"تي شيرت" وبنطال من الجينز وحذاء بلاستيكي.. ذلك كلّ ما يضعه "هادى محمد" على جسده النحيل من ملابس.. هادي..لاجئ مالي بالنيجر في الثانية والعشرين من عمره، يتقلّد مهام رئيس لجنة اللاجئين الشباب.. ومعغروب شمس كلّ يوم، يقوم "هدى" بتجميع الشباب المالي لإحصاء مشاكله بهدف رفعها فيما بعد إلى المسؤولين عن مخيّم "مانغايزي" الواقع على بعد 145 كيلومتر من "نيامي" عاصمة النيجر..
هو كغيره من أبناء وطنه وجيرانه يحلم بمعانقة طريق العودة إلى مالي يوما ما، للانضمام إلى الأربعة آلاف لاجئ الذين فضلوا الرجوع، وفقا لبيانات المفوضية العليا لللاجئين التابعة للأمم المتحدة.حكاية "هادى" تحمل في تفاصيلها الكثير من الشجن والمحن.. فاجترار ما حدث معه خلال أزم الصراع المسلح الذي شهده شمال مالي العامين الماضيين، يوقظ بداخله "ذكريات أليمة" ، كما يروي للاناضول... قبل ذلك، كان يتابع دراسته الجامعية في اختصاص الآداب بجامعة مدينة "كيدال" شماالي ، ثمّ كان عليه أن يتخلّى عن دروسه لنجدة والديه العالقين بمدينة "ميناكا" بمنطقة "غاو". في شمال البلاد ايضا حيث اندلعت الحرب على الجماعات المتشددة إثر التدخل الفرنسي العسكري العام الماضي.
ويتذكر هادي: "حين وصلت غاو لم أعثر سوى على"ركام المباني، حيث اختفى كلّ شيء بما في ذلك والديّ".. "كان علي مغادرة البلاد نحو مدينة "بانيبانغو" الواقعة على بعد حوالي 200 كيلومتر شمالي غرب العاصمة النيجرية نيامي.. وهناك، عثرت على والديّ." يكمل الشاب. هادي ينتظر اليوم كغيره من أقرانه الحصول على مساعدة بغية العودة إلى مالي ومتابعة دروسه.. وأمثاله كثيرون ممّن وصلو النيجر في ظلّ ظروف صعبة للغاية..
"أميناتا واليت" في السابعة والخمسين من عمرها.. كانت تعمل قبل اندلاع الأزمة في مالي في مجال محو الأمّية، غير أنّها تضطلع في الوقت الراهن بمسؤولية لجنة شكاوى اللاجئين بمخيّم "مانغايزي" بالنيجر..قالت وهي تروي حكاية وصولها إلى ذلك المكان "كان عليّ المجيء عبر وسائل النقل العامة".. أمانيها مسقوفة بحدّ أدنى لا يتجاوز "المشاركة في الانتخابات المحلية المقرّر إجراؤها في مالي في أكتوبر/ تشرين الأولالقادم".
وغير بعيد عنها، امتدّ جسد شيخ في السابعة والخمسين من عمره على حصيرة بالية، يتأمّل السماء من خلال الشقوق الواسعة للسقيفة المؤقّتة التي صنعها درءا للحرّ.. نظرات تائهة تبحث عن نهاية لأحزان صاحبها..هو مزارع وتاجر في الآن ذاته، بيد أنّ الأوضاع حتّمت عليه ترك كلّ شيء والفرار طلبا للبقاء.. بصوت متقطّع واهن قال "أريد العودة لأزرع الأراضي التي تركتها، وأعتقد أنّ الوقت يباغتني، فالموسم الفلاحي علىالأبواب.."
تمكّنت المفوضية العليا لللاجئين العام الماضي 2013 من إجلاء 3396 شخصا من أصل 50 الف و429 لاجئ مالي بالنيجر. في حين أعلن مكتب المفوضية العليا للاجئين بالنيجر عن عودة 560 لاجئ إلى الوطن (مالي)، وذلك خلال شهري يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط من السنة الحالية.
وفي الأثناء، تواصل المفوضية تقديم الخدمات الحياتية الأساسية لللاجئين، في محاولة لتخفيف معاناة الذين لم يتمكّنوا من العودة بعد نتيجة لعدم قناعتهم باستقرار الأوضاع تمام في شمال مالي.وأمام مكتب المفوضية العليا لللاجئين بالعاصمة النيجرية، يصطفّ عدد من الرجال في انتظار الحصول على مساعدات مادية او عينية تمكّنهم من كسب أيّ شيء.المكلّفة بالعلاقات الخارجية بمكتب المفوضية بـ "نيامي"، "أماريا بلاسكري" ، قالت للاناضول: "قمنا بتوزيع الحيوانات، ومساعدة الحرفيين على افتتاح ورش حرفية"، مضيفة "كما شجعنا النساء على ممارسة أنشطة من شأنها أن تدرّ عليهن يعض المداخيل".
برامج أخرى وضعت حيّز التنفيذ في إطار تشجيع اللاجئين على كسب عيشهم.. "فانكا أكيلي" حصل على عمل كحارس للمخيم الذي يقيم فيه، ويحصل لقاء ذلك على مرتّب شهري، وهو ما مكّنه من "ابتياع بعض الماعز وتربيتها في المخيم". واليوم لديه قطيع صغير يبعث على الفخر على حدّ قوله..كما وضعت المفوضية العليا للاجئين على ذمة سكان المخيم قطعة أرض صالحة لزراعة الطماطم والخس وغيرها من الخضر الموسمية..
وفي خضمّ ذلك الحراك الذي يسري بين اللاجئين طيلة يومهم لكسب عيشهم، يتجمّع أغلبهم، مساء، ضمن حلقات يتجاذبون خلالها الحديث طلبا لأنباء عن الوطن.. وتقصد الجماعة كلّما لفحها لهيب الحنين "عبدولاي إيمادان" اللاجئ الذي يتمتّع "بظروف إقامة مريحة" مقارنة بالبقية.. فباكتمال عدد اللاجئين حوله، تتوارى أيادي "إيمادان" في أمتعته لتخرج محمّلة بجهاز تلفزيون، يقوم بوصله بطبق للأقمار الصناعية، قبل أن يتعالى منه صوت جهوري ينقل أخبار مالي.. في ذلك المخيّم لا شيء يسير في نسق تصاعدي غير تتبّع نشرات الأخبار.. "ابراهيم إيواكان" قال معقّبا "تتبّع الأخبار يمنحني إحساسا بأنّني في الوطن من جديد"، فهي "تجعلنا على علم بكلّ ما يحدث في البلاد لكن الاخبار لا تشجعنا على العودة فالوضع لا زال متوترا في الشمال". يحصل كلّ لاجئ بالمخيّم على مبلغ 15 دولارا في الشهر، بغرض تأمين غذائه.."منحة مجرّدة من معناها"، بحسب "أميناتا". وفي هذا السياق، قالت المكلفة بالشؤون الخارجية بمكتب المفوضية العليا للاجئين بنيامي أنّ "الجميع يحصل على هذه المنحة، بما في ذلك الأطفال الرضّع".
رغم الحنين الذي يهزّ اللاجئين لوطنهم، ورغم صعوبة تأمين الحياة في تلك الأماكن، لا تلوح في الأفق بوادر انفراج قريب.. ولهذا، لا تتوقّع "أماريا بلاسكري" "غلق مخيم اللاجئين بالنيجر رغم مغادرة عدد منهم، وتوق آخرين للالتحاق بهم". فقرار مماثل لا يمكن أن يتبلور إلاّ في صورة ايجاد حلول دائمة تتبلور سواء بإجلاء اللاجئين إلى وطنهم، أو إدماجهم محليا، أو إعادة توطينهم في مكان آخر.. و"هذا ما لن يحدث، على الأقلّ في الوقت الراهن" وفقا لـ " بلاسكري".مأساة أخر يتمّ تصديرها إلى البلدان المجاورة لبؤر التوتّر في القارة الافريقية.. فاندلاع الأزمة بمالي في مارس/ آذار 2012 دفع بالسكان إلى الهرب طلبا لظروف أمنية أوفر.. غير أنّ سوء الأوضاع الانسانية فيالمخيمات المخصّصة لإقامتهم بدول الاستقبال الفقيرة تطرح تساؤلات عديدة بشأن مستقبل أولئك اللاجئين.