ناصر الدين سعدي من الأقلام المتميزة في الجزائر، متابع جاد لكل ما يجري من أحداث في بلده ويعمل على تسليط الضوء على المشهد السياسي والثقافي منذ بداية السبعينيات. من المهتمين بتاريخ الحركات الإسلامية شرقا وغربا والمتابعين لمساراتها كما نلاحظ في دراسته التحليلية القيمة: " الجماعات الإسلامية الليبية المقاتلة: المنابع والمصبات " وغيرها من المقاربات. وبعيدا عما يجري على السطح من صراعات وانسدادات، نحاول أن نذهب معه في هذا الحوار إلى عمق الأزمة الجزائرية المزمنة.

 

في مثل هذا الوقت قبل ستين عاما قاد الرئيس محمد بوضياف كوكبة من المناضلين الثوريين ليشرف في الفاتح من نوفمبر 1954 على تفجير ثورة التحرير الكبرى التي اضفت الى استقلال الجزائر بعد ازيد من سبع سنوات من الحرب الطاحنة ضد جيش وادارة الاحتلال الفرنسي. ولم يمر عن ذلك الاستقلال سوى مدّة قصيرة حتّى نشر محمّد بوضياف نفسه كتابا تحت عنوان مثير: ثورتنا: إلى أين تتجه الجزائر؟ وكان ذلك ردّا على الأزمة السّياسيّة التي عاشتها البلاد رأسا بعد انتهاء الحرب (1954-1962). . مرت الآن أزيد من خمسين عاما على تساؤل الرّئيس المقتول، هل يمكن أن تقول لنا بعجالة، أنت المتابع عن قرب للشّأن الجزائري منذ السّبعينيات، إلى أين وصلت الجزائر سنة 2014؟
ناصر الدّين سعدي: إلى أين؟ "سؤال بدائي... سؤال التّيه والضّياع... الكتاب كلّه من أوّله إلى آخره كان ساحة استغراب من وضع غير عادِي طرأ بعد الاستقلال. فالصّراع الذي نشب في غير محلّه.   والسّؤال هو ضياع مؤشّر التّحليل وسط هذا "الغير عادي" فكلّ من تصارعوا حول الحكم غداة الاستقلال من جيل واحد ومن طينة واحدة لا تفرّق بينهم انتماءات فكريّة ولا طبقيّة ولا حتى فئويّة. مرجعيّتهم كلهم تلك الثورة التي جمعتهم وحولتهم إلى كيان... هي بالنّهاية "فوضى صغيرة" كبرت وصلب عودها وتشعّبت ووصلت الجزائر بعد خمسين عاما الى ما لم يكن يتصوره محمد بوضياف أبدا ولم يدرج كمحطة من محطات السؤال "إلى أين؟" ونحن في العام 2014 يبقى السّؤال عالقا لكن هذه المرّة في سياق "العادي". الفوارق الطبقيّة اليوم كبيرة والانتماءات الفكريّة والمصلحيّة والتنظيميّة هي القاعدة. فالصّراع متعدّد الأشكال إذن قائم على واقع. تكاد لا تجد من يقدر على التّفكير في جزائر اليوم لقد تآكلت ساحة الفكر بشكل يثير الشّفقة. حتّى أنّك تشعر بغياب تام للنّخبة وهو ما يعني غياب تام لمعارضة السّائد إن كان قرارا أو فكرا. من يُفترض أن يفكّروا ويقودوا دفة التّغيير غارقون في شؤونهم المعيشيّة. وبقيّة النّاس حقل مترامي الأطراف تنبت به فطريات وتعشّش فيه طفيليّات من كلّ الأنواع.

هل تقصد اضمحلال الطبقة الوسطى في الجزائر أو انهزامها؟ وما هي أسباب ذلك إذا كان هذا هو المقصود؟

الأمر لا يتعلّق بهزيمة لأنّ الطبقة الوسطى ليس لها أن تقوم بمعركة بمفردها. فمنها تتبلور طليعة أو نخبة هي عادة من تقود المجتمع للتّغيير. يعني تقود فئات اجتماعيّة لها مصلحة في إقامة نظام اقتصادي ـ اجتماعي جديد مغاير لسابقه ومتطور عليه تاريخيا. هذه الطبقة الوسطى تشكّلت فعلا في الجزائر خلال الــ 20 سنة الأولى من الاستقلال بفعل سياسة أتاحت ذلك، وهذا بدوره أعطى فرصة لبناء نخبة في أجل قصير. لكنّها تعرّضت لتشوهات وانكسارات وإعطاب في الفترة اللاحقة بتغير سياسة البلد مع مطلع ثمانينات القرن الماضي، قبل أن تكون هذه النّخبة قد كسبت المناعة اللازمة لمقاومة عوامل تضرّرها.

 هل يمكن أن تشرح لنا أكثر؟

 لقد مرّرنا تقريبا بنفس التّجربة المصريّة وضاقت دائرة القوى المؤثرة لتنحصر في جماعات النّفوذ المباشرة التي تملك القوة الأمنيّة وأضيفت لها مع السنوات قوة المال التي تشكلت هي الأخرى بسرعة فائقة جرّاء سيطرة هذه الجماعات على مقدرات البلد. وفي ظل هذا الانقلاب نما التيّار الإسلامي كما تنمو الطحالب فاستفاد من ضعف النّخبة ومن اتساع رقعة الفقر فساهم بقدر كبير في ترجمة الفقر المادي إلى قحط فكري وإلى إغراق المجتمع بمتاهات غريبة عن العقل. لقد أدّى تغيّر الظروف الاقتصاديّة والاجتماعيّة إلى انحسار الطبقة الوسطى والتحاق قطاع واسع منها بالفقراء المعدمين، يعني تدحرج دورها من إنتاج الفكر والاجتهاد لتوفير البدائل للوضع القائم، إلى السّعي لتأمين لقمة العيش.  والطبقة الوسطى تنعدم بانعدام دورها في إنجاب النّخبة.

ومع ذلك لم يؤدِ هذا الوضع إلى تحرّك الشّارع الجزائري كما حدث في بلدان ما يسمى “الرّبيع العربي”! فما مرد ذلك في رأيك؟

 الشّارع الجزائري تحرّك كثيرا وحتّى قبل غيره، لكن لأسباب تتعلّق بتحسين الحياة العامّة. عكس ما حدث في بلدان أخرى حيث كان المطلب تغيير النّظام. في الجزائر تجري انتخابات بانتظام ولا يوجد مشروع توريث. بمعنى لا توجد دواع لرفع شعار إسقاط النّظام. ثم إنّ هناك الحذر العام كون الإسلاميين على ما لحق بهم من ضرر مادي ومعنوي قلّص حجمهم وتأثيرهم، لكن في حال الخراب والفوضى سيظهرون بقوّة لغياب قوى سياسيّة أخرى قادرة على قيادة النّاس لبناء نظام جديد غير النّظام القائم وغير النّظام الإسلاموي الذي يجُرّ البلد إلى الخلف. النّاس إذن متخوّفون من هذا. بمعنى أنّ هناك وعي بالمخاطر. وهذا عامل إيجابي توفر بفعل تراكم الخبرة وقراءة العثرات. لكن لم يتوفر بعد بديل يشكل قيادة تبادر بتحويل المخاوف من سيطرة قوى التخلف الى طاقة تفرز قوى أكثر تقدما من النظام القائم وترشّحها لاستلام الحكم. في الجزائر اليوم نقابات كثيرة في مختلف القطاعات منها التقليديّة التي تنتسب لاتحاد العمال الذي تأسس عام 1956 في خضم حرب الاستقلال، ومنها النقابات المستقلة التي صار دورها اليوم كبيرا وتقود نضالات اجتماعيّة لتحسين شروط الحياة والعمل للموظفين والعمّال ولتطوير أساليب تسيير المؤسّسات الإنتاجيّة والخدميّة، وهذه النقابات ذاتها تطالب وتحتج كلّ يوم لكنّها تقف حاجزا أمام انتقال احتجاجها إلى فوضى. وتشكل تجربتها النّواة الرئيسيّة للتّغيير السّياسي السّلمي في الجزائر. لكن على هامشها يوجد قطاع من النّاس يمكن تفعيل عنصر الحاجة لديهم للقيام بأعمال قد تسبّب الأضرار.

ولكن انهزام الأصوليّة السياسي غير كاف وسيكون مرحليا إذا لم تتبعه مساءلة ثقافة المجتمع التي أنتجت هذه الأصوليّة كالعائلة، المدرسة، الإعلام، الكتاب، وسائل التّرفيه... ألا ينزع المجتمع الجزائري نحو "الأفغنة" كما يبدو ذلك جليا في الشّارع؟ ألا ترى أن هناك الكثير من الدّعم للأصوليّة بوعي أو دون وعي؟

يمكن القول أن الأصوليّة انهزمت سياسيّا، بمعنى أنّ النّاس يتذكّرون أنّها الطرف الأهم في مأساة خلّفت عشرات الآلاف من الضّحايا ودمار الاقتصاد وبَعثرة القيم، وأنّها كانت العامل الرّئيس في نشر الأحقاد والتطرّف والكراهيّة. الإسلاميون كقوة سياسيّة منافسة على الحكم لم يعد لهم ذلك الزّخم الذي كان قبل عشرين عاما حين كانوا السّلاح الذي توفر للجزائريين للتخلّص من نظام جمع كلّ شروط الفشل. لكن كفكر، الأصوليّة موجودة وتتجلّى حتّى في النّشاط اليومي العادي للنّاس. المجتمع الجزائري يجلس على طبقة سميكة من الرّواسب الغيبية والتبريرات الخرافيّة للأحداث والوقائع. ويجد هذا الوضع استحسانا من جهات رسميّة ذات نفوذ. فالسّلطة تحارب الإسلاميين سياسيّا وأمنيّا لأنّهم طالبوا بالحكم وحملوا السّلاح للوصول إليه، وتحارب بهم غيرهم فكرا وثقافة وتأثيرا في المجتمع لأنّ غيرهم هذا وأقصد هنا المحسوبين على التيارات اليساريّة والليبراليّة والعلمانيين عموما، يواجه الإسلاميين فكرا ويواجه السّلطة في نفس الوقت بمطالب العدالة الاجتماعيّة والحريات بديلا للتسلّط والجشع، لكنه لم ينضج بما يجعله يطرح نفسه بديلا مهيكلا للسّلطة.  السّلطة الآن تدعم "الطرق الصوفيّة" وهي مؤسّسة متخلفة جدا ومنتشرة في كل أرجاء البلاد في شكل مدارس تسمّى "الزّوايا" يتخرج منها الآلاف كلّ عام بتوجهات من خارج هذا العصر. هي اذن تواجه الاسلاميين سياسيا وأمنيا وفي نفس الوقت تعمل على تثبيت وجودهم فكرا.  النظام القائم لا يرغب في انهزامهم فكرا لأنه لا يتوفّر على فكر، والبديل الفكري للإسلاميين هو طرف آخر غيره، لهذا تقوم أجهزته في كثير من الأحيان بلعب دورهم في صياغة البرامج الدراسيّة المتخلّفة مثلا ورعاية حصص دينية غارقة في الظلاميّة والجهل وسن قوانين تظلم بها النّاس لمجرد الظهور أنها تحمي المقدسات. فمثلا يتعرض من يفطر في رمضان للاعتقال والاستنطاق في مراكز الشرطة والوقوف أمام القضاة في المحاكم وإصدار أحكام بالسجن وتسجيله في قائمة ذوي السوابق. بينما كان رمضان في السابق شأنا شخصيا لا علاقة لمؤسسات الدولة به. في هذا الشأن الجزائر تراجعت كثيرا وتقلصت الحريات الدينية إلى أبعد حد. قبل ثلاثين عاما أقسم مظفر النواب في أمسيات شعرية في الجزائر بأباريق الخمر والناس صفقت لجمال القصيدة، لكنه بالتأكيد لا يستطيع الآن. الوضع تغير، فمعظم الجزائريين المؤمنين كانوا يعتقدون أنّ الله يحميهم وأنّ الرسول يشفع فيهم حين يأتي يوم يحتاجون فيه لشفاعته، لكن اليوم يطغى من يرون انهم حماة الله والرسول على الارض.

هل صحيح أن المدرسة الجزائرية باتت منكوبة، مجرد مصنع للشهادات كما يقول البعض؟ وهل تعتقد أنّ النموّ الدّيمغرافي الرّهيب هو سبب الفشل بشكل عام وبصفة أخص في ميدان التّعليم؟

عن المدرسة الجزائرية وتحولاتها دعني أبدأ لك بهذه الحادثة: نشرت على صفحتي على الفيسبوك صورة تذكاريّة لمعلّمي ومعلّمات مدرسة في مدينة سطيف احدى كبريات مدن البلاد التقطت عند نهاية الموسم الدّراسي (1970/1971) فحظيت بعدد كبير من التّعليقات ومعظم من تكوّنوا في تلك الفترة تأسّفوا كون الحال تراجع وتدهور، لكن من الشباب من لاحظ أنّ المعلمات كن متبرّجات لأنهن لا يرتدين حجابا ولا جلبابا و"سيقانهن" مكشوفات. هو مستوى تفكير منحدر من أعلى حيث كانت الفتاة تخرج للدراسة أو العمل مثل الرّجل تماما قبل موجة الحجاب والجلباب التي دخلت بداية الثمانينات مع انتشار قيم الثورة الاسلامية في إيران وحملة الجهاد في افغانستان وبروز تيار سياسي إسلامي منظم ساعدته السلطة على التغلغل في المجتمع لمواجهة اليسار القوي وقتها. لمن رأوا أنّ معلمات السّبعينات متبرّجات نشرت صورة تذكاريّة حديثة لطالبات مع الرّئيس عبد العزيز بوتفليقة عند زيارته المدينة سنة 2009 وكن جميعا مرتديات حجابا متشابها يبدو أنّه من توزيع المؤسسة الرسميّة.                          
المدرسة الجزائريّة فشلت بسبب السّياسة المنتهية البعيدة كلّ البعد عن مسايرة العصر. تجد الطالب في قسم علوم الطبيعة والحياة أو الرياضيات أو التسيير والاقتصاد بالمدرسة الثانويّة مثلا مجبرا على حفظ على حفظ أشعار عنترة بن شداد وشرحها حتّى يحافظ على هويّته العربية، مع العلم أنّه يتابع دراسته الجامعية منقطعا عن كلّ هذا وفي معظم الأحيان باللغة الفرنسيّة، اللغة التي تطغى على فروع العلوم والتكنولوجيا في جامعات الجزائر، وحين يتخرج يشتغل في مجالات لا علاقة لها بالتجويد الذي تعلم ولا بعنترة.   برامج التعليم والنشاطات المسجدية أغرقت الجزائر في الانعزالية والعصبية وكره الآخر. فما المتوقع ان تكون عليه تنشئة طفل يتردد على المسجد و يسمع كل يوم الدعاء " اللهم عليك باليهود والنصارى احصهم عددا واقتلهم بددا ولا تترك منهم أحدا .. اللهم رمّل نساءهم و يتّم أطفالهم...." هل يمكن ان يكون هذا الطفل مواطنا صالحا بقيم انسانية ؟ أكيد سيكون مشروع " داعشي " يطارد المسيحيين واليهود ان أتيحت له الفرصة لذلك. واكيد أنه يرى افعال " داعش " في شمال العراق مبررة بالتربية الإسلامية السليمة التي تدعو الى قتلهم وتشريدهم. وبالفعل فلقد ظهر هذا جليا في الصحافة وفي مواقع التواصل الاجتماعي. فما ان تنشر مقالا أو إدراجا حول اختطاف جماعة بوكو حرام الإسلامية المتطرقة  في نيجيريا عشرات الفتيات والتهديد بسبيهن وبيعهن في سوق النخاسة الا وتنهال عليك تعليقات تبرر الجريمة بكونها رد فعل على جرائم يرتكبها مسيحيون في حق مسلمين افريقيا الوسطى او بوذيون في حق مسلمي بورما. وما ان تنشر على جرائم "داعش" ضد المسيحيين والازيديين في العراق الا وتقابلك ذات التبريرات.

المشكلة في الجزائر ليست مالية ولا مادية أبدا... البلد يتوفر على كل شيء... على المال والموارد وعلى الصبر أيضا. المشكلة هي غياب نخبة منورة ذات قدرة على التأثير في القرار السياسي. القرار في الجزائر بيد دوائر أمنية بيروقراطية عالية الحساسية تجاه أي تغيير في النواحي الفكرية وهو وضع يجعل ما يحمله الدستور والقوانين من قيم الحريات مجرد ادبيات ميتة.