من الظاهر نكاد لا نصدق هذا الذي يجري على امتداد الجغرافيا الليبية، بل نحن لا نصدق فعلاً ولذلك نرى النتيجة المباشرة، وهي أن العقل الليبي والوعي الليبي والموقف الليبي، ذلك كله مازال خلف الأحداث يتابع بشغف وانشداد أو يستكين في الزوايا وفي المنعطفات الرطبة والمظلمة، ثم ما يلبث هذا العقل الليبي أن يلوذ بالصبر وهذيان الدعاء إلى الله بأن يفرجها على الشعب الليبي، وكأن الله موجود لخدمة المتفرجين بدون جهد وبدون تدخل عملي بسيط، لكن الدخول أو التداخل مع الأعماق وفي الأعماق يكشف بصورة متزايدة حقائق هذه المشاهد الليبية، فإذا هي تعبير طبيعي منطقي في سياقها الزمني والمكاني والسياسي... ولكن العادة الليبية في مطاردة الوعي تذهب نحو الأحداث بتشكيلاتها الأخيرة، حيث المشاهد التي انفجرت وتدافعت وحيث الإرهاب والآلام، وقد اكتسب كل منهما درجة قطعية في السيطرة على الواقع، وفي إعطاء الواقع نفسه صيغة الأمر الطبيعي، فلا مفاجآت ولا انكسارات ولا ما يحزنون، ومن المؤسف أن الليبيين بصورة عامة مصابون بداءين، هما اللذان يخولان العقل الليبي أن يبقى في المكان الأبعد عن الحدث، وفي النسق الموارب الخارج عن سيرورة الحدث، ويستوي في ذلك الموقف العربي من الأحداث الكبرى والصغرى ومن الأحداث المفصلية والعابرة ومن الأحداث الداخلية والخارجية.‏
 أما الداء الليبي الأول فهو داء اللهاث نحو التشكيلة الأخيرة للحدث والانجراف نحو آخر، مظهر من مظاهر الحدث يغيب العقل، هنا ويظهر الحدث على أنه وليد لحظته ونتيجة الظرف الضيق الراهن الذي جاء فيه، فلا مقدمات استولدت هذه النتائج ولا عوامل تكوين تشكلت منذ زمن بعيد إلى أن جاء الحدث المر في موعده بعد أن نضجت كل عوامل ولادته وظهوره من السر إلى العلن... ولذلك نرى أن مجمل تحليلاتنا للأحداث المؤلمة التي تعصف بليبيا، تدخل في باب الذاتيات في الفهم وهي محاطة دائماً باحتمالات الحلول الهينة عبر مصالحات، ليس فيها من قوة الحدث أو قيمته شيء، وهنا يصبح كل الذين سقطوا في الساحات مجرد خيالات لابد أن يطويها الزمن لكي يتم الإفساح في المجال لحدث مؤلم جديد.‏  
وبهذا المعنى فإن تاريخ ليبيا الراهن، والذي كان هو مجرد ركام يطمر بعضه البعض الآخر، ثم نقول بسذاجة ملحدة عفا الله عما مضى ولنسدل الستار على ما كان فنحن أبناء اليوم، وعلى الخالق سبحانه وتعالى أن يكون ابن اليوم أيضاً، وعلى التاريخ بكل مفاصله أن يكون ابن اليوم أيضاً... إنها المعادلة المرة أطرافها الإرهاب من جهة وتمرير هذا الإرهاب من جهة ثانية، لاسيما أن مقولتنا الشهيرة تؤكد بأن الزمن كفيل بحل كل الإشكالات العظمى، وبأنه يأتيك بالأخبار من لم تزود عادة، وهكذا فنحن أبناء العقل العقيم، وأمام هذيان الوقت وهو يمر ثم يكورنا ويدورنا ثم يطلقنا في الفراغ المخبول المفعم بالرمال، والمطر الموحل والشمس الحارقة، وقدر الشعب الليبي المزعوم ينادي عليه من فوق ومن تحت، بأنّ الشعب الليبي فرغ من مونديال الإرهاب، وأصابه الجهد بالإعياء، لهذا يستحق الآن شرب النخب ورفع كؤوس الطلا، وإسدال الستار على مسيرة الآلام بكل تفاصيلها ومفاصلها...  
وأما الداء الثاني الذي يستغرق وجود الشعب الليبي السياسي والاجتماعي، ويفترس آلامه ولهفته، ويخترق محنه من اليمين إلى اليسار، فهو داء الوقوع في المفاجأة ! إن العقل الليبي يدفع قسراً لكي يتبنى هذا الاعتقاد بأن الأحداث الإرهابية التي شهدتها ليبيا وتشهدها الآن، هي مجرد مفاجآت لا يوجد ما يدل عليها وليس لها جذور أو أصول أو أعماق.‏.. لذلك لابد أن يهمل الشعب الليبي الأحداث بعد سكونها، وأن تكون الديات المدفوعة هي عملية ترحيل الآلام والمذابح والمجازر إلى منطقة صفراء، يركن فيها الحدث ويغفو غفوته الأخيرة، وفي هذه الحالة المتكررة لا يوجد ذاكرة لدى الشعب الليبي، ولا يوجد سوى الذكريات في تاريخه، والتي تصلح للمباهاة الشعرية، وللغناء المجوف في المناسبات الاجتماعية، بل قالها شاعر من اليمن ذات يوم أو عن اليمن ذات يوم:

 إذا احتربت يوماً فسالت دماؤها   تذكرت القربى ففاضت دموعها.
فالليبيون إذاً يحتربون ولا يحاربون، يقتتلون ولا يقاتلون... فهناك قدر مقدّر ولا مفر منه! وهنا يضاف إلى الظلم الكفر بالله حينما يجعلونه هو القاتل، وهو مصمم القتل وهو سبب هذا القتل... إن التذرع بالمفاجآت هو خيانة عظمى...! فما كان للإرهاب وعصابات المرتزقة وشذاذ الآفاق الآن أن يكونوا عاصفة هبت بالمصادفة على ليبيا، فأنتجت المفاجأة في ليبيا... وكل المجموعات الإرهابية التابعة لجماعة الإخوان المسلمين، و تيار الإسلام السياسي، التي اعتدت وارتبطت بالمشروع التوسعي الاستعماري، جاءت بطريق المفاجأة...! وعلى الشعب الليبي أن يصدق أنّ الشهداء واليتامى والأرامل والمثخنين في الجراح والمعذبين في الأرض الليبية، بأن معاناتهم وجراحاتهم لا علاقة للغرب أو تركيا أو أدواتهما بما يفعلون الآن، وبأن النتائج المترتبة والقائمة هي بدون مقدمات، وبدون قوى دولية وعربية، وبدون أدوات ولدت ونمت فيها...  

 ليبيا اليوم في امتحان... المؤامرة استحقاق، الماضي القديم خليط من تآمر ومجد، الماضي الأقرب واجهته جدران بشرية انشغلت بأحلام مواطني (الحيط الحيط يا رب الستر) وتغافلت عن جدران الجوامع وخطط الجوامع وأئمة الجوامع، وأمراض المجتمع والاقتصاد وويلات الانتقاء الإداري، وكل النتاجات (المفاجئة) للأرض الليبية و(عقول) لا تحلم إلاّ بأن تقزّم ليبيا إلى صرّة، لتكون قابلة لظل اللحى أو لظل ذقون من (يحلقون) لليبيا! الحاضر جدران تتهدم في منطقة ما وجدران تبنى في منطقة ما، وكثيرون يجهلون حساسية وخطورة الوضع الليبي بينما كثيرون ينضمون إلى عالم الاستثمار في الأزمة الليبية... لم يظلم إلاّ مواطنو الأناقة الوطنية من مدمني مبدأ (الحيط الحيط يا رب الستر)، بينما صنّاع الرمال المتحركة يتقاسمون الأدوار، وحتّى في الأزمة الوصولي والانتهازي ومن لف لفّهما أصحاب حظوة، مع أنّ الرمال المتحركة لا ترحم أحداً. إن قصة ليبيا أيها السادة الأفاضل، تقع في هذا المدى ما بين العقل والجهل، وما بين نظام القطيع ونظام الإنسان، وهكذا تتكرر المأساة... والشعب الليبي يتفرج عليها ويدعو إلى الله أن يزيحها !
 كاتب صحافي من المغرب.