هل من الممكن وضع سياسة اقتصادية دون سياسة تنموية اجتماعية؟ إذا طرحنا هذا السؤال على السياسيين، فسيكون جوابهم بالتأكيد هو النفي، لأن الهدف الرئيسي من أي سياسة اقتصادية هو ضمان حياة كريمة للمواطنين. فالغرض من العمل الاقتصادي للحكومات هو التماسك الاجتماعي. ومنطقياً، يمكن اعتبار السياسة الاقتصادية برمتها مكوناً من مكونات السياسة الاجتماعية، فالجهود المبذولة لزيادة الكفاءة والنمو الاقتصادي، وتحقيق التوظيف الكامل واستقرار الأسعار، وما إلى ذلك، تهدف في نهاية المطاف إلى تحسين الظروف المعيشية للمواطن المغاربي.

وللظرفية الراهنة التي تعيشها بلداننا المغاربية، بعدين مهمين جداً، أحدهما داخلي، وهو يكمن في حاجة مجتمعاتنا الملحة لتعزيز جوانب مهمة في التنمية الاجتماعية التي تمس كينونته البشرية بالدرجة الأولى، وقد ظهرت فعلا مجموعة اختلالات كبيرة تمس أمنننا الاجتماعي، وقد تنتقل سريعاً لتمس الأمن الشامل، وهو ما تم استدراكه عبر قلب تلك المعادلة بعد أن تركزت جهود دولنا على البنية الأساسية طوال العقود الماضية، وبالتالي، فإن التوجه الجديد، يدخل في السياقات الطبيعة للتنمية في البلدان المغاربية. والثاني، خارجي، وهو يتداخل مع ما يحدث داخل محيطنا العربي من إكراهات حقيقية ضاغطة على أنظمتها تحت شرعية فقدان الحق في المآكل والمشرب والعمل... أي تلك التي تمس الوضع المعيشي للناس، ليس مهماً هنا أن يتم تفسير البعد الثاني، بأنه وراء التحول الجديد في بلداننا أو أن يكون وراءه ضرورات التنمية في سياق تطورها التاريخي، أو يكون وراءه البعدين معاً، الأهم، أن التحول قد جاء في توقيته الزمني المناسب والملائم للبعدين معاً، والأهم كذلك، أن يدرك القائمين على التطبيق، خلفيات البعدين، واحتمالات تداعياتهما، وذلك بغية العمل بوعي كبير على عدم تلاقيهما، وتداخلاهما خلال المرحلتين الراهنة والمقبلة التي تمر بهما بلداننا.

والتساؤل الذي يطرح نفسه هنا هو: هل كل المعنيين بعملية تطبيق هذا التوجه، مؤهلين لهذه المسئولية الوطنية؟

تساؤل نطرحه في ضوء التجربة في تطبيق الإصلاحات الكبيرة التي عرفتها بلداننا في مختلف القطاعات، السياسية، والديمقراطية، والاقتصادية والاجتماعية، فهي تجربة مليئة بالملاحظات الكبيرة التي تحول دون وصول استحقاقاتها كاملة للمواطنين، ومن خلالها، نجزم يقيناً، بأن هناك في مواقع مهمة جداً وحساسة جداً، فاعلين نضع تحتهما خطوط عريضة، سوف يعرقلون مسيرة التنمية الاجتماعية الجديدة، ربما يكون السبب في عدم صلاحيتهم للمرحلة الجديدة، لأنهم لن يتمكنوا من تحرير أنفسهم من تبعات المرحلة الاقتصادية الماضية التي أنتجتهم برؤى ومفاهيم اقتصادية بحتة، وسوف يظلون أوفياء لها بامتياز، رغم أن المطلوب منهم الآن بعد تلك التوجهات الطارئة التركيز على التنمية الاجتماعية من تلك الأبعاد الاجتماعية والإنسانية، أو على الأقل إيجاد التوازن الطبيعي بين البنية الأساسية والتنمية الاجتماعية، ولن يتمكنوا حتى من ذلك، بسبب برمجتهم الاقتصادية الخالصة.

وبما أن التنمية الاجتماعية تعد محطة العبور لمجابهة التطورات السريعة يوما بعد يوم، والتي تضمن الاستقلالية الاقتصادية والاجتماعية والتقنية للهروب من الركود المجحف الذي يهدد العديد من الدول بسبب اعتمادها على مصدر دخل محدود، لذلك تُعد تنمية شاملة لجميع المجالات والجوانب التي تقوم عليها أعمدة بلداننا لتفادي السير خلف سياسة القطيع، والتقليد الأعمى لخطط تنموية مجتذبة من بيئات مختلفة دون النظر لجوهر الاحتياجات لذات المنظومة على حد قول الإمام محمد الشافعي رحمه الله (المغلوب دوما مولع بتقليد الغالِب). وهذا ما يستوجب التنبيه إليه صراحة، ويستوجب القول، بأن كل مرحلة تنموية جديدة، تحتاج لفريق عمل جديد يؤمن بمنطلقاتها وغاياتها حتى يدافع عنها بإيمان وقناعات وطنية، وليس الاحتفاظ بشخصيات من نفس الفريق الذي جاء أصلاً لمرحلة البنية الأساسية التي استنزفت معظم موارد دولنا، وحتى عملية إعادة تأهيلهم لن تجدي نفعاً، لأنه لا يمكن مسح البرمجيات (الأدوار والتبعيات) من ذاكرتهم الاقتصادية الخالصة، وهناك شواهد كثيرة يمكن الاستدلال بها هنا، وكل من أراد أن يقف على هذه الحقيقة عليه أن يبحث عن أسباب عن عدم الرضى الاجتماعي من تطبيق الإصلاحات التنموية المغاربية رغم أنها إصلاحات لو عرفت النور كلها لما برز لنا الآن قلقنا المرتفع من تطبيق التوجهات والتوجيهات الجديدة.

علينا أن نعترف، أنّ هذا (الفريق) غير مهيئ للعمل من أجل التنمية الاجتماعية، لأنها أي التنمية الاجتماعية ليس وراءها مصالح اقتصادية للوبيات التي صنعتهم خلال الحقب الوزارية السابقة التي غادرت مواقعها مجبرة لا مختارة، صحيح أنها غادرت الوظيفة من الأبواب الرئيسية، لكن تأثيرها موجود وجاثم على هذه المرحلة، ولها الآن أبناء أوفياء يعملون في المواقع نيابة عنها، قد زرعتهم في مواقع وظيفية مهمة، وهنا سوف تكمن معضلة التنمية الاجتماعية في بلداننا في توجهاتها الجديدة، لأنهم سوف يقفون بكل ما أوتوا من قوة الحجة للعرقلة وليس لإزاحة المعوقات، وسوف يلجؤون إلى صناعة الحجج وتمتين قوتها الوهمية ضد مسارات اجتماعية عاجلة تلح عليها مصلحة بلداننا العليا، وهم بتلك البرمجية الاليكترونية سوف يدخلون بلداننا في متاهات الظرفية المفتوحة الاحتمالات...

لن يكون أمامنا من خيار سوى تعزيز التنمية الاجتماعية في مفاصلها التي ترفع من مستوى المعيشي للمواطنين، وبناء على ذلك أستدل بتجربة دولة سنغافورة كمثال حيٍّ وخصب في تطبيق مفهوم التنمية الاجتماعية بطريقة فذَّة استطاعت من خلالها بناء كيان دولي ينافس الدول المتقدمة في الشرق الأوسط مثل ماليزيا واليابان والصين. وبالرغم من تنوع البناء الاجتماعي، إلا أن الاستراتيجيات الموضوعة كانت محور التغير في سنغافورة عبر استغلال الخبرات البشرية المتنوعة في شرائح المجتمع ممَّن تلقوا تعليما متينا لبناء الدعائم الأساسية للتنمية. وبالرغم من شح الموارد الطبيعية، إلا أن عجلة التنمية لم تتوقف، بل صنعت توجهات أخرى ساهمت في ازدهار الجانب الاقتصادي لاحقا، منها الصناعات الإلكترونية والسيارات واستثمار القطاع السياحي والخدمي. ويتضح لنا أهمية إعمال القطاعات المساهمة في مسيرة التنمية الشاملة التي كان أساسها التنمية الاجتماعية، حيث بلغت معدلات النمو الاقتصادي لعام 2017 قرابة 3.6 في المائة. ويطول الحديث ويتشعب في أطر متنوعة لعملية التنمية الشاملة في سنغافورة التي تبرهن نجاح عجلة التنمية الاجتماعية في بناء كيان مستقل يوازي مصاف الدول المتقدمة، علما أن سنغافورة كانت على حافة الانهيار والفقر.

إن رفعة البلدان المغاربية وتقدمها لا يتأتى من دون تغير البناء الاجتماعي لتدارك واقع التنمية الاجتماعية، وعليه، يجب وضع سياسات اجتماعية تحقق التوازن بين الرؤية الاقتصادية والاجتماعية، من أجل توزيع منصف لجميع المواطنين لثمار النمو الاقتصادي، ولضمان نجاح هذه السياسات الاجتماعية، لابد أن تتركز الأهداف التفصيلية على ما يلي:

أ‌- تجديد وتطوير التعليم في الدول المغاربية من أجل الحصول على مخرجات قادرة على مواكبة التقدم والتطور الذي يشهده العالم حاليا وضمان أن تخدم سوق العمل.
ب‌- الاستمرار في مكافحة الفساد بكافة أشكاله.
ج- تطوير خدمة الاتصالات وجعلها متاحة للجميع وبأسعار مقبولة.
د- الابتعاد عن البيروقراطية واللامركزية وإعطاء الشباب الفرصة من أجل إبراز طاقاتهم ومهاراتهم ومشاركتهم في اقتراح البرامج والمشاريع.
ه- تقديم التسهيلات والدعم للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة ومحاربة التجارة الغير المهيكلة بشتى الطرق.
و- فتح حوار مباشر وشفاف مع الشباب المغاربي لمعرفة احتياجاتهم ومقترحاتهم.
ز- غرس الانتماء وحب الأوطان لدى الشباب المغاربي.
ح- بناء الثقة بين الحكومة والمواطن من خلال اقتران الأقوال بالأفعال.

إذن، لا مجال للبطء في تعزيز التنمية الاجتماعية في مفاصلها المهمة ببلداننا المغاربية، ولا مكان لمن لا يؤمن بضرورة تحسين مستوى معيشة المواطنين، لأنه يغرد بعيداً خارج الفكر السياسي والاجتماعي... وفي ظل جائحة كورونا، والأوضاع الاقتصادية الحالية... نأمل ألا تكون إعادة ترتيب الأوليات على حساب التنمية الاجتماعية، كما نأمل أن تصبح السياسات الاجتماعية المغاربية، ركيزة لتنمية القدرات البشرية للإنسان المغاربي بما يمكنه من توسيع مجال الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية المتاحة في إطار نظام متكامل، يتسم بالعدالة والاستمرارية بما يعزز من قدرات المواطن المغاربي، الذي هو أداة التنمية الاجتماعية وهدفها.

كاتب صحافي من المغرب.