي. "كانت هناك دروس لمدة عام ونصف، لذلك كانت هذه الورقة لا معنى لها على الإطلاق. ولكن هذه هي ليبيا الجديدة: كان كل شيء مجرد أكاذيب وفساد. وربما شعرت بذلك أكثر بسبب ما عانيته وجميع أصدقائي في الأكاديمية الذين قتلوا، ولكن أنا فقط لا يمكن أن أقبل ذلك. "خذ الورقة. لا أحد يجب أن يعرف. سمِّ نفسك مهندسا". ربما شعر آخرون بطريقة مختلفة، أو يفكرون فيها من الناحية السياسية، ولكن "عندما استلمت الدبلوم اعتبرت أن الثورة تعرضت للخيانة، أن ليبيا كانت دولة فاشلة."

واجه مجدي خيارا قاسيا: كان يمكنه أن يستخدم الدبلوم الصوري للالتحاق بإحدى الوظائف الحكومية ، أو أن يبدأ من جديد. وفي العام التالي، التحق بجامعة مصراتة لدراسة الهندسة. وفي الوقت الذي بدأ الدراسة مرة أخرى ، انضم مجدي إلى مجموعة بيئية مقرها في طرابلس وتدعى محبي الشجرة. كان يحب نشاطها إلى درجة أنه ساعد على فتح فرع مصراتة. ورغم شح المال والإمدادات، زرع مجدي وغيره من المتطوعين الزهور والشجيرات في المدينة وسعوا إلى رفع مستوى الوعي حول أهمية الحفاظ على الغطاء النباتي القليل جدا في ليبيا. وأضاف مجدي أن "التصحر ينتشر في الكثير من الأماكن في ليبيا، والطريقة الوحيدة لوقف ذلك هو بالأشجار".

ولكن قد يكون هناك دافع شخصي أكثر في عمل مجدي. واحدة من أكثر الظواهر المثيرة للاهتمام الملحوظة بين الجنود السابقين تقريبا في جميع أنحاء العالم هو رغبتهم في العزلة، وأن يكونوا في الطبيعة، وعندما زرته في مصراتة، كان مجدي حريصا على أن يريني الأماكن التي يشتغل فيها زملاؤه البيئيون. ذات صباح باكر، سافرنا من مصراتة إلى الحقول الزراعية والقرى الصغيرة في الضواحي الجنوبية للمدينة.

"غابة" مجدي لم تكن أكثر من بضعة صفوف من أشجار الصنوبر الهزيلة على جانب أحد الطرق الزراعية، مع قمامة متناثرة حول متنزهين مهملين، لكنه كان فخورا جدا بها. وهو يتفادى القمامة، كان يتنقل بتمهل بين الأشجار ويتنفس بعمق رائحة الصنوبر مع ابتسامة تبدو عليها علامات الرضا.

خلاصة

بعد 16 أشهر من السفر في منطقة الشرق الأوسط، أجد أنه من المستحيل التنبؤ بما قد يحدث بعد ذلك، ناهيك عن تلخيص ماذا يعني كل هذا. في أي مكان ذهبت إليه مع باولو بيليغرين ، يبدو الوضع اليوم أسوأ مما كان عليه عندما بدأنا: تعمق القمع من قبل نظام السيسي في مصر. أوقعت الحرب في سوريا عشرات آلاف القتلى الإضافيين. وبالإضافة إلى مشاكلها الأخرى ، ليبيا تندفع الآن نحو الإفلاس. إذا كانت هناك نقطة واحدة مضيئة على الخريطة، فهي التحالف الدولي الملتزم والصارم على ما يبدو والذي يعمل الآن على التدمير النهائي لداعش.

ومع ذلك، أتذكر شيئا قاله لي مجد إبراهيم :"داعش ليس مجرد منظمة، إنها فكرة" . هو أيضا نوع من القبيلة، وبطبيعة الحال، إذا تم تدمير هذا التجسد، فإن الظروف التي خلقت داعش سوف تظل بين جيل من الشبان الساخطين وبلا مستقبل، مثل وكاز حسن، الذين يشعرون بالقوة والانتماء في التقاط بندقية. باختصار، لا شيء أفضل سيحصل في أي وقت قريب.

على مستوى فلسفي أكثر، ساعدت هذه الرحلة في تذكيري مرة أخرى بمدى حساسية نسيج الحضارة، وباليقظة اللازمة لحمايته وبالعمل المضني لإصلاحه إذا تم تمزيقه. هذه بالكاد فكرة أصلية؛ وهو الدرس الذي كان من المفترض أن نتعلمه بعد ألمانيا النازية، وبعد البوسنة ورواندا. ربما هو الدرس الذي تحتاج أن نتعلمه باستمرار.

في ليبيا، يواصل مجدي المنقوش الدراسات الهندسية له، ولكن بتفكيره في الفوضى التي تجتاح وطنه، تحول إلى فكرة جديدة: استعادة النظام الملكي الذي اطاح به القذافي في عام 1969. "ليس لأنه سيحل جميع مشاكلنا " يقول مجدي "ولكن على الأقل مع الملك، كنا أمة ". ومهما حدث في ليبيا، قال إنه ملتزم بالعمل على تحسينها. "وأنا على استعداد لنوع جديد من عدم اليقين".

 

*بقلم سكوت أندرسون

**بوابة افريقيا الإخبارية غير مسؤولة عن مضامين الأخبار والتقارير والمقالات المترجمة