بئس هذا الزمن الذي إنتزع الابتسامة الحقيقية النابعة من القلب، من شفاهنا. بئس هذا الزمن، وبئست هذه الظروف، وبئست هذه الأيام التي جعلتنا في دوامة مع أنفسنا، لا نعرف الضحك، ولا معنى الضحك، وإن ضحكنا في بعض المواقف فإنه يكون ضحكاً على أنفسنا ومصطنعاً، لا معنى له ولا قيمة له لأنه ليس نابعاً من القلب، ومعذرة شديدة من نفسي وغيري فأنا لا أعرف التشاؤم ولا أدعو له، وأكره كل متشائم وكل ما يدعو له. هذا أولاً وثانياً وهو الأهم أن الابتسامة والبشاشة هي عنوان الإنسان المخلص لنفسه ولغيره ولعقيدته، والابتسامة والبشاشة تختلف اختلافاً كلياً عن الضحك. 

في هذا الزمان الذي حلت به التقنيات المختلفة لخدمة الإنسان في المجال الإعلامي والعمراني وغير ذلك من مجالات الحياة وحلت السرعة في كل شيء لإنجاز الأعمال المختلفة يأتي السؤال الذي يطرح نفسه: أين الفرح الحقيقي في حياة المغاربة؟ لماذا رحل عن حياتهم؟ وأقصد بالفرح الحقيقي أن يطلق المواطن في اليوم ـ ولو مرة واحدة ـ ضحكة مجلجلة تدمع فيها العيون وهو في هدوء نفسي. العفو والمعذرة إن أحببت التفكير والشرود وكرهت الضحك، فالمواطن إحساس ومشاعر يتكون من دم ولحم ويتذوق ويحس، ويتأثر بكل شيء حوله، وإن كان لا يعرف لليأس طريقاً وعنوانه التفاؤل ونهجه العطاء، فكيف يضحك المواطن المغربي وهو في بحر من الهموم ومحيط من المآسي والمحن، كيف يضحك المواطن المغربي ولا يوجد سبب أو داعي للضحك إضافة إلى أن الضحك غير إرادي، وقد يكون إرادياً لكنه إحساس عفوي يتأثر به المواطن نتيجة لحدث سارّ أو واقعة ايجابية أو أمر يحمل في ثناياه الفرح والسرور، فيصدر القلب برقيات سريعة إلى العقل ومن ثم إلى الوجه والشفاه، وبرقية سريعة أيضاً إلى العينين، فالعين تضحك كما الوجه والشفاه، فيضحك المواطن، لذلك قالوا: هذه ضحكة صفراء، وتلك ضحكة صادقة نابعة من القلب، الأولى رسمتها الشفاه من غير رضا فبان معناها وظهرت دلالتها، والثانية، وهي الصادقة النابعة من القلب، قد خرجت برضا فقامت بتوضيح نفسها بنفسها.

كيف يضحك المواطن المغربي والكلام لم يعد يسعفه، فقلبه يعتصر ألماً، لما وصلت إليه أحواله من خيبات وكسر خاطر، وهو يرى أموره المعيشية تتهاوى يوماً بعد يوم، وهو يعيش في دوامة مع نفسه، في ظل غلاء فاحش وبخاصة أنه موظف وراتبه لا يكفيه لسّد رمقه وأطفاله، هذا إذا كان موظفاً، والحمد لله، يحصل على حاجاته الضرورية والرئيسية بالكاد، أما إذا كان غير ذلك فحدّث ولا حرج، فهو أكثر صعوبة من الموظف...؟! كيف يضحك المواطن المغربي وحديث الساعة وكل ساعة في الشارع وفي الحافلة وفي كل مكان أحداث وشخصيات المسلسلات التركية...!؟ كيف يضحك المواطن المغربي هذه الأيام، والعالم كله أصبح قرية صغيرة ومئات الفضائيات العربية كلها أفلام ومسلسلات وأغاني تافهة، فيبحث عن شيء يريده وإذا به ينسى ما يبحث عنه...؟! كيف يضحك المواطن المغربي، وقد انقلبت الموازين، واستشرت الواسطة والمحسوبيات، وعدم الاكتراث، وحب الذات، والأنانية هي عنوان الكثيرين...؟! وبعد ذلك وقبل كل ذلك، الضحك مطلوب، مع أن الضحك له سبب، فلماذا أضحك...؟! وعلى ماذا أضحك...؟؟

كانت الإجابة من رجل عجوز تجاوز العقد الثامن، عندما راح يتحدث عن السعادة والفرح والعيش الهادىء بلهجة مغربية شعبية، مفعمة بالطيبة والإنسانية، ويذكر المنغصات في هذا الزمن ويحن للماضي المكلل بالأصالة والمحبة والهدوء، فأدركت منه الأمور التي كان لها دور كبير في حلول الفرح في بيوت المغاربة في الماضي. 


أولها: التواصل الاجتماعي المبني على العفوية والغايات النبيلة، والبعيد عن المصالح الشخصية والأنانية، تدعمه المحبة ويشمخ به التعاون، هذا التواصل الذي يزرع السعادة عند الجار والقريب، ويزرع الفرح في المكان ويحمل راية التواضع وعدم التكلف، في التواصل الحميم يجتمع الأهل والمعارف في جلسة عنوانها المعرفة والمودة والاحترام والشعور بمشكلة الآخر ومساعدة المحتاج. 

والأمر الثاني في دعامة الفرح الحقيقي، يكون في الاكتفاء الذاتي الذي جمّل حياتهم. وكم يحز في النفس أن تجد هذا الجيل في القرى والمداشر، وأقصد أغلبه هجر مصادر الاكتفاء الذاتي هجر الحقل، وراح يشتري البيض والخضروات والحليب ومشتقاته، ولم يتعلم حب البيئة ومدى الاستفادة منها، وراح يترفع عن العمل في الأرض أو في تربية الطيور والماشية، يمنعه عن ذلك حصوله على شهادة علمية لم ينل بها وظيفة، ويمنعه حب النظافة الخارجية، وهيهات بين نظافة القلوب والأيدي والجيوب بالبعد المعنوي ونظافة الأبدان بالبعد الملموس. 

والأمر الثالث الذي يحقق الفرح الحقيقي هو عدم وجود الضجيج أو التوتر النفسي، إنك في الماضي تسمع زقزقة الطيور وأصوات البهائم وحفيف الشجر، أما اليوم تجد الضجيج يحيط بك في كل مكان، هنا السيارات والدراجات، وهناك المعامل والمنشآت الصناعية وصوت محركاتها، وفي البيت الأصوات الصادرة من الهاتف وجرس الباب وصوت التلفاز وغيرها من الآلات الكهربائية، وهذا بحد ذاته يولد التوتر النفسي، فكيف إذا ترافق معه مولدات أخرى للتوتر مثل وجود فروقات طبقية مادية بين الناس، تجد بعضهم في جشع مذموم يلهث خلف المال ويأكل حق الضعيف، ولا يدري أنه بذلك يجعل معركة الورثة حامية الوطيس ذات يوم، ويحرق أعصابه وأيامه في زيادة ثروته. أما الفقير يأتي التوتر النفسي عنده من الفارق الشاسع بين الدخل والاستهلاك، تحاصره الفواتير المختلفة وما يقذفه الغرب من مخترعات، وما يتعلق بالملبس والمسكن من مظاهر شكلية عجيبة غريبة وكل ذلك له قيمة مادية وإذا لم يستطع تأمين ذلك فسيكون المواطن مقصراً عن الركب؟ وإذا تعامل الأجداد مع مائة مادة، فاليوم نتعامل مع أكثر من ألف مادة ليس من السهل الإحاطة بها أمام دخل محدود وضعيف. 

وطالما لا نستطيع العودة لمثل حياة عاشها الأجداد، فعلينا أن نحل المشكلة كما حلها الغرب: عبر التقيد بنظام الأشياء والقوانين والعقوبة لمن يخالف الأمر، وعبر تحسين الواقع المعيشي حيث يتوازن الدخل مع الاستهلاك، وإذا لم نستطع تطبيق الاقتراحين ينبغي أن نردد قول الشاعر المتنبي:

وما انقطاع أخي الدنيا بناظره  إذا استوت عنده الأنوار والظلم.