المتحدث عن ليبيا و صراعاتها و انقساماتها و الأطماع المحيطة بنفطها من كل جانب، يغفل أحيانا عن حجارة في هذه البلاد أغلى من الذهب، تاريخ و حضارة مطمورة في غياهب النسيان كما هي مطمورة تحت الماء و في قلب الصحراء  وما يظهر منها فإن مآله التخريب أو النهب في ظل الصراعات التي تؤجج المشهد العام لليبيا الحضارة و التاريخ. فالمتأمل في عمق التاريخ يرى سطوره تخط بوضوح على الرقعة الجغرافية الليبية بعشرات المواقع الأثرية التي طالتها يد التخريب و السرقة و الحرب و تؤكد تقارير عالمية لخبراء الأثار أن ليبيا تضم مئات المواقع الأثرية منها ماهو مطمور في البحر و منها ماهو في الصحراء الكبرى مفيدة أن 70 % من هذه الآثار و الكنوز التاريخية لم تكتشف بعد.
كانت ليبيا على مر التاريخ مطمعا للحضارات المتعاقبة نظرا لموقعها الإستراتيجي و ساحلها الممتد من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب،إضافة إلى مناخها المعتدل شمالا و خصوبة أراضيها."دفة" القارة السمراء مثلت محطة هامة و نقطة رئيسية لغزو باقي المنطقة المغربية منها و الإفريقية. فمرت على ليبيا حضارات كثيرة بداية من الفراعنة إلى الفينيقيين ثم اليونانيين والإغريق و الرومان إلى الحضارة الإسلامية ثم الاحتلال الإيطالي و غيرهم كثير، تاريخ حافل يروى لأعوام و أعوام. خلفت كل حضارة و حقبة أثارا كثيرة عبثت بها يد الحرب و التخريب و اغتالتها يد السارقين و المرتزقة و الإرهابيين حيث لم تسلم هي الأخرى كأغلب معالم ليبيا من مطامعهم و استغلالهم. مشهد مؤلم لكل من يطالعه و ينقب عنه و عن أهميته فكلما تعمقت في جمال الحضارة و التاريخ الليبيين إلا و طالعتك يد المخربين تعبث بتاريخ البلاد كما عبثت باستقراره.
تضم ليبيا خمس مواقع (شحات، لبدة، صبراتة، غدامس، أكاكوس) مسجلة على قائمة التراث العالمي و قد دعت بلديات التراث العالمي الخمس مؤخرا رفع مؤشر الخطر عن هذه المواقع، وهي شحات (قورينا) التي تقع شرق البلاد، تحيط بها مدينة شحات الحالية، على بعد 10 كيلومترات من مدينة البيضاء و التي يوجد فيها معبد الإله زيوس وهو أكبر معبد له في العالم كما تضم المدينة أكثر من 26 مرفقا بين المسارح والأسواق والحمامات والأقواس وغيرها. وحصلت شحات على جائزة أحسن مدينة سياحية في مهرجان لندن السياحي عام 2007. و لبدة وهي الأخرى من مواقع التراث العالمي لوفرة آثارها التي استدعت كبرى الجامعات العالمية للتنقيب فيها بأكثر من 100 بعثة جامعية، من دون أن تستطيع حصر ما فيها من كنوز أغلبها لا تزال مياه البحر تغمرها بالقرب من مينائها بمنارته الشهيرة، أما صبراته التي تعد من أجمل المدن الأثرية الليبية بمسرحها الدائري الذي أقيمت عليه عشرات الحفلات الفنية الدولية، وفيها كتب أول نص روائي في تاريخ الأدب العالمي وتقع غرب طرابلس بنحو 70 كم، تأسست على يد الفينيقيين، ومر على حكمها الوندال والبيزنطيين والرومان . و غدامس و التي تقع أقصى الغرب الليبي على الحدود مع الجزائر، صنفتها اليونسكو ثالث أقدم مدينة آهلة بالسكان في العالم، كما أنها تحتوي على رفات الصحابة الفاتحين وآثارهم، كالمسجد الذي أسسه عقبة بن نافع. 

تقول تقارير خبراء الآثار إن نقوشها تشير إلى وجودها قبل 10 آلاف سنة، ووصفها هيرودوت بأنها "مدينة لطيفة قديمة أزلية"، ومن أشهر مواقعها راس الغول، القصر مقدول،عين الفرس وبحيرة مجزم. أما مواقع أكاكوس، المرتفع الصخري ،الذي يقع جنوب غرب ليبيا، والغني بآلاف الرسوم الصخرية التي يعود أقدمها إلى 21 ألف عام ق.م. تقريبًا، ويمكن اعتبار أن أحدثها يرقى إلى القرن الأول ميلادي حسب اليونسكو.صورة 02-18
حذرت المنظمة العالمية اليونسكو باستمرار ومنذ بداية الصراعات من تدمير الثروة التاريخية الليبية إلا أنها تعرضت لأضرار بالغة أثناء الحرب كما تعرضت بعض قطعها الأثرية للسرقة و عانت من الإهمال و غياب الصيانة والترميم لبعض المعالم ما أدى إلى سقوطها إضافة إلى تدمير بعضها بحجج دينية و حتى استغلال بعضها لمصالح شخصية. أما النهب و التهريب فكان له النصيب الأكبر نظرا للقيمة المادية الكبيرة لهذه التحف التاريخية و إذا نجحت السلطات الليبية في إحباط بعضها إلا أم الكثير من القطع جاب العالم حسب تقرير للكاتبة الفرنسية فلورنس إيفن حيث عثر على أثار ليبية في تركيا و لبنان و إيطاليا و باريس و لندن و جنيف و حتى في إسرائيل و غيرها.
عمليات نهب و تخريب و تدمير واسعة النطاق لم تسلم منها المواقع المؤمنة عالميا فكيف ستسلم منها بقية المواقع و الآثار؟ آثار نحتت على امتداد أزمنة و أزمنة و كتبت بحجارة من ذهب تاريخ ليبيا العريق، تاريخ "يحتضر" اليوم تحت طائلة الصراعات و الحروب و يطمس معالم جميلة و آثار نادرة و يمحو بكل بساطة تاريخا كاملا و يشطبه بعبث فمتى ستضمد ليبيا جراحها و تلملم ثرواتها التاريخية منها و النفطية و البشرية أيضا؟