أنهت ليبيا فصلاً من فصول الظلمة التي تركت حبال الشد والرخي تتدلى من دون أن يَصُبُّ أي منها في حسابات أو أرصدة الآخرين، بل اكتفت بأن أعطت الوطن عنواناً للمصالحة واتفاقاً ينهي حالة من الشذوذ الإرهابي، ويغلق الباب على نواطير الليل والظلام، ومتاجري الابتزاز والمساومة، ويرمي بأوراقهم في سلة ما تراكم سابقاً وما قد يأتي لاحقاً... ولعل تشكيل المفوضية العليا للمصالحة الليبية، ستكون ـ في نظرنا ـ أهم من الوزارات وأكثرها تأثيرا في إعادة جزء من المجتمع إلى صوابه وإلى حقيقته التي خسرها حين انغمس في القتال إلى جانب المسلحين... فالمفوضية عندما تنشأ لغايات من هذا النوع المؤثر، سيكون مردودها مثمراً بعد التأهيل غير المباشر لأولئك الذين غررت بهم حملة البنادق. وفي هذا السياق، فقد أعلن المجلس الرئاسي الليبي الأحد 30/05/2021، انطلاق الملتقى التأسيسي للمفوضية العليا للمصالحة الوطنية في مدينة طرابلس، وقالت نجوى وهيبة، المتحدث الرسمي باسم المجلس الرئاسي، خلال مؤتمر صحفي عقد في العاصمة طرابلس أن "المجلس الرئاسي قرر هيكلة المفوضية بطريقة أفقية عوضا عن الترشيح والتعيين المباشر". وبينت أن ذلك سيتم "من خلال الملتقيات التي سيعقدها في شهر حزيران/ يونيو القادم بمسارتها المختلفة، وبمشاركة كل الفاعلين في مجال المصالحة الوطنية مع مراعاة التنوع الثقافي والجغرافي وفئات كل من "الشباب، المرأة، مؤسسات المجتمع المدني، رجال الدين، المجالس البلدية".
في نظرنا المتواضع، لن يكون سهلا عمل المفوضية ونشاطها في أدق ظروف ليبيا... فكيف لها أن تحاور ومن... وكيف تقنع والطريقة... بعض عقول فرغت منها الوطنية والإنسانية والاجتماعية، وبعضها صدقت حملة السلاح بأنها واصلة إلى غاياتها، وبعضها مشاعر تمرد ليس إلا، ثم هنالك الإرهابيون أو المطلوبون للعدالة من قتلة ومهربين وغيره...عالم مبعثر من المفاهيم والوقائع على المفوضية العليا للمصالحة الليبية، أن تعيدها إلى رشدها بالإقناع الصعب، والذي تتداخل فيه اجتماعيات لا حصر لها، والقائم على حوار قد لا يصدقه عقل لشدة صعوبته، وكله يحتاج لهدوء أعصاب وكلام ذكي وبشاشة توحي بالثقة. الآن ما يحدث في ليبيا هو تكفير سياسي بامتياز... فالآخر الذي لا يتوافق مع رأيي سياسياً هو "كافر" وطنياً! وقائمة أوصافه تمتد من خائن... إلى متآمر إلى دموي إلى قائمة طويلة من الأوصاف التي أقلها يحلل دمه وماله وعرضه! إن ما يجري يشبه "المكارثية" على الطريقة الليبية وفيها إطلاق أحكام على الآخر بالظن، والنية، والحكم عليه بالإعدام الوطني! إن ما يجري الآن من مظاهر التكفير السياسي هو إعلان القطيعة ورفض الحوار وعدم قبول رأي آخر وتحويل الاختلاف إلى خلاف والأسوأ من ذلك استدعاء الماضي وخلافاته التي تعود إلى أكثر من ألف وأربعمائة سنة وتحويلها إلى صراع حالي محكوم عليه بطول الأمد! بل الاستعداد للتعاون مع الشيطان في الحرب مع "الكافر" سياسياً!
لست هنا فقط في حالة توصيف لما يحصل خلال الأزمة فقط بل هو في واقع الأمر استمرار لحالة سائدة مرت على المجتمع الليبي لم تقبل بالشريك ولا بالرأي الآخر وخلقت مجتمعاً لم يتعرف على فضيلة الاختلاف... ولم يعتد إدارة الخلاف ولم يستطع أن يتعلم دروس قبول التنافس السياسي، فكانت النتيجة أننا وصلنا إلى هذه النقطة التي أصبح فيها التكفير السياسي هو لغة التخاطب بين الليبيين،
وليبيا ندفع فاتورة باهظة لعدم ممارسة الحوار السياسي وقبول الآخر المختلف سياسياً، وإذا أردنا أن نستمع إلى الجميع وهم "يخوّن" بعضهم بعضاً ويخلع بعضهم عن بعض حق المواطنة وصفات الوطنية فإننا سنصل إلى مرحلة أخجل من توصيفها.
إن ما وصلت إليه ليبيا أن فريقاً متدثرا بالغطاء الديني، يجتهد في "إقناع" الآخر بالقوة وليس بالفكرة، وهذا يعني صراعاً دموياً قابلاً للاستدعاء السياسي في أي وقت من المستقبل. ومن باب تأكيد المؤكد، فقد قال الناطق الرسمي باسم القائد العام للقوات المسلحة الليبية اللواء أحمد المسماري، أن هناك من "لا يريد المصالحة والانتقال السلمي للسلطات، ويريد استمرار الفوضى". وأضاف المسماري في بيان نشره عبر حسابه في فيسبوك، أنه "بعد سنوات من الحرب على الإرهاب والجريمة التي تقودها القيادة العامة للقوات المسلحة العربية الليبية، وبعد هذه المرحلة الهامة والمفصلية من النضال الوطني، يُظهر الشعب الليبي رغبة قوية في تحقيق السلام ومصالحة وطنية تجبر الضرر وتحقق مبادئ التسامح والعفو، وبناء ليبيا جديدة ينعم فيها الشعب بالأمن والأمان والعدالة والمساواة دولة مزدهرة ومستقرة". وتابع: "أصبح الهدف الرئيسي في المستقبل القريب هو إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، إلا أن هناك من لا يريد المصالحة والانتقال السلمي للسلطات، بل يريد استمرار الفوضى الأمنية والهيمنة على مصادر مراكز القرار وعلى مقدرات الشعب الليبي، ونشر الإرهاب والجريمة". وزاد بالقول: إن "هؤلاء الخونة لا يطلقون النار بالسلاح فقط بل يشعلون نار الفتنة بالكلمة والتضليل الإعلامي ونشر خطاب الكراهية".
لهذا فمهام المفوضية العليا للمصالحة الوطنية جسيمة، ولعل من أولى خطواتها، أن تعمل ليل نهار لأجل دفع الفريق الأخواني للتخلي عن خطاب الكراهية ولغة التكفير، والاستعداد الفعلي لقبول الآخرين بآرائهم المختلفة والمتنوعة، وأن يكون الحكم النهائي بين الجميع هو مقدار ما نقنع الآخرين بآرائنا وليس بمقدار ما نفرضها عليهم... لا بد أن يعاد الليبيون المنخرطون فيها إلى جادة الصواب، ولا بد أن يعود كل مسلح إلى بيته ليعيد قراءة ما فعله، وليكتشف الطريق السليم الذي انخرط فيه من جديد... خصوصا وأن ليبيا ستكون بحاجة إليه بعد مدة من أجل أن يساهم بإعادة الإعمار، وبناء ما هدمته يد الشر.
إعادة البناء مشروع كبير يستطيع الليبي ترجمته بسهولة، وهو الذي بنى ليبيا وغير ليبيا، لكن هنالك أولويات الآن، في طليعتها أن تنصف المفوضية العليا للمصالحة الوطنية الليبية، وتعيد الاعتبار لمجاميع كبيرة من نخب ليبيا وعلمائه من شرائح مختلفة التي تعرضت لحملة ممنهجة من قتل وتهجير واجتثاث وفصل تعسفي من وظائفهم والرمي بهم بغياهب السجون دون محاكمات، وهي أكبر عملية إقصاء تعسفي في التاريخ الحديث بسبب فكرهم السياسي وانتمائهم...
إن "الثورة" ضد "ثورة الفاتح" كانت كارثة قوضت سنوات من الاستقرار. فحقيقة المشهد الليبي آنذاك، أكّدت سيطرة انتماءات سياسية غير واضحة وولاءات توهّم أصحابها أن التخلص من نظام الجماهيرية سيجلب ديمقراطية تعددية للبلاد! لقد سيطرت على قيادة الأمور فيها ميليشيات عسكرية خاضت معارك لم تحقق شيئاً سوى سلسلة من الدمار وتمزيق للجيوسياسة الليبية على الصعد كافة... وللأسف الشديد أنّ الكفاءات الليبية التي خدمت الدولة الليبية لا القذافي، وحافظت على مصالح ليبيا لا مصالح سيف الإسلام، تعرضت لسياسات التنكيل والتعذيب والتهجير والزج بها في غياهب السجون بعدما صودرت حقوقها وممتلكاتها...!
لهذا وذاك، فلابد أن تنصف المفوضية العليا للمصالحة الوطنية الليبية، المتضررين من قوانين الاجتثاث والعزل والانتقام، وما أحوج المفوضية العليا للمصالحة الوطنية الليبية، أن يطلعوا على سماحة ورقي دولة جنوب أفريقيا، فقد نجحت هذه الدولة في إطلاق نسخة أخلاقية رائدة من السماحة ضمن مفهوم (عفا الله عما سلف) بالرغم من وحشية عنصرية (البيض)، وقد نجح عامل السماحة هذا في تطور البلاد اجتماعيا واقتصاديا واحتلاله منزلة متقدمة ضمن مجموعة الدول الناشئة (البريكس)، مع العلم أن القيمة الرافعة لهذا التوجه جاءت من الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا الذي اكتوى أكثر من غيره بالنار العنصرية البيضاء، إذ بقي في السجن سبعة وعشرين عاما تطبيقا للبارتهايد، وهو الحال الذي شمل الملايين من الأفارقة.
أما سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فعندما فتح مكة، قال لمن أذوه، وأجبروه على الهجرة ومن قتلوا بعض أهله، اذهبوا فأنتم الطلقاء، إنه ديدن كل من يسعى لإقامة دولة العدل والمساواة هو التسامح والتغاضي عن الأحقاد القديمة، وبكل أمانة نقولها علانية، أنّه لا خوف حتما من المصالحة الوطنية وإعادة الدمج، إذا أخذنا بالاعتبار المنسوب إلى بريماكوف رئيس الوزراء الروسي الأسبق (إن من لا يملك رصيدا أخلاقيا صحيحا، لا يمكن أن يكون مؤهلًا للحضور السياسي الدائم)، وبموازاة ذلك، ليس من النبل أن يؤخذ بالمثل العربي المعروف (إذا سقط الجمل تكاثرت السكاكين عليه). والرأي عندي أن الدول الجديدة لا تؤسس إلا على نواة الدول السابقة أي على ما ظل منها محايدا وعادلا ومهنيا.
خلاصة الكلام: إن الصندوق الانتخابي الصادق والشفاف هو أفضل حكم يمكن الوثوق به، لكن... الآن وفي ضوء ما يجري، ليبيا تحتاج إلى فئة عاقلة وحكيمة تجمع الآراء المختلفة لتصوغ رؤية واقعية للخروج من هذه الأزمة معتمدة على حاجة الناس إلى الحل وليس غيره! في هذا المناخ الواضح، يمكن للمفوضية العليا للمصالحة الوطنية، أن تأخذ شحنات من النجاح، شريطة أن توقف المفوضية، مسلسل الثأر والعزل السياسي ومفاعيل الإجراءات الانتقامية التي طالت ملايين الليبيين قبل أية خطوة باتجاه المصالحة المجتمعية والتسوية التاريخية، وقطعاً لا يمكن حدوث ذلك إلا عبر حوار واسع ومجتمعي في الداخل الليبي، حوار لا يستثني أو يقصي أي من المكونات الليبية، وأقصد إشراك أنصار النظام الليبي السابق وتيار سيف الإسلام القذافي... ودون تحقيق ذلك، سيكون معناه صعوبة بل استحالة التئام اللحمة الوطنية الليبية في البلد المنهك الذي بلغ البؤس فيه مدى بعيداً وخطيراً.
مصطفى قطبي/ كاتب صحفي من المغرب.