تبدو الأوضاع في ليبيا متجهة بقوة نحو تصعيد وعدم استقرار، يكسر قاعدة الركود المسيطرة منذ سنوات لأسباب متفاوتة، بعضها طوعا وتأييدا، وبعضها إكراها وخوفًا، والمتبقي كان قناعة بانعدام البدائل الآمنة. ومن دون مقدمات واحتراماً لوقت القارئ أسمح لنفسي بالولوج في صلب الحدث الذي يقودنا لاكتشاف حقيقة الصراع الذي يعصف بليبيا، فقد شهدت العاصمة الليبية طرابلس وعدة مدن أخرى تظاهرات محقة الجمعة 01/07/2022، اندفعت فيها جموع مقهورة تطالب بالقضاء على البطالة والفساد وبلقمة العيش الكريم، صارخين ألماً من الفقر والمرض والتجاهل والبؤس، ناقمين على إخفاق وتقصير سياسي وحكومي في تقديم الخدمات ومستلزمات العيش الكريم لهم على مدار أكثر من 11 سنة، ومطالبين برحيل كافة الأجسام التي تتصدر المشهد السياسي في ليبيا، على غرار حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة في طرابلس، وحكومة الاستقرار الوطني الموازية برئاسة فتحي باشاغا، والبرلمان والمجلس الأعلى للدولة.

في التحليل، يبدو أنّ هذه التظاهرات هذه المرة تشكل سابقة، وهي جرس إنذار بأن كرة الثلج تتدحرج نحو انتفاضة شعبية كبيرة، تترجم أنّ الغضب الليبي الشعبي لن يسكت أو يتوقف نهائيا مهما وعد أو أغري بإصلاحات لا تتحقق عمليا أو واقعيا وتظل وعودا كسابقاتها من الحكومات السابقة التي تركت المطالب المشروعة، بعد أن اعترفت بها لفظيا، دون تنفيذ فعلي، بل زادت في أعمال الفساد والعرقلة فيها، ولأسباب لم تعد سرية، ومنها التدخلات الأجنبية. وإذا رصدنا حركة الاحتجاجات الشعبية التي أخذت من انهيار الخدمات وتفشي الفساد في مفاصل الدولة وتغول الفاسدين في سرقة الثروات كمطالب مشروعة، نستطيع القول إن الحراك الشعبي يتجه إلى إسقاط النظام السياسي الليبي ومنظومته القبلية بعد استدارته عن مطالب الشعب المشروعة، وحولت ليبيا إلى بازار يتنافس على اقتطاع أركانه فاسدون لا يهمهم سوى جني الأرباح من هذه التجارة التي وجدت في نظام المحاصصة غطاء لتغولهم في الفساد والنهب المنظم. إن عجز السلطة في ليبيا عن التعاطي مع انتفاضة متصاعدة محركاتها مطالب مشروعة، وشباب ينزع للتغيير السلمي يعكس فشل الأجسام السياسية في مواجهة هذا الحراك بأساليب القمع والترهيب تارة، وبالاعتقال تارة أخرى... لن تستطع هذه الأساليب من وأد التظاهرات وتراجع قوتها. إن الفاسدين ومبددي المال العام في ليبيا والمستأثرين بالسلطة وبأدواتها وجدوا في المحاصصة الملاذ والمخرج لحمايتهم من المساءلة والملاحقة إلى حد استخدام القضاء وسيلة لإبطال أي قرار قد يطاول أي مسؤول. والسنون العجاف التي عاشها الليبيون في ظل حكومات قاصرة وغير قادرة على إدارة شؤونهم، والحفاظ على أمنهم وثروتهم وسيادتهم، هي من دفعتهم إلى النزول إلى الشارع ضد سياسة الظلم والتهميش ونظام المحاصصة.
 
وبكل أمانة فالمشهد السياسي في ليبيا بعد جمعة الغضب، يمر بمرحلة صعبة أشبه ما تكون أمام مفترق طرق متشعب ومتعدد المخارج والمنعرجات، ما يجعله مربكا في التحليل السياسي العميق أو عند المراقب السياسي له، حيث تتداخل عوامل كثيرة وأسباب متراكمة في تركيبه وتعقيده، في الوقت الذي اتفق الأغلب من الذين اشتركوا في الحراك أو في السلطات والأحزاب في أمر رئيسي هو مشروعية المطالب التي رفعها المشتركون في الحراك وحقهم في الغضب، وفشل العملية السياسية، سواء في العاصمة طرابلس أو سرت. لقد آن الأوان لجميع الأجسام السياسية الليبية، أن تعترف وتدرك بأنه يستحيل حل الأزمة بالمستوى السابق من التفكير الذي أنتجته، وبأنه لابد من اختراق جدار المعاندة التي لا طائل منها سوى المزيد من الموت والخراب والنزف المفتوح... ففي ظل الواقع الليبي المأزوم وغياب الحد الأدنى من المشتركات التي تجمع القوى الأجسام السياسية المتصارعة حول سبل إدارة البلاد... تشهد ليبيا تحديات اجتماعية واقتصادية وأمنية واضحة سواء في العاصمة طرابلس أو في بقية المدن والأقاليم.. وبكل هدوء نتساءل: هل يعقل أن ننسى أنّ ليبيا كانت دائما سباقة لحل أزمات دول أفريقية... واليوم تعجز عن إدارة أزماتها لتلتمس الحلول وتتسوّل المساعدة عند من كانوا ينبهرون بأي شيء له نكهة ليبية؟! آن لنا أن نوقظ الروح الليبية، وننفض الغبار عن ذاكرتها وجوهرها الليبي الأصيل، لاستيعاب ما جرى والبحث عن ممكنات الحل، الذي يرضي الجميع ويلبي رغبتهم في التطلّع نحو مستقبل أفضل. وعليه فإن تقديم الحلول الممكنة يقتضي أولاً طرح الأسئلة الضرورية وتلمّس الإجابات عنها، وعلى رأس هذه الأسئلة:

- هل هنالك ليبي عاقل يصدق بأن الأمريكيين والأوروبيين والأتراك وغيرهم حريصون على كرامة وحرية ومستقبل الشعب الليبي أكثر مما يريده الليبيون لأنفسهم؟!

- هل يحق لأي مسؤول ليبي أو أي قوة سياسية أو حزبية، أن تتجاهل حقوق الليبيين في المشاركة الحقيقية في صناعة مستقبل ليبيا، وهل يمكن لأحد أن يزعم بأنه يمثل كل الشعب وبأن له الأحقية في الحكم دون الآخرين؟!

- هل ثمة مبررات وأسس أخلاقية وسياسية وشرعية لأي قوة أو جهة في ليبيا تحاول تهميش أو إقصاء أو اجتثاث أو إلغاء أي قوة أخرى من المشهد الليبي لمجرد أنها تخالفها في الرأي والبرنامج والتطلعات؟!

لعل الإجابة عن الأسئلة الآنفة الذكر تقتضي من كل ليبي وطني أيا كان موقعه أن يعيد النظر في قناعاته ويتحرر من الآراء المسبقة والأحكام القطعية والاستنتاجات السهلة المشحونة بالعاطفة، للتقدم بخطوات جسورة وشجاعة، نحو إنقاذ الوطن الذي يواجه لحظة من لحظات القدر التاريخية، التي قد تقوده إلى الخراب والدمار والتقسيم، أو إلى الازدهار والتقدم شرط أن نعرف كيف نقبض على هذه اللحظة. ولعل الخطوة الحاسمة للقبض على هذه اللحظة، هي إقدام الجميع ودونما تردد أو إبطاء، للمصالحة الوطنية تحت سقف ليبيا، مصالحة تضم الجميع ودون استثناء أو إقصاء أحد ودون شروط مسبقة، بحيث تنبثق عن هذا المصالحة هيئات وتشكيلات وبرامج سياسية جديدة، تؤسس لبناء ليبيا بعد انسحاب كل الأجسام السياسية التي عبثت بليبيا منذ سنوات خلت، وذلك انطلاقاً من الأسس التالية:

1- الإقرار بأن ليبيا تعاني من أزمة مركّبة من ناحية، وتواجه مؤامرة تهدد مستقبلها من ناحية أخرى، وكذلك فإن عدم الإقرار بوجود أزمة يجعل فعالية المؤامرة أكبر، وكذلك فإن تجاهل المؤامرة سيفاقم الأزمة.

2- إيقاف كل أشكال العنف وانتزاع أدواته من الجماعات والمليشيات والقوى التي تهدد أمن ليبيا، على أن يترافق ذلك بخطوات إصلاحية مفصلية وحاسمة تطول رموز الفساد في جميع المستويات لتعزيز مصداقية الدولة وهيبتها لدى المواطن، ولتخفيف مصادر التوتر والعنف وإضعاف احتمالات نشوب الأزمة مرة أخرى.

3- إن مواجهة الأزمة تقتضي اعتراف الجميع بالأخطاء التي ارتكبت، دون أن تكون هذه الأخطاء مبرراً لأحد للتعامل بسلبية، أو بعبثية مدمرة، أو مدخلاً لتصفية الحسابات لاحقاً، مع ضرورة تحرر جميع القوى الفاعلة في المجتمع الليبي من منطق: من ليس معنا فهو ضدنا، لأن هذا المنطق يقود إلى التناحر وإقصاء الآخر، حيث لم يعد ينفع بعد اليوم التمترس خلف مفاهيم إيديولوجية، أثبت الواقع عدم فاعليتها ولا جدواها، فنحن لا نستطيع اليوم حل الأزمة الليبية بمفاهيم سلفية أو أصولية، ولا بأوهام قومية رومانسية لاستعادة كيانات مندثرة، ولا بمنطلقات فكرية تشكلت منذ عقود، دون أن تخضع لمراجعة نقدية شاملة وجدية، ولم يتجسد أي من أهداف هذه المنطلقات في مشروع سياسي حقيقي، بل إن ما تجسد، ويا للمفارقة، هو ما يعاكس جوهر هذه المنطلقات، ويتناقض مع أهدافها!

خلاصة الكلام: اليوم ليبيا ـ وطناً ومواطنين ـ مطلوب منهم أن يعلنوا عن إيمانهم ببعضهم، وبقدرتهم على البحث عن السبل الكفيلة لإنقاذ ليبياً، وبإرادتهم المشتركة من أجل بناء وطن التعددية، والتداول للسلطة. إن ليبيا اليوم بحاجة ماسة إلى خريطة طريق لصحوة ضمائر، وأقفال ومفاتيح جديدة لأموال الريع النفطي، لأن (المال السائب يعلم السرقة) مع هامش جاد لبرنامج (امسك حرامي) ضمن منهج قضائي لا يوفر أي انتشال للمتورطين في الفساد، وعندها تكون الحلول السياسية في ليبيا قد وجدت ضالتها في معالجة كل مشاكل العوز وعدم العدالة...، ويحضرني هنا ما قاله الإمام علي، فقد سئل: من أحقر الناس؟ فقال: "من ازدهرت أحوالهم يوم جاعت أوطانهم"إن الشعب الليبي يملك من الوعي والإرادة والتصميم ما يجعله أقدر على حل مشكلاته والتخطيط لمستقبل أفضل فمتى البدأ...؟!‏