حين تناهى إلى آذاننا وعقولنا ما جري من تخريب وتشويه لأحد معالمنا الثقافية التي دخلت الوجدان الإنساني، شعرنا بحزن شديد يحاصرنا من كل حدب وصوب... تمثال ابن خلدون الذي يحمل قيمة ثقافية وتاريخية امتدت يد العابثين إليه، وقاموا بتشويه النصب الحامل لتمثال هذا العالم والفيلسوف ورجل الدولة ومؤسس علم الاجتماع... حيث تعرض التمثال /الرمز، في تونس السبت 06/03/2021، لأعمال تخريب، وكتابة عدد من الشتائم والشعارات على جدرانه، وتداول عدد من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي صورا للتمثال، بعد أن وضع المحتجون عليه رسومات وشعارات... وأثار هذا الاعتداء موجة استنكار واسعة في تونس، دفعت عددا من السياسيين والنشطاء للمطالبة بمحاسبة من ارتكب هذا الجرم الشنيع.
للحدث دلالات كبيرة وهامة، نحن الذين تربينا على تاريخ وفلسفة وفكر هذا العالم الجليل، بتنا نخشى على رؤوسنا للتفتيش فيها عن أي أثر لابن خلدون، أو المتنبي، وأبي فراس الحمداني، وبشار بن برد، وأبي تمام، وعنترة، وامرىء القيس، أو عن فكر أي مجتهد بالدين، والفكر الثقافي، والأدبي، والسياسي، أو عن أي شيء يربطنا بالتاريخ... فما معنى أن يشوه ويعبث بتمثال ابن خلدون؟!

للأسف المأسوف على شبابه، فقد أصبح تخريب وتشويه الرموز ظاهرة مستجدة تأتي إلى المجتمعات العربية في الوقت الصعب الذي تنهار فيه أسوار الدول ليسهل اجتياحها... رموز فكرية، أو وطنية، أو تاريخية، أو سياسية، أو حتى دينية باتت في دائرة الاتهام لتُحاكم من جديد في محاولة لإسقاطها من مكانتها أولاً، ومن الذاكرة ثانياً بعد التشكيك بها، وطمس معالم صورتها الحقيقية... والحجج في سبيل تحقيق ذلك باهتة، وهشة، ولو وضعت في ميزان المنطق لسقطت قبل أن توزن... لكنها في واقع الأمر تقوم بدورها الهدام، ولتتحول المجتمعات بعد ذلك بفعلها إلى تجمعات بشرية لا ذاكرة لها بعد أن فقدت رموزها التي نبعت منها، وعبّرت عنها... فلا هوية، ولا وجه، ولا صفة تميّز بعد غياب ثوابت الأمة.‏

إن تشويه وتخريب الرموز سواء كانت بشرية، أم حجرية إنما هو تحطيم لروح من آمن بها... وتهديم بالتالي لقواه المعنوية حتى لا يكون قادراً على الفعل الإيجابي من جديد... فإذا كنت تريد هدم أمة فدمر ذاكرتها الحضارية في آثارها، ومتاحفها، وثقافتها التي تحمل إرثها... ولعل هذه الخطط الجهنمية إنما هي من أبرز استراتيجيات الحروب المدمرة التي لا تبقي، ولا تذر... فالحجر لا قيمة له إلا بمقدار ما يحمل من إرث حضارة شعب من الشعوب، أو أمة من الأمم... ليصبح تجسيداً لذاكرة جمعية يتوارثها أهل بلد واحد، أو منطقة واحدة من جيل إلى الآخر ليصبح الأمر في نهاية المطاف عنواناً، وهوية لكل من ينتمي إلى ذلك المكان. الإرث الحضاري ليس صخرة (سيزيف) التي كلما صعد بها تدحرجت منه الى القاع ليعود من نقطة البدء في رحلة صعود ثانية، وثالثة، وعاشرة إلى ما لا نهاية من عذاب الصعود... بل إن الإرث الحضاري جبل يتطاول بنيانه كلما ارتفعت قمته.‏

أعلم جيداً أن تخريب وتشويه ملامح تمثال ابن خلدون، لا يقدم أو يؤخر، على الرغم من أنه يجسّد قيمة رمزية عالية، فابن خلدون أهم من التماثيل... كان فلكياً، اقتصادياً، مؤرخاً، فقيهاً، عالم رياضيات، استراتيجياً عسكرياً، فيلسوفاً ورجل دولة ويعتبر مؤسس علم الاجتماع. اتصف بالإخلاص والجدية وحب الثقافة والعمل وعمل بالفكر، واستنتج النظريات التي سبق بها علماء أوروبا، ووقت تعرضه لأكبر كارثة في حياته بفقدان أبويه وكثيراً من شيوخه أيام انتشر وباء الطاعون اعتزل الحياة وظل يعمل فأنتج كتابه الضخم "مقدمة ابن خلدون" وبه أسس لعلم الاجتماع. اكتسب الخبرات بالإضافة إلى العلم والمعرفة، وعمل بالقضاء وفي الوظائف السياسية، وبسبب حكمته وفكره الناضج شارك في حل نزاعات دولية فقد عينه السلطان "محمد بن الأحمد" سفيراً إلى أمير "قشتالة" شمال الأندلس لعقد الصلح، وبعدها بأعوام استعان أهل دمشق به لطلب الأمان من الحاكم المغولي المعروف عنه الشراسة والقسوة "تيمورلنك". ولابن خلدون ثلاثة كتب فقط هي المقدمة وكتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر وسيرته الذاتية.  قضى ابن خلدون أغلب مراحل حياته في تونس وعمل بالتدريس في جامع الزيتونة وفي المغرب بجامعة "القرويين" ثم في الجامع الأزهر بالقاهرة، وفي آخر حياته تولى القضاء بمصر .‏ ومن أقوال ابن خلدون في القضاء:‏ "لا تأخذني في الحق لومة لائم ولا يزعجني جاه ولا سطوة".

إنّ احترام الرموز عموماً سواء أكانت لأفراد، أو لمجتمعات، أو حضارات إنما هي تمجيد للقيم العليا صعوداً نحو الإرتقاء لا هبوطاً نحو الإنحدار. والشعوب المتحضرة، مجدت رموزها فأقامت لهم المزيد من النصب وزينت أعلامها بهم. وما يدعو للفخر أنّ مكانة ابن خلدون العالمية، جعلته يتبوأ مكانة رفيعة بمكتبة الآداب الأجنبية بموسكو، حيث أقامت له تمثالاً يعتلي عموداً رخامياً جميلاً ومتميزاً، وحملت اللوحة النُّحاسيّة إسمَهُ وتاريخ ميلادِهِ ووفاتِهِ بالعربيّة والروسيّة، وقد وضع التمثال إلى جانب كبار الكتّاب في العالم، الذين أسهموا في نهضة البشريّة، وتُرجمت أعمالهم إلى الروسيّة...

إنّ إبداعات ابن خلدون، لن تموت مع الزمن فلا شيء يهزم رمزية الموت إلا الأعمال الإبداعية الخالدة هذا ما قاله الشاعر الراحل محمود درويش في جداريته العظيمة التي كتبها بعد إحساسه بالموت... لكن ما جرى بوسط العاصمة التونسية، هو أكبر من كل ذلك... من شوهوا تمثال ابن خلدون، يحاولون القضاء على ذاكرتنا... حضارتنا... ثقافتنا... تراثنا... تاريخنا... وهذا دليل كاف على أنهم يريدون استبدال العلم والثقافة والفنون بهمجية تشويه الرموز الساطعة والخالدة... وإننا أما الهرم الشامخ، لا نملك إلا أن ننحني إجلالاً واحتراماً وتقديراً لابن خلدون الذي أغنى عقولنا وقلوبنا بعذوبة إبداعه المتجذّر في التكوين الثقافي... نثمّن عالياً قيمة ما قدمه في حياتنا، وسنبقى نذكّر الأجيال دائماً وأبداً بعظمة هذا العبقري، أما تونس الخضراء فستنتصر، كما عهدناها، بكل إبداع وطني وثقافي ما دام قد وضع بين يدي الأجيال المغروسة بالوفاء والمحبة.

خلاصة الكلام: العالم الحقيقي يعيش برموزه، هي مساهمة من الأجيال في تبني الخلاصات الإنسانية التي تعنيهم في الصميم، وكم آلمني قول أحد الإعلاميين الغربيين عندما قال لي: إنكم "أكثر الناس قتلا لرموزكم"... أجل، نحن نمتاز بهذا القتل الذي ينم عن قرارات شخصية ميدانية سببها قلة المعرفة بذاك الرمز سواء كان قريبا في التاريخ أو بعيداً.

كاتب صحفي من المغرب.